;
د. عبدالحميد الأنصاري
د. عبدالحميد الأنصاري

«الاعتراف بالأخطاء» الثقافة المغيَّبة 1440

2008-08-05 04:15:23

 

لأول مرة في تاريخ الحياة السياسية للعرب، يعترف رئيس دولة بفشل سياسته. لقد كانت شجاعة محمودة للرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة أن ينتقد في خطاب علني سياسته على امتداد (10) سنوات، ويقول إن المحصلة النهائية لتلك السياسات »سلبية« ولا تقود إلى »الجنة« الموعودة، ولذلك لا بد من »نقد الذات« و»المراجعة الجذرية«.

جاءت هذه الانتقادات العلنية غير المسبوقة في خطاب الرئيس الجزائري في العاصمة الجزائرية أمام رؤساء البلديات وأعضاء الحكومة، وقال »إن الجزائر أضحت بلداً معروفاً بالمخدرات والتراباندو (المضاربة) والآفات الاجتماعية«، في إشارة إلى استفحال الجريمة المنظمة والسرقة وجرائم الخطف والأنشطة الاستثمارية الطفيلية. وبطبيعة الحال لم يخل خطاب بوتفليقة من ذكر بعض الجوانب الإيجابية.

نقلت وكالات الأنباء هذا الخطاب ونشرته كل الصحف، لكنه مرّ بدون أن يحظى بالاهتمام الكافي. لكني أتصوره خطاباً »استثنائيا« في دنيا العرب، وغير مألوف على مستوى الممارسات والثقافة العربية، ومن هنا يكتسب هذا الخطاب أهميته، كونه »اعترافاً« من رئيس دولة، فنحن لا نعرف في المحيط العربي مسؤولاً سياسياً صغيراً أو كبيراً اعترف بخطئه! بل لا نعرف زعيم »حزب« سياسي أو »مثقفاً« أو »عالم دين« أعلن تراجعه عن توجهاته أو أفكاره أو فتاواه، حتى بعد تبين خطئها!!

»ثقافة الاعتراف« بالخطأ، ثقافة مهمّشة في المجتمعات العربية سلوكاً وممارسة رغم أنها من تعاليم الدين كما في قيم »التوبة« و»محاسبة النفس« و»النفس اللوامة«، لكن الثقافة المجتمعية السائدة همشت ثقافة »نقد الذات«، لصالح ثقافة »لوم الآخر« كونها الأنسب لمرحلة »النضال«! فأصبح من ينتقد السائد في الفكر والثقافة والتراث والسياسات العامة متهماً بالتآمر والعمالة، وارتبطت مفاهيم »الولاء« و»الانتماء« و»الهوية« و»الوطنية«، بأيديولوجية »النضال« لا »التنمية والبناء«.

محصلة »الفشل« في الجزائر، هي جزء من محصلة »الفشل« العربي عامة لكل مشاريع التنمية، فما هو حاصل في الجزائر، حاصل في كل المجتمعات العربية بدرجات مختلفة. لقد تراكمت الأخطاء وعجزت الحكومات العربية عن الإفادة من دروس الماضي واستمرت الممارسات السياسية الخاطئة على امتداد نصف قرن في ظل الحكم الوطني الذي هللت له الجماهير بعد رحيل المستعمر وتسلم التيار القومي السلطة، والذي انحرف عن أهدافه وتخلى عن وعوده للجماهير التي ساندته، إذ أصبح الحكم »مغنماً« للأنصار والمحاسيب و»تسلطاً« على الشعب.

التيار القومي جر الكوارث على الأوطان، ومع ذلك مازالوا يكابرون ولا يعترفون بأخطائهم، وها هو كبيرهم يطل عبر »الجزيرة« كل أسبوع مبرراً ومدافعاً عن تلك السياسات الفاشلة.

وما ينطبق على التيار القومي بوجهيه (الناصري والبعثي)، يصدق على التيار اليساري و»الإخوان« وقد صرّح مرشدهم من قريب بأن »الإخوان لا يعتذرون«. . سبحان الله من لا يعتذر، معناه أنه لا يخطئ! ومن لا يخطئ فهو فوق البشر!

لقد أفرزت أيديولوجية »النضال« فكراً شمولياً تسلطياً، جرّم أي نقد لمؤسسة الحكم ورجالاتها وتصرفاتها، بحجة أن ذلك يخدم العدو ويضعف الجبهة الداخلية. لكن ذلك أدى إلى تغييب ثقافة »المساءلة« والنقد والمحاسبة، وكانت النتيجة الأليمة أن نكبت مجتمعاتنا بسلسلة من الهزائم المنكرة وأخفقت كافة المشاريع التنموية، والأخطر من كل ذلك أن تغييب ثقافة المساءلة، أدى إلى إيجاد أرضية مجتمعية مهيأة لدعم قوى التطرف التي استطاعت تحويل قطاع من شبابنا إلى مشاريع جاهزة للتفجير والتدمير. . .

لقد كان نصف قرن من الفشل والضياع لكافة المشاريع العربية، والهدر لكل الإمكانات والفرص، وكانت المحصلة النهائية للطروحات الفكرية للتيارين العريضين: القومي والإسلامي السياسي، ثماراً مريرة وأوضاعاً متردية واقتصاداً مثقلاً بالديون، وعالة على المساعدات الخارجية في كافة المجتمعات العربية باستثناء الخليج.

لقد نجح التياران: القومي والإخواني في تكريس أمرين:

1-فكرة الزعيم أو القائد »الملهم« الذي يقود الجماهير إلى مهاوي الهلاك.

2-إشاعة ثقافة الكراهية والإقصاء والتخوين واتهام الخصوم السياسيين بأنهم »عملاء« للغرب.

ومن المدهش أنه بعد فشل التيارين في تحقيق أي إنجاز تنموي يعطي أملاً للجماهير العربية، وبعد سلسلة من العداوات الدامية والتصفيات الجسدية، أصبحا اليوم إخوة متحابين، يلتقون في مؤتمرات سنوية تحت مسمى »المؤتمر القومي الإسلامي« ليعيدوا إنتاج فكر ثبت عقمه.

وإذ لا أمل في أية مراجعة نقدية أو اعتراف بالأخطاء يقوم بها القوميون أو الإخوان، فلا بد للمثقفين، وخاصة الليبراليين، من جهد لتعرية الطروحات السياسية للقوميين والإخوان ومحاكمتها وتجاوزها، أملاً في غد أفضل للجماهير العربية، وفي إشاعة ثقافة »متصالحة« مع الذات ومع العصر والحضارة.

اعتراف الرئيس الجزائري بقصور سياسته، له أهمية كبيرة في محيط عربي تغيب فيه قيم »الاعتراف« بالأخطاء وتحمل »المسؤولية« و»نقد الذات«، وتنشط فيه منظومة ثقافية معوقة لأية مراجعة تصحيحية لمجمل الأوضاع والسياسات، من أبرزها ثقافة »الإنكار« التي ترسخت في البنية المجتمعية لا يكاد يفلت منها مسؤول سياسي أو ناشط حقوقي أو مثقف أيديولوجي أو عالم دين وأصبحت متمثلة في تلك الحساسية المفرطة تجاه أي »نقد« خارجي يمس وضعاً داخلياً.

فما إن يصدر تقرير لمنظمة حقوقية دولية يرصد انتهاكاً لحقوق الإنسان في دولة عربية، حتى تستنفر الدولة أجهزتها ومثقفيها للإنكار، ثم اتهام التقرير بجملة من الاتهامات المحفوظة، مثل »التسييس« و»الانتقائية« و»التحيز« و»استهداف العرب«.

على سبيل المثال: التقرير السنوي للخارجية الأميركية الذي يرصد ظاهرة الاتجار بالبشر في مختلف دول العالم، تضمن دولاً خليجية منها الكويت، ما إن صدر التقرير حتى فزع القوم وأنكروا واتهموا التقرير بالتدخل في الشأن الداخلي، ما مصداقية هذا الإنكار مع ما شهدته الساحة الكويتية من اعتصامات عمالية مطالبة بالإنصاف؟ وما مصداقية الفزعة العربية لنجدة الرئيس السوداني والعالم قد شاهد آلاف الضحايا يسقطون في دارفور بفعل القوات المدعومة من السودان؟!

لقد بلغت سطوة »ثقافة الإنكار« على النفسية العربية، أن رموزاً ثقافية ودينية مازالت متمسكة بنظرية أن »الموساد« وراء كارثة سبتمبر! ما قيمة هذا الإنكار أمام الاعترافات الصريحة؟!

ثقافة »الإنكار والمكابرة« إحدى إفرازات تغييب ثقافة »الاعتراف بالخطأ«، وهي التي دفعت رموزاً فكرية ودينية وقانونية لمساندة الطغاة وتبرير سياساتهم، مع تجاهل تام لضحاياهم، وهي التي دفعت قادة التيارات السياسية القومية والدينية إلى التشبث بأطروحاتهم التي تجاوزها الزمن.

«الاعتراف بالخطأ« فضيلة وقيمة أخلاقية كبرى، وغيابها الطويل عن الحياة السياسية، هو العلة الأساسية الكامنة في استمرار مسلسل الإخفاقات العربية.

* كاتب قطري

 

الأكثر قراءة

الرأي الرياضي

كتابات

كلمة رئيس التحرير

صحف غربية

المحرر السياسي

وكيل آدم على ذريته

أحلام القبيلي

2016-04-07 13:44:31

باعوك يا وطني

أحلام القبيلي

2016-03-28 12:40:39

والأصدقاء رزق

الاإصدارات المطبوعة

print-img print-img
print-img print-img
حوارات

dailog-img
رئيس الأركان : الجيش الوطني والمقاومة ورجال القبائل جاهزون لحسم المعركة عسكرياً وتحقيق النصر

أكد الفريق ركن صغير حمود بن عزيز رئيس هيئة الأركان ، قائد العمليات المشتركة، أن الجيش الوطني والمقاومة ورجال القبائل جاهزون لحسم المعركة عسكرياً وتحقيق النصر، مبيناً أن تشكيل مجلس القيادة الرئاسي الجديد يمثل تحولاً عملياً وخطوة متقدمة في طريق إنهاء الصراع وإيقاف الحرب واستعادة الدولة مشاهدة المزيد