;
سعاد محمد عبدالله
سعاد محمد عبدالله

أفواه ومخالب 2015

2011-01-24 03:58:54

                                               
    إن الذين يعملون في مجال الوظيفة العامة يجب أن يدركوا أن دورهم الأساسي هو خدمة الجماهير..وأنهم لايفعلون ذلك تفضلاً علينا وإنما هي مسؤولياتهم الوظيفية، التي يتقاضون عنها المرتبات ويفتحون بها البيوت.
لماذا تصر حكومتنا الموقرة على توزيع منحة القمح الإماراتي ؟ لماذا لا يوكلون تلك المهمة للمرافق والمؤسسات الحكومية التي يتبعها الموظفون حتى نضمن وصول الحق إلى كل ذي حق.. وحتى نقضي على ظاهرة الزحام وأسلوب المهانة المتبع في توزيع المكرمة القمحية.
    أقول ذلك بسبب موقفين : الأول : عشته والآخر شهدته.. منذ اليوم الذي استلمنا فيه أنا وصديقتي القسيمتين الخاصة باستلام كيس القمح أعطيناها لأختي وأبنائها الذين توفي والدهم قبل سنوات.. كنت أظن أن المهمة سهلة عليهم حاولت ثنيهم عن محاولات الحصول على القمح لكنهم صمموا على مواصلة مشوار القمح ..
    مرات عدة كانت تذهب فيها الأخت الكبرى لاستلام القمح فلا تستطيع العودة به بسبب الزحام الشديد الذي يمتد من باب المستودع إلى آخر الشارع.. وفي المرة الأخرى تذهب الوسطى.. وفي المرة الثالثة ذهبت الصغرى.. وهكذا إلى أن استقرت القسيمتان في يد وحيدهن الأخ / الأصغر للثلاث البنات والذي يعتبر نفسه رجل البيت على الرغم من صغر سنه لكنها حياة اليتم الذي يحرمك من طفولتك وينقلك من عالم الصغار المليء بالنقاء إلى عالم الكبار المشبع بالسواد والنفاق.
    وهكذا كان ابن شقيقتي دائم العودة دون أن ينال الهدف الذي خرج لأجله متجرعاً مرارة الهزيمة.. هزيمته كرجل صغير.. في المرات الأولى فشل في العودة بالقمح بسبب الزحام وفي المرات الأخيرة بسبب وعود كاذبة كانت تقول له: تعال بكرة!! ويأتي بكرة ولا يأتي القمح !! وعندما وجدوه مصمماً على أخذ حصته من القمح قرروا مصارحته وتوجيه صدمة قوية لقلبه الصغير قائلين له: ما فيش قمح.. فينك من زمان؟ لماذا لم تأت من قبل ؟ القمح (بح).
    جاءني مكسوراً.. آه لو تعلمون معنى أن ينكسر الإنسان.. أعاد لي القسيمتين المتآكلتين بسبب عرق يديه طيلة أشهر إمساكه بهما بقوة بكفه الصغير. أعادها هي وأجرة (التاكسي) الذي لم ينل شرف نقل قمح المكرمة إلى بيت الرجل الصغير.. أعادها بعد أن فقد ثقته بالكبار وحكومتهم.
    ? أما الموقف الذي شهدته قبل أيام والذي جعلني أكتب كل هذا يخص الخالة "آمنة" لكن اسمحوا لي أن أهدي هذا المشهد للمؤسسة الاقتصادية ـ فرع عدن لعل وعسى أن يغيروا ما بأنفسهم.
    آمنة التي تحكي تلك التجاعيد التي داهمت معظم ملامح وجهها إنها قد جاوزت الـ"60" عاماً. وإن تتفحص تقاسيم وجه الخالة آمنة تكتشف أن هناك مخزوناً هائلاً من الحزن يسكنها تحاول أن تخفيه تحت أنقاض ابتسامة اندثرت الكثير من معالمها.. وشظايا فرحة مكسورة تسكن عينيها مع آمال وئدت في مهدها.. تتوسط حاجبيها عند أسفل جبهتها بقايا وشم تعتريه بعض الخدوش يلوح كنقش سبئي لم يحسن التعامل معه.
    صوتها المشروخ حين أطلقت حديث شكواها يحمل في ثنايا نبراته سنين من العوز الممزوج بالفاقة، كانت تقف في تلك الباحة الواقعة في مبنى المحافظة.. تتابع بنظراتها كل المارين كانت تتفحصهم بدقة توحي لك بأنها تبحث عن شخص بعينه وكأنها تحتفظ بصورة مشوشة لملامحه.. تؤكد ذلك مثابرتها في شحذ ذاكرتها كلما تابعت أحد المارة.. تخذلها حيناً نظرتها البصرية حين تراها تهم باللحاق بأحد المارة لكن سرعان ما تتراجع عما همت به وكأن بها قد أدركت خذلان بصرها وتبين لها بأنها كانت مخطئة.. تتمتم بكلمات غير مفهومه ثم تتبعها بمسحة غضب تكسو وجهها لعلها كانت تتمتم قائلة : (يخلق من الشبه أربعين) بالمناسبة يسهل لمن ينظر إلى "آمنة" أن يقرأ كل انفعالاتها ـ دون حتى أن تنطق ـ من تقاسيم صفحة وجهها الذي تبدو تعابيره واضحة كوضوح اللوحات الضوئية ، ربما كانت تردد في داخلها قائلة : (قد يحضر الأربعون شبيهاً قبل أن يحضر هو) كانت آمنة تنتظر من قالت: إنه المسؤول عن توزيع القمح الذي وزع مجاناً على موظفي الدولة عرفت ذلك بعد أن اقتربت منها إلى حد يسمح لي بسماع صوتها.
     دست يدها في كيس بلاستيكي قديم بانت عليه بوضوح آثار كثرة استخدامه وكثرة بقائه معها من خلال بعض أجزاء صورة المنتج المعلن عنه على الكيس لم تطل البحث عما أرادت إخراجه لتظهر لي القسيمة التي يتم بها استلام كيس القمح الإماراتي وهي تمد لي تلك القسيمة كالت كثيراً من الدعاء على من قالت: إنهم اختطفوا اللقمة من فم أحفادها الأيتام .. تمكنت من التقاط ما دعت به .. خلت لو أنها قد وجهت نصف ذلك الدعاء على جبل شمسان لرأيته قد تبعثر في غمضة عين.. قالت الخالة آمنة : إنها تعول أحفادها الخمسة بعد أن مات أبوهم ..كانت القسيمة التي تحملها أمنة قد حصلت عليه من جارها الموظف في إحدى المؤسسات الحكومية : قالت : إنه يتبرع لها بالقسيمة كل عام. كانت تحمل معها بطاقته الشخصية .
    قالت : في الأيام الأولى كانت تمنعني الزحمة من الوصول لاستلام كيس القمح.. بعد ذلك ظلوا يماطلوني في بالمواعيد من أسبوع إلى آخر ليفاجئونني بعدها بأنهم قد انتهوا من توزيع القمح! لم تكن آمنة وحدها التي صادروا حقها بل هناك الكثيرون غيرها .. كما أن موظفي بعض المرافق أكدوا أنهم جاءوا لاستلام حصتهم من القمح ليكتشفوا أنها قد بيعت وحين هددوا بعدم السكوت وتصعيد الموقف .. أجبروهم على استلام مبلغ ألفين ريال بدلاً عن كيس القمح التي تصل قيمته إلى "4" آلاف ريال.
    كم من معدمين أمثال آمنة انتزعت اللقمة من أفواه أبنائهم وأحفادهم وغرسوا في قلوبهم الغبن والقهر .. أولئك الذين احترفوا مهنة إفساد كل الأعمال الطيبة ويسعون جاهدين لتوسيع مساحات القبح في حياتنا .. اعتادوا أن يفسدوا كل مكرمة حكومية سعياً لإشباع طمعهم ونهمهم للمال دون النظر لنظافة أو قذارة مصادر الحصول عليه.
    صادروا حلم آمنة للحصول على كيس القمح الذي كان يكفي لسد رمق جوع أحفادها الخمسة لشهر أو أكثر .. غيروا اتجاه سيره ليتحول إلى رقم يضاف إلى رصيد أحدهم في أحد البنوك بدلاً من وصوله إلى أفواه الأيتام الذي توعد المولى عز وجل بأشد العذاب لمن يقترب من أموالهم.
    لم ولن أنس تلك اللحظات التي غادرت فيها الخالة آمنة ساحة مبنى المحافظة لحظة إدارت ظهرها تاركةً المكان وحلم الحصول على كيس القمح .. راقبتها مغادرة وقد أدارت ظهرها رافضة مهانة البقاء مثل ذلك الرفض الغاضب الذي كنا نراه في إدارة ظهر (حنظلة) تلك الشخصية الكاريكاتيرية التي ابتدعها الشهيد (ناجي العلي) في.. رسوماته حاولت أن أقنعها لتعود حتى أسمع منها بعض التفاصيل الأخرى لكنها أبت العودة .. شعرت لحظتها بأنه لو اجتمعت كل القوة التي تسكن هذا العالم لن تستطيع إجبارها على الالتفات .. كانت آمنة تخفي دمعة قهر في عينيها تأبى أن يراها أحد وتأبى أن تسقط إلا على أرض بيتها الصغير الذي طالما تبلل بدموع آمنة.
    غادرت آمنة بخطى متثاقلة رأيتها تقطع الشارع كشبح غير عابئة بأبواق السيارات المارة .. اجتازت الشارع لتصل إلى رصيف الضفة الأخرى فيبتلعها ذلك الزحام فتتلاشى كشعاع من نور .. اختفت آمنة.
    
لحظـــــة:

حتى أزيل طعم الانكسار من حلق وقلب ابن شقيقتي وحتى أعيد له ثقته بالمسؤول اليمني وهذا ليس حباً في المسؤولين وإنما حباً في ابن شقيقتي وحتى لا أجده يوماً إرهابياً أو متطرفاً دينياً أو مشاركاً في إحدى المظاهرات المنتشرة أيامنا هذه خاصة أن المشاركين فيها هم الأطفال والمراهقين .. وضعت مبلغاً من المال (ثمن القمح) في ظرف عليه اسم المرسل مع الاعتذار للمستلم صاحب القسيمة رقم كذا وكذا .. ولكن تبقى الخالة آمنة من سيعيد لها ثقتها بالحكومة اليمنية ويخلصها من مرارة طعم الانكسار الذي تعيشه.

الأكثر قراءة

الرأي الرياضي

كتابات

محمد الجماعي

2024-05-06 23:20:44

"فسيلة" الزنداني؟

كلمة رئيس التحرير

صحف غربية

المحرر السياسي

وكيل آدم على ذريته

أحلام القبيلي

2016-04-07 13:44:31

باعوك يا وطني

أحلام القبيلي

2016-03-28 12:40:39

والأصدقاء رزق

الاإصدارات المطبوعة

print-img print-img
print-img print-img
حوارات

dailog-img
رئيس الأركان : الجيش الوطني والمقاومة ورجال القبائل جاهزون لحسم المعركة عسكرياً وتحقيق النصر

أكد الفريق ركن صغير حمود بن عزيز رئيس هيئة الأركان ، قائد العمليات المشتركة، أن الجيش الوطني والمقاومة ورجال القبائل جاهزون لحسم المعركة عسكرياً وتحقيق النصر، مبيناً أن تشكيل مجلس القيادة الرئاسي الجديد يمثل تحولاً عملياً وخطوة متقدمة في طريق إنهاء الصراع وإيقاف الحرب واستعادة الدولة مشاهدة المزيد