;
محمد العصيمي
محمد العصيمي

الثورة والهوية 1206

2013-04-18 17:47:59


عادة ما يُربط قسراً ذكر الزبيري وثورته بالشعر, لدرجة تصل حد الغبن أحياناً, خصوصاً إذا كان ذلك على حساب الإرث الثوري والرصيد النضالي اللذين امتدت إليهما يد الفساد واعملت مداها فيهما لعقود بغية طمر الحقيقة فيما يشبه رد ضياء الشمس بوهن الأصابع.
طويلة حقاً قائمة شهدائنا نحن شعوب المنطقة, وقليلة حقاً تلك الأقلام التي تتحرى الإنصاف والصدق والتنوير, لا الارتزاق والمراهقة ولو على حساب الناس ومقومات الأوطان وإرث الأمم, ولا أعتقد أن من عُنونت باسمه هذه الورقة, أزهق حبر قلمه قبل دمه ليرى أدباً وفكراً كالذي يلوث أكشاكنا اليوم, ولا اظنه بثورته وعلمه وأدبه ونضاله, كان يحلم لأحدنا بأن يتجرع اليوم- كل يوم- كل هذا الكم المقرف من البغاء الكتابي والسفاح الصحافي.
لا أظن أن الفساد الذي نخر كل شيء حتى المزابل وروث الدواب, قد استثنى إرثنا وذكرى شهدائنا ورموزنا, كيف نبكي كُتّاباً وأدباء ونخبويين لا يملكون أدنى ما يؤهلهم لنيل تلك الألقاب, وهم أول من اُستُهدِف قبل الجميع ومنذ اليوم الأول لولادتهم, تحديداً يوم قتل الزبيري., لم يغتل الزبيري لأنه كان ( يكره الإمام ), بل لأنه كان ( يكره الإمامة).. مشروع الفساد والإفساد الذي قوضته صدور الشباب اليوم, بدأ منذ ذلك التاريخ, مستهدفا أول ما استهدف عقل الأمة, ثقافتها وهويتها.
ليس الشعر وحده هو من جعل محمد محمود الزبيري محمد محمود الزبيري, وليس لأنه كتب للثورة وعن الثورة, وليس لأنه كان خطيباً ومفكراً وروائياً, وليس لأنه استشهد.. وليس كل هذا هو ما يجدر بنا سؤاله في كل مناسبة تذكرنا به.. ليس ذلك كله مجتمعاً يحتاج لأن نتذكره أو نتذكره.. في هذا المقال على الأقل.. وفي ظروف محلية كالتي نعيشها اليوم.. في هذا التوقيت العربي و العالمي بالذات .. ربما يجدر بنا سؤال: لماذا صنف الزبيري إسلاميا؟ لماذا لم تعلن أي جهة أحقيتها به سوى الإسلاميين؟ ولماذا لم يمانع التاريخ هذا الإعلان؟..
ربما يتوجب علينا , للوصول إلى ما يشبه الإجابة هنا, العودة إلى تفاصيل وشواهد كثيراً ما تغفل أو يُتغافل عنها.
لا يخفى أن البلاد وقت استشهاد الزبيري, كانت في مهب ريح تتجاذبها من أقصى اليمين إلى اقصى اليسار, وأن ما من أحد إلا وفرض عليه أن يتمرجع بإحدى المرجعيتين العالميتين وقتئذ. ومن الواضح أن الزبيري كان على وعي تام بما يجب أن يكون عليه الثائر, إن كان بثورته يقصد حرية مطلقة بالمعنى الألسني المتداول لا الفلسفي المطاط.. حرية وطن.. حرية غير منقوصة أو مجيرة من خلف ستار, حرية لا مكان معها وبها لأي وصاية أو إملاءات من أي نوع.. وقد كلفه هذا الحلم الحرون أبهظ الأثمان.. ولكن ما علاقة ذلك بدعوى إسلامية الزبيري؟.

وقبل أن نتنطع بمفاهيم كالحرية والديمقراطية وحقوق الانسان وغيرها مما اعتدنا تلقيه وترديده نحن الشرق دونما وعي تام أو حتى دراية, فنحيلها دوماً إلى شعارات يعتاش عليها المرتزقة أو أسواق يبتزنا بموجبها اللصوص وتجار المواقف, حري بنا قبل هذا, أن نتساءل حول معنى المشروع السياسي, المشروع السياسي الحضاري الواعد, مشروع حقيقي أصيل.. ما معنى دولة ذات سيادة مرجعيتها ذاتها؟ أمة حرة بشعوب متحررة منعتقة من كل الإملاءات والوصايات؟..
المسألة ليست ورق و فلم ورموز نضالية وأسماء و شعارات ووصفة من نوع معين لإضافة نكهة لطبخة سياسية نقدر نسميها مشروع سياسي يقود أمة . أبسط مشروع سياسي لا يكون غاية في الأصل وإنما نتيجة.. المشروع السياسي, كما أراه أنا بقراءتي المتواضعة, ليس إلا مُخرَج تطبيقي عملي , يأتي بعد مرحلة تنظير عميقة لفلسفة( أو ايدلوجيا ) عليا تبدأ أولا وقبل كل شيء, بحل إشكالات الفرد الجوهرية المتعلقة بوجوده والعالم من حوله, ثم رؤية شاملة ومقنعة ومتوازنة تدين لها رقاب السواد من الناس ليتدافعوا بعدها كأنها الخلاص.. بل وان التصور المبدأي على مستوى النظرية نفسها في الحكم و الدولة لم يكن عبر التاريخ إلا نتيجة لفلسفات وايدلوجياً تسبقها وتمهد لها, حتى العلمانية نفسها.. أليس ميثاق الأمم المتحدة ملخصاً لرؤى ودعوات وتوصيات روسو وفولتير وغيرهما؟.
في ساحاتنا الثورية اليوم, وبعد ما يزيد عن نصف قرن من رحيل من استشهدوا يحلمون بأحفاد يستحقونهم, يعزف العازفون ممن أشرنا أول المقال على أوتار لا تنتج غير الفوضى والتشكيك والتشتت.. (الإسلاميون حصدوا الربيع العربي.. اللقاء المشترك باع دم الشهداء بنص ثمن)..
 يا جماعة هناك فرق بين أن نقوم بفعل ثوري وأن نقدم مشروعاً سياسياً, وإن جاز القول أن صفقة ما تم خلالها بيع و شراء بدم الشهداء, بعد اغتصاب مؤزر للثورة من قبل جهة معينة , فالعيب في من اُغتصبت ثورته لا في من اغتصبها.. المشكلة تكمن في الرؤية/ المشروع/ الحراك السياسي الذي لم تتمكن قوى الثورة المستقلة - الشبابية تحديداً- من إيجاده وتأطيره أو حتى تصوره, وهي معذورة في ذلك لغضاضة تجربتها السياسية وافتقارها لمقومات القيادة بالمعنى السياسي و الإداري لا بالمعنى الثوري الذي يختلف تمام الاختلاف, سواء في الأداء أو المؤهلات.. إن طفو الإسلاميين لم يكن وفقاً لمؤامرة دبرت بليل أسود في بيت أبيض, و إنما نتيجة حتمية لخلو الساحة من أي مشاريع حقيقية وأصيلة بعد تراجع أخرى أصيلة وحقيقية أيضاً (أو بعد أن تم أجلاؤها من المشهد) كالقوميات الاشتراكية مثلاً.. ثم إن المشاريع التي مثلتها الأنظمة العربية المهترئة لم تكن لتقدم شيئاً ولم تكن حتى مشاريع حقيقية, بل وان بقاءها كل تلك العقود لم يكن إلا بحبل من الغرب وحبل من الشيطان, ذلك أنها لم تمتلك أي مقومات ولا أدنى رؤى ولم تنطلق من أي مرجعيات فكرية سوى تلك التي تأتي معلبة بعد التكرير وإضافة المواد الحافظة..
أولئك الذين لوثتهم أيدي الجهل فصاروا معاول له, ومعهم كل من لم يقتنع بعد بمخرجات الربيع العربي , فتراه يوما ينعت شباب الثورة بــ (بندق العدال) ويوماً يشكك في مكونات الثورة, وأحياناً يترحم على زمن النظام الجميل, وأحياناً أخرى نادرة يدعي الاتزان والإنصاف فيقرر بهدوء وثقة يبعثان على الرغبة في القيء: لسنا ضد الإسلام وإنما الإسلام السياسي.. فقط أنصحهم جميعاً هنا, أن بدلاً من هذا كله , قدموا لنا مشروعاً, أو حتى إسهاماً في مشروع فكري متكامل نجد فيه من الأصالة و الفرادة ما يدفعنا خلفكم دفعاً.. تصوروا حلاً لأزمة انسان العصر الوجودية , وسترون أن الجماهير ستأخذ طائعة محبة بأي تصور سياسي تزكونه انتم.. اقنعوا مليارات البشر في العالم العربي والإسلامي أن يغادروا الجوامع ويهجروا ماضيهم ويبدلوا مبادئهم وقناعاتهم, كما فعلت أوروبا عبر قرون التنوير, وسترون أنهم سيقومون هم عنكم بالسباب والقدح و التخوين والنيل من كل من لم تعجبكم رؤاهم ولا تطيقون حقيقة أنهم - قبل أن يسلبونا ثورتنا افتراضا– سلبوكم عنوة دوركم في الريادة والتغيير.
ينظر البعض, سواء اعجابا أو تحفظا, الى الحالة التركية على أنها نموذج للصحوة الإسلامية, ومؤشر على حيوية الموروث وامكانية عصرنته, الأمر الذي دفع بالكثيرين إلى التبشير بعلمانية إسلامية.. وعلى ما في هذا الطرح من تفاؤل, غير أن الحالة التركية تبقى هي أيضا نتيجة لغياب مشاريع ناجعة بديلة.. نتيجة حتمية لفشل عالمي وعولمي كبير, ضاعف من حدته ذلك التمسك العجيب بالموروث والالتصاق السيامي لشعوب المنطقة بماضيهم و ثقافتهم.. ببساطة أكثر, حتى في أرقى صور الديمقراطية وعبر أنقى التجارب السياسية وأصدق النماذج العلمانية وأكثرها شفافية حتى من تلك التي في دول المصدر نفسها, سوف لن تتمخض صناديقكم إلا عن أردوغان أو نسخ متعددة منه, ربما نجدها قريبا بلحى وعمائم وربما بشيلان وجنابي.. عليكم أن تسلموا بأن العقل العربي فشل في احلال غيره مكانه, ناهيك عن فشله الذريع في ايجاد فلسفة تُرحل من وجدان الناس ماضيهم وتلهيهم ولو مؤقتاً عن هويتهم وثقافتهم.
وباختصار, إذا كان المقصود مشروعاً سياسياً يغير كل ملامح الماضي, ولو حتى عبر مغامرة علمانية تفضي الى ما يشبه الانتحار الثقافي والتاريخي الشامل, فان هذا بتصوري ضرب من المستحيل.. لأنه حتى وان انطلقنا من العلمانية فأقصينا الأديان, متجهين صوب عالمية عولمية تشطب الثقافات والموروث, بل وحتى إن وصلنا نهاية التاريخ قبل فوكي ياما نفسه و يتوبيا الثقافة الكونية وعالم القرية الواحدة ذي اللغة الواحدة .. أين سيذهب الشرق بربعهم الشرقي من السلم الموسيقي.. أين سيذهب العرب بأوتار العود واليمنيون بزاملهم ومزمارهم.. ما مصير كل شيء لا يروق احد سوانا ولا يروق لأحد سوانا.
إن أي معركة يخرج منها العربي منتصرا على كل الوصايات والإملاءات, سوف لن تسفر إلا عنه بماضيه و هويته , بتاريخه وثقافته , بإسلامه وعروبته, فما دام يبحث عن مشروع يعبر عن ذاته هو, فإنه لن يجد مندوحة عن استلهام هويته كمرجعية لذلك المشروع, وإلا فإنه سيظل ذلك المقلد.
إننا إن حاولنا المضي في ثوراتنا هذه وربيعنا العربي هذا, فإننا لن نجد بدا من مناوأة كل وصاية ومقاومة أي ارتهان, ولن نجد مخرجا لذواتنا إلا في ذواتنا, وحينها.. فإن مشاريعنا, إن أردناها صادقة, فإنها لن تتلكأ في البحث عن هويتها في هويتها, والتي, حتما وجبرا, سوف لن تكون غير إسلامنا وعروبتنا.
عودة الى موضوعنا, الزبيري صُنف اسلاميا لأنه أصر على التنصل من كل ما هو دخيل وانطلق ينشد حلما بحرية يكون بها الوطن والمواطن صاحب مشروعه ومرجعية ذاته, وأي مشروع ذاك الذي لا تكون مرجعيته من هويته ولا يُحتسب فيه ماضيه وثقافته؟ لم يكن صلاح الدين الأيوبي يحتاج الى تنظيم معين ولم يكن ينتمي الى حركة بذاتها, فقط كان ينتمي لذاته, ماضيه, ثقافته.. إجمالا هويته, وليس في الإسلاميين من امتياز عن كل من في الساحة اليوم, سوى شرف السبق الى ذلك, وفضل الاصطبار على كل ما شُن ضدهم كل تلك العقود الطويلة في هذا السبيل.

الأكثر قراءة

الرأي الرياضي

كتابات

كلمة رئيس التحرير

صحف غربية

المحرر السياسي

وكيل آدم على ذريته

أحلام القبيلي

2016-04-07 13:44:31

باعوك يا وطني

أحلام القبيلي

2016-03-28 12:40:39

والأصدقاء رزق

الاإصدارات المطبوعة

print-img print-img
print-img print-img
حوارات

dailog-img
رئيس الأركان : الجيش الوطني والمقاومة ورجال القبائل جاهزون لحسم المعركة عسكرياً وتحقيق النصر

أكد الفريق ركن صغير حمود بن عزيز رئيس هيئة الأركان ، قائد العمليات المشتركة، أن الجيش الوطني والمقاومة ورجال القبائل جاهزون لحسم المعركة عسكرياً وتحقيق النصر، مبيناً أن تشكيل مجلس القيادة الرئاسي الجديد يمثل تحولاً عملياً وخطوة متقدمة في طريق إنهاء الصراع وإيقاف الحرب واستعادة الدولة مشاهدة المزيد