من ذاكرة رمضان ..
أحلام المقالح
أحلام المقالح

بالعودة للوراء كثيراً، تحديداً إلى رمضان في الطفولة وما يزحف منها والتنقيب في ذاكرة رمضان عن ملامح رمضان وعن ملامحنا كان الفارق ملموساً ظاهراً وباطناً بما يبعث في النفس الضحك والبهجة وفي نفس الوقت الفُقد والحزن!
رمضان الذي كنا نستقبله صغاراً ببشاشة وفرح فنجوب الحارة والحارة المجاورة نردد أهازيج طريفة أعتدنا على استقبال رمضان بها كـ (رمضان جانا ما نهبله ..هبله دجاجة تلعبله) و (يا رمضان محلاك محلاك فيك التمر والمشبك) ونضل نصرخ في المنزل (شوّاعه شوّاعه) بعد أن تجهّز والدتي وجبة السحور لأول يوم برمضان بما نسميها نحن بالمنزل (الشوّاعه)، وهكذا يأتي رمضان بعد سهر طويل لإستقباله فتغفل أعيننا عن وجبة السحور أو لربما نتناولها بعين واحدة من فرط التعب..
لم نكن نعي بعد أن ساعات الصيام ستحمل لنا من المشقة والتعب ما لا تقوى عليه أجسادنا وأعمارنا بعد فنصحو باكراً كالعادة ونتسلل للخارج خشية إيقاظ من في المنزل عدا الأم فهي من تصحو مبكراً وتعدنا للذهاب للمدارس ونعود منها نعاني الجوع والعطش ورائحة الطبخ تلاحقنا، كان الحل دائما يأتي من أحن قلب فترثى لأحوالنا فتسارع إلى محاولة إقناع أبناءها بأن صوم نصف يوم لا بأس به ولا مشكله بالأكل في منتصف النهار وإتمام الصوم حتى مدفع الإفطار وأن الله سيغفر لنا فقط حتى نكبر قليلاً، وكان الرد يأتي ببراءة (وكيف ستُحسب يوما كاملاً؟؟..مؤكد أنها ستلتصق لتصبح يوما أليس كذلك يا أمي!) ..
ساعات الليل كانت الأجمل فهي الأبرك والأوسع والأثمن تبدأ بصلاة التراويح والذي كنا كثيراً ما نتفاخر بها وعدد ركعاتها كلٍ أمام الآخر وتمر بساعات قضيناها أكثر الأحيان مع الجيران والأصدقاء في الشارع طيلة الليل في العاب شعبية تغلّف الأجواء بالبهجة وإن انقلبت أحياناً إلى حروب طاحنة بين اللاعبين أتذكر منها لعبة (كبّة الطيار،ملاحقة، غميضة،الجري، شد الحبل وغيرها) ولعل الأضواء في الشوارع هي ما تمد ساعات اللعب لساعات متأخرة من الليل ...
وبغض النظر عن كابوس الاستيقاظ للذهاب للمدرسة ومشقة الصيام تحت وطأة الحر أو البرد إلا أن رمضان كان يُستقبل بحفاوة بعيداً عن إزعاج الألعاب النارية وإحراق الإطارات كما يحدث اليوم ويوّدع بحزن دون فرحة الأطفال بالعيد بعكس ما يحدث الآن فالطفل ذو الـ 9 سنوات يسألني في أول ليلة برمضان (كم تبقى لنا من رمضان ؟!) وقد يتبادر لأذهاننا أنه يصوم لذا يترقب نهاية الشهر والحقيقة " لا"!
لا أعلم لما يتهاون الآباء والأمهات في تعويد أطفالهم ممن تزيد أعمارهم عن 7 سنوات على الصوم ولو رويداً رويداً تحت حُجة (مازال صغيراً لا يتحمل الصوم) لدرجة أني بتُ أرى ذوي العشر سنوات وال11 سنه لا يعرفون للصيام وقتاً، من شب على شيء شاب عليه فهل يعي الأهل أن أبناءهم سيكبرون على فكرة أن الصوم مشقة وتعب وإن صاموا فسيكون صومهم ثقيلاً دون احتساب الأجر والثواب بإعتبار هذا هو أساس الصيام، ولعل ما يُثلج صدري ويبعث الابتسامة هو حينما أرى إصرار إحدى الأمهات على تعويد أبناءها على الصوم فكان أحدهم يتظاهر بالمرض أو الدّوار لأجل أن تسمح له بالأكل بعد عودته من المدرسة فكانت تشد من أزره وتشغله بأمور عدة تارة بالتلفزيون وتارة باللعب بعد أن ترش على وجهه وجسده قليلاً من الماء كي يستعيد بعض قواه حتى موعد الإفطار وهكذا منذ أن كان عمره 7 سنوات وهو يصوم الشهر كاملاً عدا حالات المرض ..كذلك الحال لبقية العبادات كانت تأتي بالتمرس فكبر وكبر معه التعلق بها ..

رمضان اليوم هو ذاته بالأمس ولكننا لم نعد كما كنا!، نحن من نلبسه أثواباً عديدة بعد أن تغافلنا عن أعظم جوهرياته فجذبتنا القشور وتركنا لُب الفائدة، رمضان اليوم بات يعني (أكل، نوم، مسلسلات، تفاريط، سوء معاملة أثناء فترة الصيام وأسواق ولعب بلياردو و مقايل لساعات السحور) وكأن رمضان يأتي لأجل هذه الأشياء فقط!
نحن بحاجة إلى تحسس جوهريات هذا الشهر الكريم لاغتنامها قبل انقضاء الشهر فتُعض الأنامل ندماً فيما بعد على فواتها مع الحفاظ على جو البهجة والأُنس الذي نفتقده منذ طفولتنا التي مهما مرت السنون وكبرنا فستضل تزحف بذاكرتنا وسط الشعور بالفقد لتلك الأيام التي لا تُنسى ..
 

في الأربعاء 08 أغسطس-آب 2012 04:15:09 ص

تجد هذا المقال في صحيفة أخبار اليوم
https://akhbaralyom.net
رابط الصفحة
https://akhbaralyom.net/articles.php?id=69005