تعز.. حرية لا تموت
مصطفى راجح
مصطفى راجح

عملية القتل الجماعي التي أقدم عليها النظام أمس الأول، وما رافقها وتبعها من حصار عسكري واستمرار قتل المتظاهرين أمس، كل ذلك يقدم صورة نظام القتل والتنكيل الذي بناه "علي صالح" على مدى ثلاثة عقود، كانت حصيلة حكم هذا الكائن، نزعـــة الدموية ومصادرة حق اليمنيين في الحياة، هذه النزعة البربريـــة التي استباحت تعز وأمرت بمهاجمة ساحة الاعتصام السلمي وألقت بالقنابل ورصاص القناصة وقذائف الأسلحة الثقيلة فوق رؤوس الشباب والجرحى والنساء والأطباء.
 في ليلة دامية كانت حصيلتها عشرات القتلى وجرحى يتجاوزوا الألف ومئات المفقودين.. شباب يشبهون الورد، ويتوحدون بلون السماء الأزرق وطراوة المطر في تطلعهم للحرية والكرامة والحياة.
أرادوا الانتصار لذواتهم وحريتهم وحقهم المقدس في الحياة والحرية والاختيار والحلم بوطن آمن، يصون كرامتهم وحقوقهم الإنسانية، ودولة تحترم آدميتهم وتطلعاتهم وطموحاتهم.
وأرادهم "علي صالح" كائنات مشوهة ومسوخ تقتات فراغها وتهتف باسمه وأمجاده الوهمية، ومنجزاته الورقية.
أرادوا أن يكونوا بشراً أحراراً كبقية البشر، أرادوا أن يصنعوا لحظتهم وحريتهم، أن يختاروا حاكمهم ويقرروا شكل دولتهم ونظامهم، بداية من إزاحة الكابوس الجاثم على صدورهم سنوات عجاف يخنق حلمهم ويقف بالمرصاد لكل من تطلع لما ورد صورته وخطبه المملة ذات الكلمات المكسرة والخالية من أي شيء يربطه بهم، وأرادهم أدوات لحكمه.
هو كان يأمل، وهكذا فعل منذ صعد إلى حلق اليمن، يأمل في قولبتهم كحماة لبقائه "ملكاً غير متوج"، سواء بصيغة جنود رسميين أو كائنات فارغة تنتظر دوراً لاعتلاء سطح عمارة لقنص متظاهرين سلميين، بعد أن انتهت أدوار التزوير الموسمية لإرادة اليمنيين.
هو يريد اليمنيين كلهم هكذا.. نموذجه مئات البلاطجة وآلاف الجنود، مغسولي الأدمغة الذين عبأهم ضد الشعب اليمني، بعد إفراغه من كلمة شعب وتقديمه كمجموعات معادية تستحق فقط أن تواجه بالرصاص والقنابل والرشاشات.
ولأنها تعز فقد هزمته منذ وقت مبكر، هزمته حين لم تستسلم لحصاره وسياساته التدميرية طوال ثلاثة عقود، وبدلاً من الانكسار أنجبت لليمن مئات الآلاف من الأطباء والمهندسين والمعلمين ورجال الأعمال والعمال والكتاب والمثقفين والحرفيين والمهنيين.
كان كلما أحكم طوق حصاره كلما تسربت تعز من بين يديه كالماء، موزعة روحها في اليمن الكبير، بشراً رائعين، يبنون ويعلمون، وينشرون المهن والحب والوطنية اليمنية، التي أراد صالح دفنها تحت أنقاض سياساته الطائفية والمناطقية والقبليـــة والأسـريـــة.
ويتضح الآن جلياً أن الوطنية اليمنية التي أنجزتها تعز هي الصداع الأكبر لحاكم أراد أن تتسيد التشظيات ما قبل الوطنية صورة اليمن واليمنيين.
وإذا به يُفاجأ في نهاية النفق بيمن حر ديمقراطي وموحد تحت شعار واحد يهتف به ليل نهار، ويتماوج رجع صداه في كل اليمن من تعز إلى صنعاء إلى عدن، وحضرموت وصعدة وذمار وحجة وشبوة، في المدن والمديريات والساحات والفضائيات.
كتبه اليمنيون في الجدران والصحف والشاشات والأيدي والعيون والصدور الموجوعة بالشهداء والجرحى: "الشعـــب يُريد إسقــــــاط النظام"، وقد أسقطه بالفعل.
نعم لقد قامت الثورة السلمية بكل الخطوات المفترضة لإسقاط النظام سياسياً، لم يعد هناك وجود لشرعية والمؤسسات الصورية أصيبت بالشلل: برلمان، حكومة، رئاسة، وتحيد الجيش، و.. و.. و.. ولكن النظام لم يسقط!.
لماذا؟
لأنه ليس نظاماً سياسياً وإنما عصابـة مسلحـــة، أعادت تكييف وجودها من عصابة مغلفة بمؤسسات صورية إلى عصابة ميليشياوية مسلحة واضحة للجميع.
ويبقى أن نقول: إن علي صالح وكتائبه ينبغي أن يفهموا أن تعز هي صمغ اليمن ولاصقها، وعنوان الوطنية اليمنية.
تعـــز.. هي كل هذه التضحيات، وكل هذه الروابط التي تلهم اليمن كلها في وقت يريد أن يبعثرها ويمزقها كل ممزق.
تعـــز.. هي الصورة النموذجية لليمن، تعــــز.. هي هذه الكثافة السكانية "الثروة البشرية" لليمن التي انتشرت في كل اليمن، مدنه ومديرياته، شرقه وغربه وشماله وجنوبه، توزعوا ليلملموا اليمن التي شرختها سياساته، وبرنامجه المُعد سلفاً إلى مناطق وقبائــل ومذاهب وطوائف، وأعملت فيها سياسات "فرق تسد" حتى يستهلك اليمنيون أنفسهم وطاقاتهم وعمرهم في الصراع والاقتتال والكراهية والتمترسات ما قبل الوطنية، ليخلو له الجو، ليتسيد الساحة، مؤبداً ومورثاً إلى حيث يصل.
وما وصل إليه يبدو مختلفاً تماماً، في نهاية الممر أنفتح الأفق على بشر كثير، بشر بلا عدد، متشابكي الأيدي، يلمع في أعينهم بريق الأمــل.. إنهم اليمنيون في تجليهم الأبرز كشعب.
في الأربعاء 01 يونيو-حزيران 2011 03:31:32 ص

تجد هذا المقال في صحيفة أخبار اليوم
https://akhbaralyom.net
رابط الصفحة
https://akhbaralyom.net/articles.php?id=64673