;
علي الفقيه
علي الفقيه

ولأبي مع الجمهورية قصة 1022

2016-09-28 12:43:03


” لما قالوا جمهورية جمهورية، فلتنا كل شيء يا ابني وسرنا نقاتل مع الجمهورية​“ كان والدي- رحمه الله- يفتتح بهذه الجملة جلسات حديثه معنا عن رحلته كجندي شارك في معارك الدفاع عن الجمهورية عقب قيام ثورة ٢٦ سبتمبر ١٩٦٢.
لم يكن الوالد يتلقى تعبئة ثورية، وربما لم يكن يدرك من معاني الجمهورية سوى أنه ليس فيها إمام وأن الوضع بدون الأئمة سيكون أفضل، لكنه ورغم ذلك غادر منزله في الريف القصي بمحافظة ريمة على الفور عندما تلقى دعوة للالتحاق بجيش الجمهورية الوليدة رغم أن عمره يومها تجاوز الخمسين، واستطاع أن يتغلب على المثبطين من الأقارب والجيران الذين كانوا يحاولون إقناعه بأنه ليس عليه أن يلتحق بالجيش وقد عاش من العمر أغلبه ولم يتبق إلا القليل، وقد كان ”فقيهاً“ اشتغل بتعليم الفتية القرآن في "المعلامة" الملحقة بالمسجد.
أدرك بفطرته الريفية أن المرء ليس من الضروري أن يعيش لنفسه، وأنه ليس على الأجيال القادمة أن تعيش البؤس الذي عايشه وأن تمر بنفس المجاعات التي كانت تجبر المئات من الناس على السير على أقدامهم أياماً وليالي ليحصلوا على كسرة خبز.

 كان يحكي التجربة التي عايشها في ظل حكم الأئمة حوالي نصف قرن من الزمن، وكلماته تتحدث عن فترة موت لا حياة فيها ”يا ولدي قضينا معظم حياتنا جاوعين، تجي فترات الخير ونحصد من الحبوب ما يكفينا وبعدها حين يتوقف هطول المطر ويشح المخزون من الحبوب نبدأ نخلط الحبوب مع الحماط “القشور التي تتطاير من الحبوب في المراحل اللاحقة بالحصاد“، حتى يكفي، وحين ينتهي الحبوب تماماً نبدأ رحلة البحث عن ”حَلَص“ وهو نبات له ورق عريض لا تؤكل إلا في المجاعات، لنسد به أمعاءنا، أما عندما يطول أمد القحط فإن الجوع يخيم ونبدأ بالرحيل للسفر على الأقدام أياماً وليالي بحثاً عن قوت نحمي به عيالنا حتى لا يموتون من الجوع“.
نحن جيل لم يدرك الجوع والعوز ولهذا كنا نقرأ الألم في عيون الآباء وهم يحكون لنا عن تلك الحقبة القاسية، لا مستشفيات ولا مدارس ولا طرقات، فقط كلما هو موجود من ملامح الدولة هو "العامل" و"الطايفي“ "والعكفي" ومحصل الزكاة وكلها مسميات لها علاقة بالجباية وإخضاع المواطن لسطوة دولة الإمام، التي لا تلتزم بأي شيء تجاه المواطن.

لدرجة أنهم حتى في أيام الأمطار والرخاء يدفعون من الزكوات والإلتزامات للدولة مبالغ مرهقة للفلاحين، لدرجة أنهم كانوا يدفعون حتى زكاة "العِصَر" وهو العلف الذي يجمعونه من الشعاب في أيام "العلان".
وحين التحق الوالد- رحمه الله- مع مجموعة من الشباب في منطقته بجيش الجمهورية الوليدة تلقوا تدريبات بسيطة على يد ضباط في الجيش المصري وكانت مهمة اللواء الذي انضموا إليه تثبيت دعائم الجمهورية في محافظة حجة التي كانت أحد المعاقل العصية لحكم الأئمة بحكم التركيبة المذهبية حينها وإيمان الناس هناك بأن الإمام هو "مخول حصرياً من الله لحكم الشعب" كونه "حفيد رسول الله ووارث النبوة" وبذلك كان هناك استماتة ورفض للجمهورية في تلك المناطق جعلت جيش الجمهورية يخوض معارك شرسة مع الملكيين في تلك المناطق..

كان الوالد- رحمه الله- يحفظ تفاصيل المعارك التي خاضها مع زملائه وأسماء المناطق والقرى التي قاتلوا فيها ولاقوا الموت في كل مترس.
لكنه، ومع حجم الرعب الذي كان يكتنف المعركة، كان يسرد لنا التفاصيل بفخر واعتزاز أنه ساهم كمواطن يمني في تخليص الشعب اليمني المغلوب من ظلم وظلام تلك الحقبة اللعينة التي كان يختصر وصف مآسيها بترديد عبرة "الله لا وراكم يا عيالي كيف كان الناس يموتون من الجوع، وأي واحد يمرض ما بش معنا إلا نأكِّله حلص وإلا نوسِّمه بالنار".
قاتل مع الجمهورية طيلة عام ١٩٦٣ حتى جاءت قذيفة مدفعية وتسببت في إصابة قاتلة في صدره ووجهه وأخذت عظمة فكه السفلي، تم نقله بعدها للحديدة وكانت الخدمات الطبية في المستشفى الوحيد هناك في غاية البؤس، ولهذا لم تكن الإمكانات كافية إلا لإنقاذه من الموت ليعيش بعدها بدون الفك السفلي، لكنه كان أقوى من أن تمنعه الإصابة من الإقبال على الحياة وتعويض ما فاته من حياة في العهد البائد ولهذا عاد إلى القرية ليبدأ حياة جديدة كلياً تزوج فيها بأمي وأنجب فيها سبعة من الأولاد والبنات..
عاش براتب جندي أحالته الإصابة إلى التقاعد المبكر لكنه عاد إلى القرية حاملاً في صدره الحلم بحياة أفضل للأجيال القادمة، وبعَلَم الجمهورية الذي كان يرفرف على سطح منزلنا في كل عيد ومناسبة وطنية.
ولأن المدرسة حلت محل المعلامة التي كان أبي يدرس فيها القرآن فقد أصبح هو "الأمين الشرعي" للمنطقة بينما اتجه فتية القرية إلى المدرسة الأولى التي تم بناؤها في القرية وحملت إسم "مدرسة الحرية" بعد سنوات قليلة من قيام الثورة المباركة.
لم يكن ما تحقق في العقود التالية لثورة سبتمبر بحجم طموح الناس لكن الثورة عنت لهم قمحاً ودقيقاً يأتي عبر البحر، وفانوساً يبدد ظلام ليلهم الحالك، ومهدئات يخففون بها الآلام التي تداهمهم حتى يجدوا مرفقاً صحياً يواسيهم على الأقل ويشعرهم بإنسانيتهم التي سلبها نظام حكم لا يعترف بالإنسان إلا كآلة تعمل لصالح خزينة الإمام.

كانت الثورة بالنسبة لهم تعني أن يتحرروا من "الطايفي والعامل والعكفي وعسكري الإمام الذي يصر وفقاً لمزاجه أن لا يدخل المنزل إلا ببندق يحملها "أفقياً حتى لو اضطر الناس لهدم باب المنزل.
كانت الجمهورية تعني لهم الحركة من وإلى المدن الناشئة ليشاهدوا الحياة والأضواء والبضائع بألوانها الزاهية، ولهذا أقبل الناس على الحياة باندفاع من يحمل عقدة الكبت ويبحث عن التعويض، وكانت الإمامة تزورهم في منامهم كوابيس مزعجة، وتلوح لهم في ذكرياتهم كشبح مرعب يتهدد الضوء والحياة.
قرابة عشرين عاماً مضت منذ رحيل أبي- رحمه الله- في ٢٧ إبريل ١٩٩٧ بعد أن عاش عمراً مختلفاً كلية عن العمر الذي عاشه قبل الثورة، وبعد أن قرت عيناه برؤية أولاده وأحفاده وقد نالوا حظاً متواضعاً من التعليم الذي يمكنهم من أن يعيشوا حياتهم بطريقة مختلفة.. ورحل معه الجيل الذي عاش ذات المأساة وقد سردوا لنا حكايات عن مجاعاتهم ومآسيهم والحياة المصبوغة بالخرافة والدجل التي كان النظام الحاكم يصرف الناس إليها حتى تظل عقولهم مغيبة وإراداتهم مسلوبة ومصادرة لصالح السلالة التي كانت تسلط الطبقات التي تعمل في خدمتها وتكرس التمييز منهج حياة.

الأكثر قراءة

الرأي الرياضي

كتابات

كلمة رئيس التحرير

صحف غربية

المحرر السياسي

وكيل آدم على ذريته

أحلام القبيلي

2016-04-07 13:44:31

باعوك يا وطني

أحلام القبيلي

2016-03-28 12:40:39

والأصدقاء رزق

الاإصدارات المطبوعة

print-img print-img
print-img print-img
حوارات

dailog-img
رئيس الأركان : الجيش الوطني والمقاومة ورجال القبائل جاهزون لحسم المعركة عسكرياً وتحقيق النصر

أكد الفريق ركن صغير حمود بن عزيز رئيس هيئة الأركان ، قائد العمليات المشتركة، أن الجيش الوطني والمقاومة ورجال القبائل جاهزون لحسم المعركة عسكرياً وتحقيق النصر، مبيناً أن تشكيل مجلس القيادة الرئاسي الجديد يمثل تحولاً عملياً وخطوة متقدمة في طريق إنهاء الصراع وإيقاف الحرب واستعادة الدولة مشاهدة المزيد