الفراق أوكسجين الحب "2"
أحلام القبيلي
أحلام القبيلي

الفراق
 أقسى الكلمات وأوجعها على الإطلاق.. كلمة تقطر ألماً ومرارة، كلمة تعاف سماعها الأذن ويتأذى من ذكرها الفؤاد، الفراق شبح يطارد كل عاشق وكابوس يقلق راحة كل محب، ذكره ينغص العيش ويبعث الشقاء وطقوسه تحرق القلوب وتفتت الأكباد حتى قال الشاعر:
 لو فارق الحجر القاسي أحبته
                 لذاب من حر نار الفرقة الحجر
 يا ليت الوداع ما كان:
 ويبدأ الفراق بلحظات وداع قاتلة تمزق القلوب وتقرح الأجفان ويتوقف معها الزمان ويدور بالمرء المكان حتى تمنى "علي الانسي" أن ليت الوداع ما كان، وقد يعمد البعض إلى تجنب لحظات الوداع والهروب منها كما فعل هذا الشاعر:
 ما اخترت ترك وداعكم يوم النوى
              والله لا مللاً ولا لتجنبِ
 لكن خشيت بأن أموت صبابةً
                 فيقال أنت قتلته فتُقاد بي
 ويقول آخر:
 يوم الوداع شَكَيت ترك وداعكم
 والعذر فيه موسع توسيعا
 أو هل رأيت وهل سمعت بواحدٍ
 يمشي يودع روحه توديعا
 ويشكو الطرف الأخر ترك وداعهم:
يا راعي الضأن في تلك الربوع
              مالك تفكر ودمعك قد زجم
 فقال خلي عزم يوم الربوع
 
                  ما عاد ودعني ولا أدى لي رقم
 من غاب عن العين غاب عن الخاطر:
 ويؤمن بعض الناس بأن الفراق والبعاد يغير المشاعر ويبدل العواطف وحجتهم في ذلك المثل القائل:
" من غاب عن العين غاب عن الخاطر"
 وقول ابن زيدون:
"إذ طالما غيَّر النأي المحبينا" ويعارضهم آخرون على لسان الشاعر اليمني القائل:
 غبت عن عيني ولكن
           في الحشأ مازلت ساكن
 وقول بن ذريح:
 تمر الليالي والشهور ولا أرى
             غرامي لها يزداد إلا تماديا
 وأنا مع الفنان أيوب طارش الذي وضع للوفاء شرطاً فغنى قائلاً: مهما يلوعني الحنين, شاصبر وأراعي لك سنين
 وشرطه:
وأعطيك كل العمر
 " ما دامك على عهدك أمين"
 ومع المثل القائل: ما زاد عن حده انقلب ضده.. وشجرة الحب إذا لم تسقَ تموت ككل الكائنات الحية
 الفراق أوكسجين الحب:
 ورغم كل ما قيل ويقال عن الفراق وآلامه وأوجاعه وآثاره وجوانبه السلبية، إلا أن للفراق جوانب ايجابية وفوائد عظيمة في كل المجالات لو علمها المحبون لعرفوا قدره وبجلوا أمره، فالفراق يستر العيوب ويغفر الذنوب ويظهر المحاسن ولهذا سمح الشرع بالهجر دون ثلاث للمتخاصمين.
 تقول الأمثال اليمنية: ابعد عن اهلك يحبوك وجيرانك يفقدوك ومن مات تذكروا حسناته، ويقول المثل العربي: زر غباً تزدد حباً، فمن المتعارف عليه أننا لا نعرف قدر ومكانة أي شيء في حياتنا إلا إذا فقدناه أو فارقناه، ولهذا قال الشاعر:
 سيفقدني قومي إذا جد جدهم
       وفي الليلة الظلماء يفتقد البدر
 وإذا فارق الإنسان صحته وعافيته رآها تاجاً على رؤوس الأصحاء. وفي أوطاننا العربية والإسلامية لا يحصل المبدعون والمتميزون على أي اهتمام أو تكريم إلا بعد أن يغادروا هذه الحياة حتى قال جمال الدين الأفغاني رحمه الله:
 الأديب في الشرق يموت حياً ويحيا ميتاً والفراق يأجج المشاعر ويجلو العواطف ويزيد الأشواق ويحفظ الحب ويطرد الملل وقد كان عمر رضي الله تعالى عنه يضرب الحجُاج إذا حجوا ويقول:
 يا أهل اليمن يمنكم ويا أهل الشام شامكم ويا أهل العراق عراقكم ولذلك همَّ عمر رضي الله تعالى عنه بمنع الناس من كثرة الطواف وقال : خشيت أن يأنس الناس بهذا البيت يقول الشاعر:
 وقد زعموا أن المحب إذا دنا
             يملُ وان البعد يشفي من الوجدِ
 ويقول جميل بثينه:
 يموت الهوى مني إذا ما لقيتها
           ويحيا إذا فارقتها فيعود
 أما الأستاذة/ غادة السمان فقد وصفت الفراق بأنه أوكسجين الحب وقالت إن الحب اخترع الفراق ليحيا، فمن يقترب كثيراً يصير بعيداَ وان الحب مصنوع من مادة ملونة وهشة وجميلة تشبه أجنحة
 الفراشات الهاربة كالزمن وحين نلقي القبض على الفراشة ونتأملها عن قرب تتكسر أجنحتها السحرية الجمال ونلحظ أنها مجرد حشرة. ولكن لماذا: طبعاً علمنا بعد كل ما قيل أن الفراق أوكسجين الحب إلا في حالة واحده وعلاقة فريدة هي علاقتنا بالله تعالى، فالفراق في هذه العلاقة ثاني أوكسيد الكربون يخنق ويقتل ولكن لماذا؟ لأن الله جل وعلا هو الحقيقة الوحيدة, وكل ما سواه باطل
إذا اقتربت منه عرفت انه كذب وزيف فتكرهه أو تمل منه.
قال تعالى في حديثه القدسي " ((إذا تقرب العبد إليَّ شبراً تقربت إليه ذراعاً، وإذا تقرب إلي ذراعاً تقربت منه باعاً، وإذا أتاني يمشي أتيته هرولة)) رواه البخاري.

في الإثنين 28 مايو 2012 03:46:38 م

تجد هذا المقال في صحيفة أخبار اليوم
https://akhbaralyom.net
رابط الصفحة
https://akhbaralyom.net/articles.php?id=68291