;
د. حميد عمر
د. حميد عمر

حرب الأشقاء في اليمن الجنوبي..أول اختبار لجورباتشوف 1766

2014-01-14 12:44:21


لم يكن يخطر على بال أحد بأن توقف بث راديو عدن وانقطاع كافة الاتصالات عبر التلكس والهاتف باليمن الجنوبي، كان بمثابة إنذار ببداية أحداث كادت تعصف بكيان الجمهورية الماركسية الوحيدة في الوطن العربي, حتى يوم الاثنين الموافق 13 يناير 1986م حين عاش هذا البلد الصغير الذي يتحكم بمنفذ البحر الأحمر في جنوب الجزيرة العربية ثلاثة عشر يوماً من الاقتتال المروّع، مثلت إختباراً حقيقياً لميخائيل جورباتشوف في مطلع حكمه.

وإذا كان المنتصرون هم من "يكتب التاريخ" اليوم، فنحن مع ذلك مطلعين على الظروف التي أدت في نهاية المطاف إلى تناحر فصيلين ماركسيين متصارعين منذ سنوات طوال, ففي 13 يناير تصدّر القتلُ اجتماعاً للجنة المركزية للحزب الإشتراكي اليمني، حيث أطلق حارسان شخصيان للرئيس الجنوبي/ علي ناصر محمد، نيران أسلحتهم الرشاشة صوب علي عنتر، أحد الزعماء المعارضين، وصوب/ عبد الفتاح إسماعيل- رئيس الدولة الأسبق- وذلك عقب أشهر معدودة بعد عودته من منفاه الطويل في موسكو.

الحادثة هذه كانت مقدمة لمذبحة نجا منها عبد الفتاح إسماعيل، وعلي سالم البيض، أمين عام الحزب الحالي، ومساعده سالم صالح, وما إن انفجر الصراع -الذي كان مبيّتاً منذ أربع سنوات بين قادة اليمن الجنوبي- حتى احتدم القتال وانهالت القذائف على عاصمة هذا البلد الصغير ذي الـ 2,2 مليون نسمة والذي نال استقلاله في نوفمبر 1967م. تركزت المواجهات في منطقة خور مكسر حيث تتواجد مقار السفارات بما فيها السفارة الروسية التي لم تكن بمنأى عن ذلك بل على العكس، فقد طال التدمير المدينة السكنية التي يقطنها الخبراء الروس.

أُعتبرت هذه الحرب من وجهة النظر الرسمية كمواجهة بين أنصار عبد الفتاح إسماعيل وعلي عنتر، الذين يعتنقون الماركسية كعقيدة إيديولوجية من جهة وبين الماركسيين البراجماتيين "النفعيين"، من أتباع الرئيس علي ناصر من جهة أخرى. وفي حقيقة الأمر، لم تكن هذه الحرب سوى غطاء لصراع دامٍ من أجل السلطة، ولا تمت بأية صلة للأيديولوجيا أو للسياسة, فهؤلاء القياديون الثلاثة هم رفقاء سلاح منذ الستينات أثناء مقاومة الاحتلال البريطاني, وما إن وصلوا إلى سدة الحكم بانتصار الفريق الموالي للاتحاد السوفيتي في عدن عام 1978م حتى نشأت بينهم علاقة تنافسية, كانت هذه الخصومات الشخصية من القوة بحيث أدت عام 1980م إلى إقصاء عبد الفتاح إسماعيل المنظّر الإيديولوجي للنظام عن طريق النفي الطوعي والقيام بعمليات تطهير حثيثة، لكنها لم تكن حاسمة لأنها لم تطل علي عنتر ذلك الرجل القوي الذي كان يمثل جناح القبائل التي تشكل البنية التقليدية للمجتمع في اليمن الجنوبي، ما مكنه من قيادة معارضة فعلية ونشطة ضد الرئيس علي ناصر محمد, أدت مطالبة عدد من مسؤولي الحزب بعودة عبد الفتاح إسماعيل المنظر الرئيسي للحزب من منفاه في الاتحاد السوفيتي إلى تأزيم الموقف, وهذا يُظهر بجلاء مسؤولية الاتحاد السوفيتي الفعلية في اندلاع مواجهات يناير, وسواء وافق السوفييت على عودته أم خططوا لها، فقد تقمصوا بعملهم هذا دور من يتدرب على السحر, حتى لو افترضنا جدلاً بأن عودة عبد الفتاح إسماعيل ترجع أساساً للضغوط التي مارسها علي عنتر والمعارضة داخل الحزب الاشتراكي، ألم يكن بمقدور الكرملين إعادة هذا الماركسي المخضرم إلى المشهد قبل ذلك الوقت لتلافي "انحراف" علي ناصر إيديولوجيّاً.

 وفي واقع الأمر، نهج علي ناصر وبمساندة سوفيتية سياسة "انفتاح" تجاه الأنظمة العربية "المعتدلة" في المنطقة وكذا مع الدول الغربية, ولو كان الأمر غير ذلك لكان بإمكان موسكو أن تجد في عبد الفتاح إسماعيل "السياج المنيع" الذي يحول دون تحول جنوب اليمن من دولة "تابعة" إلى نظام "عربي تقدمي".

ومع ذلك كان كل شيء يوحي بأن الكرملين قد تفاجأ "بأحداث" يناير، رغم معرفته بخطورة الوضع، فقد سبق وأن كانت البلاد على شفا حرب أهلية فعلية في عام 1984م حينما عاشت عدن أجواء بيروتية لعدة أسابيع، حيث تمترست ميليشيات كل فريق خلف أسلحتها متأهبة للاقتتال, ومن باب المفارقة، شكل "توازن الرعب" هذا حائلاً دون القيام بمحاولة انقلاب، وأفضى إلى استئناف الحوار وانعقاد مؤتمر الحزب الاشتراكي في أكتوبر 1984م انتهى الأمر برضوخ قادة عدن "للضغوط الخارجية" من قبل المملكة العربية السعودية -التي لم تتخلَ يوماً عن أطماعها في حضرموت- ومن قبل اليمن الشمالي الذي حشد ما يقارب 4500 معارض مسلح على الحدود بين شطري اليمن, وفي نهاية عام 1984م وصل القادة الجنوبيون إلى قناعة بأن اندلاع مواجهات مسلحة فيما بينهم ستكون بمثابة مخاطرة قد تودي بالنظام برمته

عمل السوفييت على منع اندلاع مواجهات مسلحة لإدراكهم خطورة انفجار الوضع, وقد توجه جورج حاوي، أمين عام الحزب الشيوعي اللبناني إلى عدن في خضم موجة جديدة من القصف على لبنان، في محاولة أخيرة للوساطة قبل اندلاع المواجهات بأسبوع, وقد حذرت موسكو في رسالة موجهة لقادة اليمن الجنوبي في نهاية 1984، من مخاطر "التدخل الأجنبي" لدول الجوار التي لم تستسغ أبداً وجود نظام ماركسي على أبوابها، ومبدية لهم عدم حماسها في الإسراع لنجدتهم كون " اليمن الجنوبي، ليست بولندا، أو أفغانستان" ودعتهم إلى التعقل وإلى "الوفاق الوطني".

 والجدير قوله بأن للكرملين أسباباً قوية للحفاظ على استقرار اليمن الجنوبي وتقديم الدعم لعلي ناصر، كونه يروج أكثر من أي زعيم عربي آخر للسياسة السوفيتية في الخليج, وقد لوحظ ذلك وعلى نطاق واسع من خلال الدعم الاستثنائي الذي خص به السفير السوفيتي علي ناصر أثناء البث المتلفز لمؤتمر الحزب الاشتراكي الذي عقد في أكتوبر 1985م. ومن الصعب علينا في هذه الظروف معرفة مغزى الاتحاد السوفيتي من التخلي عن عبد الفتاح الذي دعمته بكل ثقلها، سوى قناعتها بسياسة الانفتاح التي دشنها على ناصر، بعد أن أجبرته الأزمة الاقتصادية التي تعاني منها بلاده، على البحث عن المساعدة ليس فقط من موسكو، بل أيضاً من الدول العربية "المعتدلة" ومن الدول الغربية، وأضطر إلى فتح عدن أمام رؤوس الأموال العربية والغربية.

هذه السياسة "الواقعية" و "المعتدلة" مثلت واجهة مقبولة لشيوعية المشرق في المنطقة، رغم إخلالها بالتوازن بين العاصمة وبين المحافظات الأخرى، ودفعها لحركة الهجرة الداخلية صوب مدينة عدن, زد على ذلك بأن وجود نظام ماركسي خالص في اليمن الجنوبي، وغير مرغوب فيه من قبل جيرانه في السعودية وعمان واليمن الشمالي، جعل من علي ناصر ضالة الكرملين لطمأنة هذه الدول من نوايا السوفييت، وبما يمكنهم في حقيقة الأمر من مواصلة سياستهم التوسعية في الخليج خاصة بعد تطبيع علاقاتهم مع دولة الإمارات العربية المتحدة وسلطنة عمان, هذا الطرح قد يفسر موافقة السوفييت على عودة عبد الفتاح إسماعيل إلى عدن، لرغبتهم في إظهار أنه لم يعد "رجُلهم"، تجنباً لإثارة الشكوك حول نواياهم الحقيقية في المنطقة بسبب تواجده في موسكو.

لا ريب في أن السوفييت تفاجأوا بحجم الاقتتال وشراسته، وأرادوا قبل كل شيء الحفاظ على مصالحهم، واحترام اتفاقية الصداقة والتعاون التي وقعوها مع عدن في أكتوبر من عام 1979م: فالقاعدة البحرية التي يمتلكونها في جزيرة سقطرى اليمنية تحظى بأهمية استراتيجية بالغة.

كان صمت وسائل الإعلام السوفيتية المريب خلال الأربعة الأيام الأولى من الاقتتال، يبين بوضوح حيرة الكرملين الذي لم يستطع أن يدين صراحة حركة التمرد التي قادها أنصاره المتشدّدون، ولا أن يتبرأ من القادة الموالين الذين تتوافق "مرونتهم" مع مصالح السوفييت الآنية في المنطقة.

وحرصاً من الكرملين على عدم اتخاذ موقف قبل انتهاء الاقتتال بين فصيلين ينسب كل منهما نفسه إلى الماركسية-اللينينية، ورغبته في استئناف علاقات طبيعية مع الفصيل المنتصر، فقد انتظر عشرة أيام قبل أن يدلي بأول تصريح في صحيفة البرافدا.

أقرّت السلطات السوفيتية الرسمية بحسم مناوئي علي ناصر للمعركة، وبجاهزية الاتحاد السوفيتي للتعاون مع "القادة الجدد في حال احترامهم لمعاهدة الصداقة القائمة بين عدن وموسكو".

وفي حقيقة الأمر، كان تحول الموقف السوفيتي "سريعاً"، لإدراك السوفييت بأن إطالة أمد الاقتتال سيكون لصالح "المتمردين"، خاصة مع ظهور بوادر "لقبْيَلَة" المواجهات, فلم يتأخر السوفييت في استنباط العظات المستفادة من انضمام وحدات بأكملها من الجيش إلى صفوف المتمردين, حيث انضوت معظم وحدات المدرعات ومنذ الوهلة الأولى تحت لواء المتمردين، كون غالبية قوى سلاح المدرعات تنتمي إلى قبائل الضالع ويافع الموالية لعلي عنتر وسالم صالح محمد، وزير الخارجية الأسبق، وأحد المؤيدين لعبد الفتاح إسماعيل.

انقسام الجيش

ورغم أن وحدات الجيش قد انقسمت إلى قسمين، فإن جانب "المتمردين" كان مع ذلك الأفضل تسليحاً وتنظيماً، كما أن علي عنتر الذي شغل منصب وزير دفاع فيما سبق، كان يحظى بدعم الجيش. وما إن مال ميزان القوى لصالح المتمردين في الـ 17، 18 من يناير حتى أقرت موسكو بقبول الواقع الجديد.

ارتبط هذا الموقف بوضوح بمخاوف السوفييت من تغذية العنف القبلي، لإدراكهم بأن الوسطية الديمقراطية، وجهود قادة اليمن الجنوبي، والإنتماء الأيديولجي والتناغم المدهش بين الماركسية والناصرية والبعث والقومية العربية لم تنجح جميعها في إنهاء التعصب القبلي. "فسرعان ما تحولت المواجهات إلى حرب عشائر وقبائل: بين قبائل الضالع ويافع من جهة، وقبائل أبين وشبوة من جهة أخرى." حسب تأكيدات أحد السفراء الغربيين في عدن. وقد لخص مسؤول فلسطيني -حضر المفاوضات بين الأطراف المتحاربة والسوفييت- الوضع بقوله "كنا وكأننا مشاركين في أزمة حقيقية بين الإقطاعية والماركسية".

إن عدد الضحايا الذي يفوق (15000) قتيل على أقل تقدير يكفي وحده لتأكيد دخول القبائل مسرح القتال، ولإثبات حقيقة تورط الآلاف من رجال القبائل المسلحة بالتوغل في مدينة عدن.

جرت الأحداث -في واقع الأمر- كما لو كانت القبائل قد استغلت النزاع الدائر في السلطة، للانضمام إلى "المتمردين" ليس لأسباب أيديولوجية، بل "للتعبير عن الذات". وكنوع من الانتقام لتهميش ممثليها من قبل الرئيس علي ناصر، الذي كان يعتمد في المقام الأول على كادر الموظفين التابعين للدولة. زد على ذلك "الولاء الشخصي" للقبائل تجاه ممثلهم علي عنتر، وهو رجل ذو شعبية كبيرة وكاريزما لا يمكن تجاهلها، وكان ذلك أكثر ما يقلق السوفييت دون شك.

كاد هذا الأمر أن يمثل نهاية للوضع السائد في جنوب اليمن منذ قيام النظام الماركسي. وقد وصف أحد المسؤولين الفلسطينيين المقرب جداً من زعماء عدن الوضع بالقول :"قلّما احتجت القبائل ومنذ سنوات ضد نظام لا يتوافق البتة مع مبادئها التقليدية، لدرجة أن المرء كان يشك بأن كارل ماركس مذكور في القرآن".

خشية السوفييت من المواجهة مع القبائل

وهذا ربما ما يفسر حادثة مقتل علي عنتر، وخشية السوفييت من دخول مواجهة مع القبائل في حال انتصار "المتمردين"، بحيث يصبح الوضع مماثلاً لذلك الموجود في أفغانستان. وكان بإمكان الاتحاد السوفيتي أن يبارك التفوق العسكري للمتمردين، لو أنه حصل على ضمانات بعدم إجباره على تقديم تنازلات كبيرة لـ"رجل القبائل" علي عنتر. وفي ظل هذه المعطيات، فإن حادثة مقتل الرجل الذي كان يمثل تياراً قبليّاً ليس بوسع الكرملين السيطرة عليه، مساء 19 يناير في "ظروف مريبة"، وليس في اليوم الأول من الاقتتال كما يُشاع، قد تمثّل عنصراً هاماً في تحول الموقف السوفيتي.

وكما رأينا، بأن الاتحاد السوفيتي لم يكن يرغب في إثارة الشكوك حول سياسته في منطقة الخليج، وذلك بدعمه لنظام ماركسي معتدل في عدن، من هنا ظهرت حاجة موسكو لقادة جدد لمتابعة النهج السياسي المعتدل للرئيس المخلوع علي ناصر. فكان من الضرورة بمكان منع "المتمردين" من إحراز انتصار ساحق، وتحجيم منظري الحزب المتشددين المطالبين بثمن للنصر الذي حققوه على الأرض. لذا فقد ظل السوفييت متيقظين لذلك، وعملوا بوجه خاص على عدم جعل عبد الفتاح بطلاً للثورة. وبحسب الرواية الرسمية فقد مات عبد الفتاح متفحماً على ظهر دبابة في بداية المواجهات؟ وفي حقيقة الأمر، ووفقاً لعدة مصادر، فقد تم نقله إلى موسكو ومات هناك لتفاقم إصابته.

وبموت قائدي التمرد الأكثر تشدداً، عملت موسكو بعد ذلك على تنصيب حيدر العطاس، كرئيس "بالإنابة"، وهو شخص ليس له نفوذ واسع، وذلك لإظهار عزمها على مواصلة نفس السياسة التي انتهجها علي ناصر.

 أصر العطاس كونه تكنوقراطياً كسابقه، على ضرورة البحث عن مساعدات مالية من جانب الدول العربية "المعتدلة". ومن دون شك، فقد وقع الاختيار على العطاس، وعلي سالم البيض، سكرتير عام الحزب، كونهما الأقل تورطاً في الاقتتال. لكن هذه الخاصية قد تتحول إلى عائق من منطلق أن المسؤولين الجدد من دون شرعية حقيقية.

إقصاء البعثيون والماركسيون

اتسمت "أحداث يناير" بالإقصاء الكلي لقطبي الحزب الاشتراكي الأكثر تشدداً وهما البعثيون والماركسيون، كما إتسمت بتهميش كافة الأشخاص الذين يمثلون الشرعية التاريخية (للجبهة الوطنية لتحرير اليمن الجنوبي) والمنبثقين عن هذين القطبين.

وبإقصاء الأطراف الثلاثة هذه، ظهرت "القيادة" الحالية وكأنها مؤقتة لهشاشتها. وذلك باعتراف أحد المسؤولين الفلسطينيين الذي شارك في كافة الوساطات، قائلاً: "إنها قيادة غير مستقرة لا سياسياً، ولا أيديولوجياً، ولا اجتماعياً، ولا تضم في واقع الأمر سوى تكنوقراط يتمتعون بالدعم السياسي (لحركة القوميين العرب). وبطبيعة الحال، لا يمكن مقارنتها "بعمالقة" جنوب اليمن الثلاثة، الذين ماتوا أو أقصوا عن المشهد السياسي، كعلي عنتر وعبد الفتاح إسماعيل وعلي ناصر محمّد.

وظلت مشكلة "الهشاشة" هذه أكبر معضلة في نظر السوفييت، لدرجة أنهم لم يدخروا جهداً لإعادة الأمور إلى نصابها. وقد تم تزويد الأسواق بكافة الاحتياجات لإرضاء الناس، كما ضاعفت "الأحزاب الشقيقة" ضغوطها على فريق القادة الجدد بغية إصدار عدد كبير من مراسم العفو (ما يقارب 5000 إعلان عفو مطلع يونيو 1986).

برغم هذه الجهود ومحاولات القادة الجدد من "تثبيت" سلطاتهم في مجتمع اليمن الجنوبي، إلا أن المشاكل ظلت عالقة، ومازالت بذور الصراع قائمة، وليس من المستبعد انفجار الوضع مجدداً بعد عامين, وسيمثل غياب نشر قائمة بأعضاء اللجنة المركزية للحزب الاشتراكي اليمني مطلع يونيو، وعدم وجود برنامج سياسي واقتصادي، إشارة كافية بأن الكرملين لم يتوصل إلى فرض حل توافقي في عدن. لا سيما وأن الجيش الذي دُمّر كلية ما زال منقسماً.

وإذ لم يكن بمقدور السوفييت منع الحرب، فقد نجحوا على الأقل في إدارة الأزمة الحادة وتفادي "التدخل الأجنبي"، الذي كان يؤرقهم. حيث سلّم السفير السوفيتي في اليوم التالي لاندلاع المعارك رسالة من ميخائيل غورباتشوف لرئيس اليمن الشمالي علي عبد الله صالح حثه فيها "بشدة" على عدم التدخل عسكرياً في شؤون اليمنيين الجنوبيين.

كما نجح الكرملين –إن صح القول- في "الحد من الأضرار"، حيث بقيت عدن في دائرة نفوذه فعليّاً، فقد حرص جميع القادة الحاليين على سرعة التوجه إلى موسكو لتقديم العرفان "للأخ الأكبر". وفرض الاتحاد السوفيتي على القادة الجدد مواصلة السير على النهج السياسي لعلي ناصر محمد بعد إقصائه.

تجربة قاسية للسوفييت

مواصلة سياسة "الانفتاح" هذه، كانت ضرورية لتطمين دول المنطقة المتوجسة من نوايا السوفييت، وكان من مساوئها حملها لبذور سخط شعبي كبير، فكيف يمكن تبرير مقتل الآلاف وتدمير 90% من المقدرات الاقتصادية للبلاد، وانتهاج السياسة ذاتها، وكيف يمكن إعادة فرض "سلطة" قادة تكنوقراط في حين مازالت القبائل خارج اللعبة.

في كل الأحوال ظلت هذه المحاذير حاضرة بقوة في أذهان السوفييت (وكذا الألمان الشرقيين) لدرجة أنهم غيروا كافة طاقم بعثاتهم الدبلوماسية في عدن بما في ذلك السفراء. وقد أظهرت مواجهات عدن هشاشة الأطر السياسية والإيديولوجية (المستنسخة) في دول العالم الثالث، وأثبتت بأن الماركسية لم تتمكن من استئصال الصراعات الشخصية التي لا يمكن تفسيرها والتي ترجع إلى ما قبل فترة المد الثوري، وبأن خطر اندلاع حرب أهلية قائم حتى في بلد واقع تحت السيطرة الكلية.

كانت تجربة قاسية للسوفييت ذوي النفوذ الواسع في البلاد، نتيجة إخفاقهم في وضع حد للاقتتال، وعدم تمكنهم من فرض وقف لإطلاق النار بعد أربعة عشر ساعة من المفاوضات بين على ناصر وممثلين عن "المتمردين" في مقر سفارة الاتحاد السوفيتي في اليوم الثالث من اندلاع المعارك. وقد أنشئت خلية لإدارة الأزمة في أديس أبابا وأسهمت الزيارات المكوكية بين أديس أبابا وموسكو والتي قام بها نايف حواتمة أمين عام الجبهة الوطنية لتحرير فلسطين الموالية للاتحاد السوفيتي، والذي تربطه علاقة وثيقة بقادة عدن، في إيقاف الاقتتال بشكل أكثر فعالية من الإجراءات التي أتخذها السوفييت مباشرة.

وفي ظل هذه الظروف، ندرك بأن أزمة اليمن الجنوبي مثلت في واقع الأمر أول اختبار حقيقي وصعب للرئيس ميخائيل جورباتشوف منذ توليه السلطة.

اختبار على المستوى الداخلي أولاً : فإذا كانت إرادة الزعيم السوفيتي تتجه لدعم سياسة "الانفتاح" للرئيس المخلوع، أمراً مفرغاً منه، فمن الصحيح أيضاً بأن كل مجموعة في منظومة الحكم السوفيتية لها "أتباعها". وربما أن عبد الفتاح إسماعيل تلقى الضوء الأخضر بالتحرك من قبل حلفائه الأكثر تشدداً في الكرملين، والمناصرين القدامى لبريجنيف وجروميكو. وقد تفاجأ عناصر المخابرات السوفييت المدنيين العاملين في اليمن الجنوبي من ضراوة الاقتتال، لدرجة أن "مخابرات" عدن اعتمدت على استخبارات الجيش الأحمر، التي لم تظهر حرصاً كبيراً على التواصل المعلوماتي مع عناصر الـ كي جي بي المدنيين.

كما مثلت أزمة عدن اختبارا للعلاقات الشرقية-الشرقية، فقد أثرت على علاقات الاتحاد السوفيتي بأثيوبيا، نقطة الارتكاز الثانية لهم على البحر الأحمر. وقد رأى الزعيم الأثيوبي، العقيد مانجستو، بانعدام الحيثيات للاعتراف بالخصومات المرتبطة بالسلطة، ولم يغفر للكرملين تخليه عن الرئيس علي ناصر الذي أبدى تضامنه معه خلال الهجمات الأثيوبية الأخيرة ضد المتمردين الأريتيريين. وقد ثمّن مانجستو هذا الموقف لا سيما وأن السوفييت خذلوه في هذه المسألة. وفي واقع الأمر مكنته حرب عدن من التعبير عن استيائه من حليفه السوفيتي. زد على ذلك أن الرئيس الأثيوبي لم يستسغ محاولة السوفييت لتأسيس "حزب ثوري للعمال الأثيوبيين"، لخشيته من تحوله في يوم ما إلى بديل "مدني" لنظام حكمه.

الاعتراف بالسلطات الجديدة في عدن

في منتصف يناير المقبل، يعتزم مانجستو التوقيع على انضمام بلاده إلى منظمة "مكافحة الجفاف وتنمية أفريقيا" IGADD المتهمة "بهيمنة الغرب عليها". ورغم موافقته على استقبال رئيس اليمن الجنوبي الجديد، إلا أنه لم يتخل عن فكرة استضافة علي ناصر ورفاقه، وفي كل ذلك دلالة على "الاستقلالية" التي تزعج السوفييت : فإقامة الرئيس المخلوع في أديس أبابا، وليس في الرياض أو صنعاء على سبيل المثال، تحول دون تمرير فكرة أنه "رجعي" "خائن لمبادئ الثورة".

وعلى الصعيد الإقليمي لم يثمن الحلفاء السوريون والليبيون "التخلي" عن رئيس اليمن الجنوبي السابق، واضطر الكرملين إلى مضاعفة الضغوط على هذين البلدين لإقناعهما بالإقرار بالأمر الواقع وبالاعتراف بالسلطات الجديدة في عدن.

وفي الأخير مثلث الحرب الأهلية في جنوب اليمن اختبارا للعلاقة مع "الأحزاب الشقيقة"، فقد أحدثت هزة حقيقية في الحركة الشيوعية العربية وفي وسط "الأحزاب الشقيقة". وكانت من القوة لدرجة أن العديد من المسؤولين الفلسطينيين والعرب ممن تابعوا "الأحداث" عن كثب، اعترفوا بما يمكن تسميته "ما قبل أحداث عدن وما بعدها". فقد تمخضت المأساة بين "الرفاق" عن نهر من الدماء. وقد كان المسؤولون الفلسطينيون والعرب على علاقة وطيدة بقادة اليمن الجنوبي وناضلوا سوياً في حركة القوميين العرب وعلاوة على الشعور بالفشل، هناك ما يثير الإحساس بمرارة شديدة، ويبعث على التفكير الجدي حول الممارسات القائمة فيما بين "الأحزاب الشقيقة".

عمل السوفييت كل ما بوسعهم لتمرير هذه الحرب الدموية الفظيعة بين الأشقاء على أنها "انقلاب على الحكم" فحسب. ومع نجاحهم الجزئي في هذا المسعى، سيكون لزاماً عليهم التيقظ التام من أجل تأمين الاستقرار الذي ما زال بعيد المنال.

* للكاتب : جوزيه جارسون

الأكثر قراءة

الرأي الرياضي

كتابات

كلمة رئيس التحرير

صحف غربية

المحرر السياسي

وكيل آدم على ذريته

أحلام القبيلي

2016-04-07 13:44:31

باعوك يا وطني

أحلام القبيلي

2016-03-28 12:40:39

والأصدقاء رزق

الاإصدارات المطبوعة

print-img print-img
print-img print-img
حوارات

dailog-img
رئيس الأركان : الجيش الوطني والمقاومة ورجال القبائل جاهزون لحسم المعركة عسكرياً وتحقيق النصر

أكد الفريق ركن صغير حمود بن عزيز رئيس هيئة الأركان ، قائد العمليات المشتركة، أن الجيش الوطني والمقاومة ورجال القبائل جاهزون لحسم المعركة عسكرياً وتحقيق النصر، مبيناً أن تشكيل مجلس القيادة الرئاسي الجديد يمثل تحولاً عملياً وخطوة متقدمة في طريق إنهاء الصراع وإيقاف الحرب واستعادة الدولة مشاهدة المزيد