لنستوقف التأريخ!
نجيب أحمد المظفر
نجيب أحمد المظفر

التأريخ ذاكرة الأمم والشعوب الحية التي لا يمكن أن تزور, كان وما يزال خير شاهد لنا أمة العرب والمسلمين بأحرف كلماته المستنيرة بشموس إنجازاتنا المتقدة التي أنارت صفحات عصوره المظلمة, فهدت الحيران, وأرشدت الضال, وأطعمت الجائع, وأنصفت المظلوم, أننا أمة استطاعت ولفترة من الزمن ليست بالهينة على أن تستوقف التأريخ لتعيد صياغته من جديد, وما ذاك إلا يوم أن كنا للقرآن محكمين, وعلى هدي النبي صلى الله عليه وسلم سائرين, وللعزة من الله مستمدين, ولشعائر الله معظمين, وعند حدوده متوقفين, فكنا كما قال قائلنا:
ملكنا هذه الدنيا قروناً                 وأخضعها جدودٌ خالدونا
وسطَّرنا صحائف من ضياء           فما نسي الزمان ولا نسينا
حمَلناها سيوفا لامعاتٍ                 غداةُ الروع تأبى أن تلينا
إذا خرجت من الأغماد يوما         رأيت الهول والفتح المبينا
وكنا حين يأخذنا ولي                 بطغيان ندوس له الجبينا
وكنا حين يرمينا أناس                  نؤدبهم أُباةً صابرينا
أما اليوم وبعد أن تغير الحال فصار كما قال القائل:
وما فتئ الزمان يدور حتى          مضى بالمجد قوم آخرون
           وأصبح لا يُرى في الركب قومي      وقد عاشوا أئمته سنينا
فإننا أحوج ما نكون إلى مراجعة التأريخ لنستيقن عندها أننا لسنا أمة قطعت من شجرة, كما هو شعور بعض المنهزمين التائهين الذين أصبحوا منقادين لكل ناعق, بعدما انحطت هممهم, وماتت عزائمهم, وغابت أهدافهم, وانطمست هويتهم, وفقدوا الشعور بالانتماء, واستسلموا للعجز, وسلموا للواقع المؤلم, وبقوا تحت مظلة المستحيل, مع التسليم من الجميع أن عذاب الهمة عذب, والعزيمة القوية تفل الحديد, ومن صدق في هدفه مع الله صدقه الله, والشعور بالانتماء لأمة ضاربة جذورها في أعماق التأريخ خلاص من التيه ومولد للتفاؤل, وتجذير الهوية الإسلامية في النفوس مفجر للطاقات, وداع على الإصرار, ومخلص من العجز, وثورة على الواقع المؤلم, ومحرر من البقاء تحت مظلة المستحيل. بهذا التسليم تحرك شيخ كبير في السن اسمه يوسف ابن تاشفين ولم يقف موقف المتفرج مما يحدث من إذلال وتسلط على المسلمين في الأندلس من قبل النصارى, بل تحرك من بلاد المغرب متجهاً صوب الأندلس ليقود هناك جيشاً قوامه ثمانية وأربعين ألفاً ليواجه بهم في معركة الزلاقة ثمانين ألفاً من النصارى بقيادة ألفونسو ملك قشتالة الذي أراد أن يستولي على اشبيلية, فكان أن أرسل إليه ابن تاشفين قبل المواجهة رسالة قال له فيها بعزة المؤمن الواثق بنصر الله, (بلغنا يا أدافوتش ـ ألفونسوـ أنك دعوت إلى الإجتماع بنا, وتمنيت أن تكون لك سفن تعبر فيها البحر إلينا, فقد عبرنا إليك, وقد جمع الله في هذه الساحة بيننا وبينك, وسترى عاقبة دعائك, وما دعاء الكافرين إلا في ضلال)، فلما دارت رحى الحرب بعد هذه الرسالة كانت النتيجة أن بترت ساق ألفونسو وحدثت لجيشه قتلة عظيمة حتى أن ما تبقي له من جيشه لينسحب بهم قرابة المائتين والخمسين مقاتل فقط من الثمانين الألف, وهنا ومن خلال موقف هذا حجمه وتلك نتائجه استوقف ابن تاشفين التأريخ, ليسجل أنه رغم شيخوخته التي بلغ عندها عمره التاسعة والسبعين اجتاز البحر قاصدا الأندلس من المغرب, ليعيد عقارب التأريخ إلى الوراء لصالح المسلمين في الأندلس من خلال معركة الزلاقة التي قال المؤرخون عنها أنها أشبه باليرموك والقادسية, وأنه ترتب على نتائجها استعادة الهيبة الإسلامية في الأندلس وتجديد الوجود الإسلامي بقوة على مدى أربعة قرون تقريباً, وكان ذلك حينما وقف الشيخ أمام هذا الموقف بهمة عالية, وعزيمة ماضية حتى أنه لم تثنه عن عزمه أمواج البحر العاتية التي وقف عندها بإيمانه مخاطبا ربه قائلا: (اللهم إن كنت تعلم أن في جوازنا هذا خيرة للمسلمين فسهل علينا جواز هذا البحر, وإن كان غير ذلك فصعبه, وما كاد يتم دعاءه حتى سهل الله المركب وقرب المقصد, وتم العبور في ريح طيبة وبحر هادئ)
 فإذا كان ابن تاشفين بهذا الموقف الرهيب قد عمل على تمديد الوجود الحضاري لصالح المسلمين قرونا, أفلا نستطيع نحن ومن مواقعنا وبحسب تخصصنا أن نستوقف التأريخ, لنجدد أمجاد وبطولات خالد والمثنى وسعد والنعمان وطارق والفاتح العسكرية, ونجدد كذلك أمجاد الشافعي ومالك وأحمد وأبو حنيفة الفقهية, ونجدد أمجاد ابن رشد وابن سيناء الطبية, ونجدد أمجاد ابن خلدون الاجتماعية, لنحرر أمتنا من الارتهان والتبعية.
nagebmodafr@yahoo.com
في السبت 04 أغسطس-آب 2012 03:33:04 ص

تجد هذا المقال في صحيفة أخبار اليوم
https://akhbaralyom.net
رابط الصفحة
https://akhbaralyom.net/articles.php?id=68980