الشيطان في التفاصيل
محمد علي محسن
محمد علي محسن

قيل بأن الشيطان يكمن في التفاصيل، على هذا الأساس لم أستغرب مما وقع أمام فندق ميركيور يوم السبت الموافق 12مايو 2012م، فلكم توقعت ما هو أكثر من انتفاضة صبيانية غاضبة طافحة بكل مفردات الشتم المقذع والتخوين؟ لطالما حذرت ونبهت من خطورة السكوت أو المداهنة لمثل هذه الأصوات المنفلتة الخادعة المضللة لحقيقة الواقع القبيح الكامن في نفوسنا وعقولنا السقيمة بداء التسلط والغلو والتجبر والرفض للآخر.
لقد ظن الجميع بأن الاتفاق حول الجنوب ومعاناته ؛ سيكون كافياً لتوحدهم في مقاومة الظلم الحاصل لهم، فالكل تجده متوحداً في كون الجنوب دولة مستقلة عن دولة الشمال، وكون الجنوب شعباً ومساحة وثروة وسلطة ونظاماً وقضية عادلة، لكننا وحين ننتقل من الجنوب الكلي والنظري إلى الجنوب الجزئي والعملي؛ سنكتشف كم نحن متخلفون وعدائيون ومتسلطون؟.
أعتقد أن الجنوب لم يخض أية تجربة سياسية ديمقراطية تعددية مدنية مؤسسية خلال السنوات العشرين الماضية؛ وإلا لكنا تجاوزنا ثقافة التسلط والاستبداد، فحتى الممارسة الانتخابية في الجنوب كانت محدودة ومقتصرة على انتخابات عامة شاركت بها الأحزاب السياسية - سلطة ومعارضة – وبشكل هامشي لا يرقى إلى التنافسية الديمقراطية النزيهة النابعة من رغبة الناس وحاجتهم ومصلحتهم.
الكلام عن جنوب وفق مقاس واحد وصوت واحد وزعيم واحد لا مكان له سوى في عقول أولئك الغارقين في التسلط والإقصاء، فك الارتباط أو الاستقلال والتحرير أو الفيدرالية المشروطة وغير المشروطة أو سواها من وجهات النظر المختلفة، جميعها تبقى أطروحات ورؤى يجب أن تحترم وتجل بكونها نتاج اجتهاد للعقل البشري، أيا ارتقى واجتهد الإنسان في تصوره وتوقعه وحلوله لا يمكن اعتبارها مقدساً أو منزهاً عن الخطأ.
شخصيا لا أميل لأي من الفكرتين القائلتين بفك الارتباط أو الاستقلال ومع ذلك وطنت نفسي ألا أضيق ذرعاً بخطب البيض أو بأطروحات علي ناصر والعطاس والجفري وحتى الشيخ طارق الفضلي الذي لا يستقر على حال، فالمسألة هنا لا تتعلق برغباتنا وأهوائنا الذاتية، بل المسألة لها صلة بقدرتنا ورغبتنا الجمعية في قبول الآخر أياً كان رأيه وموقفه أو منطقه الذي ربما لا يعجبنا أو ينسجم مع منطقنا.
الفكر الإقصائي لا يمكن البناء والتأسيس عليه، فمن لا يستطيع التكيف أو التأقلم مع الواقع المتعدد بأفكاره ووسائله وطرقه وعلاقاته ؛ فينبغي له ألا يحمل على كاهله قضايا وطنية وقومية وديمقراطية وعولمية، فمثل هذه القضايا والاستحقاقات السياسية والاقتصادية والديمقراطية يستلزمها أناس وأفكار ووسائل وأساليب متسقة ومتناغمة مع واقع العصر الراهن وإيقاعه المتسع والقابل بالتنوع الفكري والسياسي والديني واللغوي والعرقي.
 ما حدث في عدن لا يمت بصلة لروح التنوع والاختلاف والتعدد السياسي والفكري، فمثل تلكم الأفعال الغاضبة المنتهكة لحق الآخرين في أن يجتمعوا تحت سقف واحد، وفي أن يؤسسوا أو يعلنوا أو يناقشوا أو يتحالفوا ويتكتلوا؛ أظنها تصرفات مراهقة منفلتة تذكرنا بحقبة الصوت الواحد والحزب الواحد والرأي الواحد.
أنها ذات العقلية البليدة التي أودت بنا إلى مهاو سحيقة مازلنا نعاني تبعاتها الكارثية والمأساوية حتى يومنا هذا، الذي كل منا يحاول جاهداً فعل شيء للخروج منه.. ما أخشاه على الجنوب وقضيته هو من هذه التفاصيل والجزئيات التي لم تكن بحسبان الحاملين لبيرق الدولة المفقودة، فكثير ما غفل هؤلاء حقيقة أن للجنوب أوجاً متعددة كامنة في أعماقه وتفاصيله المتدثرة زمناً برداء القهر والظلم الجمعي الماحق كيان الجنوب وأهله.
وإذا كانت المعاناة القاسية قد جمعت شمل فرقاء المراحل التاريخية المختلفة ؛ فإن خوفي وقلقي من قابل الأيام وما تحمله من بذر شقاق وفرقة، فكلما اقتربنا من تفاصيل الحل السياسي للقضية الجنوبية ابتعدنا مسافة شاسعة عن ذلكم الجنوب الواحد في كيانه وشكله وقضيته العمومية.
 لم يخطئ ممثل الأمين العام للأمم المتحدة جمال بن عمر حين حذر فصائل الحراك الجنوبي من تكرار أنموذج القضية الفلسطينية التي تعددت قيادتها وفصائلها وتبعاً لهذا التفكك والانقسام كان ولابد من تعدد الدول الداعمة للحق الفلسطيني، إذ صارت كل دولة حاضنة لحركة أو جبهة. نعم الفارق كبير وشاسع بين القضيتين، لكن ذلك لا يمنع من أن تكون التفاصيل الدقيقة حول ماهية الجنوب وقضيته ؛ بداية لخلافات عميقة - لا أقول اختلافات – سينتج عنها قيادات عدة، لكل واحدة منها جهة متبنية ومستقطبة وطنياً وإقليمياً ودولياً.

في الجمعة 25 مايو 2012 12:59:55 ص

تجد هذا المقال في صحيفة أخبار اليوم
https://akhbaralyom.net
رابط الصفحة
https://akhbaralyom.net/articles.php?id=68258