منذ ما يزيد عن عقد من الزمن قدمت إلى معهد البيحاني معلماً ، حينها شعرت بغير قليل من السعادة وأنا أتجول بين أروقته وممراته المتباينة وأستحضر تلك الشخصية العظيمة وأتخيله باسماً متهللاً في غمرة من المريدين وطلاب العلم ، وحيناً يخيل إلي أنني بين يدي الشيخ الذي أحببته منذ الصّبا حين كان والدي يترنم برباعياته وأشعاره العذبة وينثر على مسمعي درر حكمه ووصاياه فأحفظها لحوناً شجية نشدوا بها سوياً على سطح دارنا العتيقة قبيل الغروب ، وفي معهد البيحاني شعرت بضمأ شديداً للمزيد من علومه وحكمه فانطلقت أبحث عن غدير يروي ظمئي حتى وجدت ضالتي في مكتبة عريقة جمعت بين القديم والحديث وعلى جانب منها تنزوي كتب ورسائل خاصة بالإمام البيحاني لم تر النور بعد وبعضها لازال مخطوطاً باليراع لم يجد سبيلاً إلى دور النشر، حينها زعم القائمون عليها أنهم بصدد وضع آلية لطباعة تلك المؤلفات ونشرها إلاّ أنهم لم يفعلوا شيئاً يذكر ، ودهشت كثيراً عندما علمت أن المكتبة ظلت مغلقة منذ رحيل الإمام عنها حتى ذلك الحين بيد أنها ظلت مصانة ولم تتسلل إليها يدٌ عابثة ، وحين احتضنت النور لفترة وجيزة وأعلنت عن وجودها وأشرعت أبوابها، ورد إليها القاصدون عطشى يحتسون من معينها العذب الزلال كتابٌ وباحثون أكاديميون وأدباء ومؤرخون.
 أما عن نفسي فقد تزاحمت في رأسي الخواطر وأمعنت التفكير ما الذي يمكنني أن أقدمه لهذا الرجل العملاق، وبحكم اختصاصي في مجال الإعلام رست أفكاري على ضفافه فعزمت على إعداد فلم وثائقي عن هذا العلم الأشم ، عند ذلك أسرعت إلى المكتبة لآخذ منها ترجمة كافية عن الإمام وكانت دهشتي كبيرة حين وجدت المكتبة مغلقة منذ فترة طويلة ولربّما قد استوطنت فيها العناكب بل صعقت أكثر حين علمت أنها لم تعد سوى رسماً لميراث مفقود أو بقايا فتات لا يشبع نهم جائع أو كموميا مرمية على قارعة الطريق يعبث بها الصبيان ،لم استوعب كيف حدث ذلك هل تسللت أصابع الجهل والغباء على حين غفلة، أم أنها قد توارت خلف أستار السديم، لا أتصور هذا أن أشقى الأشقياء من يسطو على العلم ميراث الأنبياء، إذاً من المسؤل ؟ لا مسئول ! لقد تعاقبت على ذلك المعهد إدارات متعددة وبين هذه وتلك ربما استمرأ بعض الجهال السطو عليها علّهم يلمسون من ورائها ما يسمى (حق القات) أو شيئاً من الفتات، أما نحن كقراء وباحثين فمن واجبنا أن نطالب المعنيين في الأمر بتقصي الحقيقة والاهتمام بموروث ذلك العلم الذي كان مفخرة للوطن والأمة، فلربما يجد طريقاً إلى النور، أو تجد تلك الكتب حفاوة في إحدى الدور .