;
نجم المريري
نجم المريري

من مذكرات الوباء الهاشمي 863

2017-05-10 06:53:43

كان الفجر أكثر كدراً بعد القذيفة التاسعة...
أمضيته حتى طلوع الشمس من أنف رخام البيت المقابل لنافذتي الذي نخلتهُ القذائف ولم يعد منه فائدة تُذكر سوى أنه يؤخر ساعات الصباح عني ليمنحني نصف إشراقة.
هذا الصباح الرومنتيكي للكثيرين بشعاً جنائزياً فيّ منذ لُقنّ الزوامل!!
متأبطاً دفتر المحاضرات الجامعية أو بالأحرى المحظورات الجامعية بكل فشل أمشي على خببٍ منتحلاً شخصية تمشي إلى هدفها.. أتقدم واثقاً بأني بلا هدف.
الشارع المغرور دوماً شارع التحرير لا مهرب لخطاي أبداً من تحريضه لهاعلى التشرد، يدفعني بكل أنوثته الصاخبة إلى أن أطلق العنان لساقي في المشي متدحرجاً بين أزقته الدبقة بخطوط ماء تنتهي بسحب رغوية تتفجر فقاعة، فقاعة برائحة شامبو بالنعناع.. إنهُ الإيحاء العفوي ،المذكرة الليلية، سرد حكائي لحدث ليلي بصخب ليلة زوجية عناقية ماثت حتى أمشط القدم.
لكنه هذا الصباح على غير سجيته جامداً كثقب خلفته رصاصة .
ربما هي نظرتي من تمنح الأشياء مدلولاتها، يتردد في داخلي صدى ما قبل القذيفة التاسعة وطفلة..
أنا بحاجة لحياة أخرى، حياة أكثر بؤسًا.. بؤساً ودوداً.
الأمل وبؤر الحياة هذه الشحيحة الغائرة في دغشة بحر مجرد بواعث قلق.
عندما تنغلق كل الأبواب ويهمد آخر فتيل أمل كاذب نعيش بأمان.
أحتاج لحياة أخرى أكثر بؤسًا من هذه؛ أبكي فيها بكل بلاهة، وأمشي بكل تعب.
هذه الحياة لا تصلح للحب فلا تنتظر حبيباً صالحاً...
هذه الحياة لا تصلح لغير الحلم فلتحلّي حلمًا مالحًا..
أحتاج لحبيبة أخرى لا تفقه شيئاً في اللغة؛ تتقن تورية حبها دون أن تهدره حروفاً وكلاماً هشاً.
أنثى لا تقص شعرها رغم عشقي لقصة الشعر؛ أنسج من ضفائره حبالًا أشنق به كل كوابيس العالم.
بشكل هستيري أنزع نظارتي أثنيها حد الانكسار، تتناسل مثنى وثلاث ورباع؛ لأحشرها في جيبي.
بعد القذيفة التاسعة وسقوط طفلة.. هل يسقط الأطفال يا الله؟!
المرة الوحيدة التي أذكر أني سقطت فيها وأنا طفل هي تلك المرة التي فتحت لي أمي ذراعيها على بعد ابتسامة، وغلالة ضبابية كانت تناديني وذراعاها تزددن اتساعاً؛ هرعتُ أركض، وأركض نحوها؛ لأسقط من على سريري!.
كنت نائماً وحالما أفقتُ ثم أدركتُ أن أمي أسعفت إلى المشفى على إثر تسممٍ غذائي.
اعتادت أمي تجريب "المولوخية" التي تحصدها من أرض جدي في زمن توقفت فيه الحكومة المدعومة من أكثر دول العالم ثراءً - دول الخليج - عن صرف معاشات الموظفين!!
في ذلك الزمن تفشى في البلد وباء هاشمي يقولون إنهم من آل بيت النبي محمد- صلى الله عليه وسلم- كان يتوغل في دم أرضنا الأخضر كفيروسات تنمو دون توقف..
وفي أحايين متقطعة كان يأتي الطيران المساند للحكومة كبواشيق جائعة تفترس الكثير منا لغرض الدفاع عنا وما تبقى من أطفال تجهز عليهم قذائف الطرف الآخر لغرض حمايتنا.. ولكن هل يسقط الأطفال يا الله؟!.
لم يتبق لنا إلا الملوخية كنا نأكلها عاماً ونجفف البقية إلى العام الآخر ونطهوها ونحن نعلم أنها غير صالحة للطهو وغير صحية تعدها أمي ثم تجربها قبلنا؛ حفاظًا على صحتنا!!
كان الدخان المتصاعد من العلب البلاستيكية المحترقة يقتل أدمغتنا؛ لم نكن نملك ثمن أسطوانة الغاز فضلاً عن شحّتها في السوق.
كانت أزمة وقود طافحة وقت كانت حكومتنا مدعومة من أكبر الدول النفطية!
تخرج أمي بعينين زائغتين محمرتين كما لو أنها شقت جمرة مناصفة ووضعت كل نصف في محجر عينها.. تبكي قليلاً لتلفظ الدخان من عينيها!.
كانت هي تلك اللحظات الوحيدة التي تبكي فيها أمي قليلاً !!
ثم تبتسم، تدغل أناملها في شعري، تفركه، توسع ابتسامتها أكثر ربما لتملأ الفراغ الدائري الذي خلفته "سيسيهات" الملوخية الطفيفة في إناء الأكل.
يالغبائي!! ما الذي يذكرني بطفولتي التي غادرتها قبل عام لألج عامي الواحد والعشرين؟!
آه نعم كنتُ أتساءل: هل يسقطون الأطفال يا الله مضرجين بألعابهم البسيطة اللاتي ناموا محتضنين لها احتراسًا من أصوات أطفال الحارة التي تقدح في آذانهم متشابكة لصوصية قائلة "من أين حصلت عليها، من أين حصلت عليها؟!".
أذكر أني سألت أبي بعد سقوطي من السرير ونحن نستعد للسفر إلى المدينة لعلاج أمي التي اشتد تسممها الغذائي.
- هل يسقط الأطفال يا أبي؟!.
لم يجبني كان منهمكاً في تقليم أحراش الخوف الكثيفة التي تحتله ممدته في داخله الضيق، يغمض عينيه يعب الكثير من الهواء، ينظر إلى السماء المتشققة في نظري الملتئمة في إيمانه الذي ظل يتشبث به حتى اللحظات الأخيرة ويدان من خشب تلفظانه إلى سجن تكدس فيه القوات الحوثية معارضيها في البلد...
يحاول تغيير سحنته كي لا يعرفه الجنود المتفرقين طوال الطريق من الريف إلى القرية.
في نقطة مسلحة ذاخر بصنوف الآلات الحربية أوقفونا.
عندما طال احتجازهم للسيارة في جانب الطريق مالم يُخرج - المشتبه به حسب قول أحدهم مشيرًا باستهجان بسبابته المشوكة نحو أبي - مالم يخرج بطاقة هويته.
يتوسّلهم مشهرًا أوراق مرض أمي وأنها في حالة مرضية حرجة؛ معلّلاً نسيانه لبطاقة الهوية في البيت.
يقول لهم" كلنا يمنيون ويجب أن نعيش كأخوة إن لم يكن فمن أجل هذه المسكينة" قابضاً على ذراع أمي التي أرهقها الخوف المنقسم المتناسل في داخلها بسرعة ورميّة خبيثة حتى أغمي عليها.
كل ذاك الأتضاع والتوسل الذي أدلى به ركاب السيارة لم يجدِ أملاً..
تحسس أبي حقائب أمتعتنا عبثاً كمحاولة مراوغة لعدم معرفته بوجود البطاقة في حقيبة أمي.
حين وضع يده عليها أخرجها بشكل ممال قائلاً لهم:
ها لا توجد غير بطاقة زوجتي..
ثم أدارها نحو عينيه ممثلًا دور المتفاجئ، وكز أمي المغمى عليها بمرفقه قائلاً لمَ لا تقولي لي إنها معك؟!.
أخذها ذاك الجندي بلباسه المدني ماداً بها إلى المدني بجانبه بلباسه العسكري ليتأملها هذا الآخر متفرساً فيها همهم "أخيرا وقعت في يدينا أيها المرتزق".
قبض أبي على ذراعي هامسًا في أذني:
الأطفال لا يسقطون بني لأن الله معهم سائق السيارة سوف يوصلكم بسيارته إلى منزل عمتك في المدينة هناك أنزل مع أمك.. كن رجلاً واهتم بها وسوف ألحق بكم قريباً".
أردت أن أسأله كيف أكون رجلاً وهو من قال أن الله مع الأطفال!؟.
بامتداد طول الطريق المتبقية كنت أبكي متوسلاً الله الذي مع الأطفال أن يتنازل عني للحظة ويذهب ليخلص أبي.
وها أنا أنا اليوم أتساءل..
أي ذنب اقترفَته تلك الطفلة التي لم تبلغ النهد بعد ليتخلى عنها الله وتسقط في موتٍ لا متناهي بقذيفة حوثية.


الأكثر قراءة

الرأي الرياضي

كتابات

كلمة رئيس التحرير

صحف غربية

المحرر السياسي

وكيل آدم على ذريته

أحلام القبيلي

2016-04-07 13:44:31

باعوك يا وطني

أحلام القبيلي

2016-03-28 12:40:39

والأصدقاء رزق

الاإصدارات المطبوعة

print-img print-img
print-img print-img
حوارات

dailog-img
رئيس الأركان : الجيش الوطني والمقاومة ورجال القبائل جاهزون لحسم المعركة عسكرياً وتحقيق النصر

أكد الفريق ركن صغير حمود بن عزيز رئيس هيئة الأركان ، قائد العمليات المشتركة، أن الجيش الوطني والمقاومة ورجال القبائل جاهزون لحسم المعركة عسكرياً وتحقيق النصر، مبيناً أن تشكيل مجلس القيادة الرئاسي الجديد يمثل تحولاً عملياً وخطوة متقدمة في طريق إنهاء الصراع وإيقاف الحرب واستعادة الدولة مشاهدة المزيد