إلا الحماقة والجهالة !!
محمد علي محسن
محمد علي محسن

أحدهم يغلق مدرسة ثانوية لأسبوع؛ بداعي درجة وظيفية حُرم منها، كيف لا والفاعل يدعي بملكيته لمساحة أقيمت عليها المدرسة مطلع ثمانينات القرن المنصرم، أخر يغلق المعهد الصحي موقفاً الدراسة فيه حتى اللحظة هذه التي مازال طلاب وطالبات المعهد في انتظار أن يتسرب الملل إلى نفس الشخص؛ فيقرر من وطأة الإغلاق الدائم بلا فائدة ترجى أو مسئول يستجيب مغادرة المكان .
ثالث يقرر وجماعته إغلاق مكتب التربية والتعليم في المحافظة، وإجبار موظفيه وإداراته وأقسامه ومراجعيه على الانتقال إلى غرف اضطرارية قريبة من حمى القبيلة، وتم تأجيرها بعيداً عن سطوة المسلحين المهيمنين على عاصمة المحافظة .
 لقد وصل الحال إلى إجبار الطلاب على ترديد نشيد "بلادي بلاد الجنوب" وفي طابور الصباح، كما وبلغ الأمر بهؤلاء إلى إخراج تلاميذ المدارس وكلية التربية إلى تظاهرات شبه يومية وفي شارع وحيد يعج بحركة السيارات والباعة والدراجات والقمامة وطفح المجاري .
واقع مرير يذكرني عادة بالشاعر العبقري/ أحمد مطر وقصيدته الشهيرة "عباس يقظ حساس" فعباس هذا جبل على تهذيب سيفه وشاربه، سرق اللص نعجته، اقتحم داره، بدأ جاره بمغازلة امرأته، كل هذه الأفعال وصاحبنا عباس منهمك في شحذ حسامه وفتل شاربه، سئل عباس: لماذا تثقف وتحتفظ بسيفك أجاب : إلى وقت الشدة .
حالنا كذلك؛ فكل يوم والدولة ونظامها ووجودها ينحسر لمصلحة الفوضى والهمجية والتخريب والاختطاف والخوف والقتل، يسأل الواحد منا: لماذا تُغلق المدرسة؟ ولماذا تنطفئ الكهرباء؟ ولماذا يتوقف مشروع مياه؟ ولماذا تتوقف النظافة ولا يتوقف طفح المجاري؟ لا نريد من الجيش والأمن قمع تظاهرة أو اجتياح حي سكني؛ بل نريد منها حماية المواطن ومنشآته وكرامته وحياته .
يا إلهي أوزعني صبراً كي احتمل سعار الجهلاء وصمت العقلاء! تسأل وبضيق وحسرة: أين عقلاء هذه البلاد العزيزة المثقلة دوماً بتصرفات جهلتها العبثية النزقة المخجلة؟ أين السلطة المحلية؟ أين المحافظ وأين الرجال المخلصين الغيورين؟ أين مدير الأمن وأين قواته الكثيفة المتعددة المسميات والمهام؟ أين الأمن المركزي وأين النجدة وأين الأمن العام من هذا العبث الحاصل لمؤسسات الدولة وللخدمات الحيوية وللمدارس والطرقات والسكينة العامة؟ .
مشروع المياه, آباره الرئيسة متوقفة عن الضخ مذ قرابة عامين، تسأل وبعفوية وسذاجة لماذا مشروع المياه متوقف؟ فتأتيك الإجابة بليدة ووقحة: السلطة المحلية حريصة على حقن الدم، إنها لا تريد استخدام القوة على جماعة مسلحة خارجة على النظام والقانون، وكي تبسط سلطتها على مشروع خدمي وحيوي كمياه الشرب المتوقفة نتيجة لأعمال تخريبية فوضوية .
مدينة الضالع تستقبلك وتودعك برائحة طفح مياه الصرف المتدفقة في شوارعها وأحيائها وعلى مدار الساعة، تسأل وبكل صفاقة وقلة حيلة: ألا توجد جهة مسؤولة في المحافظة تحترم نفسها فتقوم بواجبها إزاء كارثة بيئية وصحية وأخلاقية وإنسانية كهذه؟ ألا توجد جهة مسؤوله واحدة يؤرقها ضميرها حيال وضعية مزرية لا يستلزمها أكثر من تنفيذ مشروعها المتعثر؟ .
لا أعلم كيف يطيب المقام للمسؤولين في المديرية والمحافظة فيما مياه الصرف تتدفق وبغزارة منغصة الحياة والحركة؛ وحتى الكلام عن التنمية والاستثمار والتعليم والصحة والسياحة وووالخ من الأشياء التي يصير الحديث عنها في هذه الحالة مجرد صلف ووقاحة؟
تلاميذ صغار تراهم يجهدون أنفسهم كي يعبروا بحيرة وشلالات من المياه القذرة الكريهة الآسنة بمحيط مدرستهم، مرضى المستشفى تستقبلهم الرائحة النتنة في غدوهم وعودتهم، أطفال الروضة الوحيدة في الضالع تحاصرهم بحيرة البجع وكأنما روضتهم جزيرة! مكتب البريد الرئيس، سوق القات والخضرة، الشارع العام، فما من مسلك نظيف يفضي بك دون لعن وشتم! .. فما من عابر سبيل أو مرتاد سوق إلا وينال قسطه من الأذى البدني والنفسي .
ألا تستحق هذه البقعة المتعبة المنتهكة شيئاً من التظاهر والاحتجاج المطلبي الواقعي؟ ألا تؤثر فيكم هذه النتانة والقذارة؟ ألا يوجد فيكم عاقل رشيد يعي معنى أن ينتصر الإنسان لذاته ومُثله وفكره دون أن يسقط في وحل الخراب والانحلال ؟ هل علينا أن نتحلل من قيمنا وهويتنا وتاريخنا ونضالنا وتقدميتنا وحتى حاجتنا للنظافة وللدولة؛ كي نثبت ما لا يحتاج إثبات ودليل؟.
إنها لمأساة حقيقية هذه التي نشاهد فيها أبنائنا يجوبون الشارع أو يهتفون لتحرير الجنوب، فيما الأولى بهم الجلوس في قاعة الدرس، وإذا ما قدر لهم وهتفوا؛ فليكن برحيل الجهل والجهلة من ديارنا ومدينتنا ومدارسنا وثوراتنا، وليكن من أجل نظافة شوارعنا وعقولنا ونفوسنا وحياتنا المليئة بالقبح والهمجية والقتل والتجهيل والفساد والقذارة .
ختاماً يقول الشاعر/ معروف الرصافي: إذا ما الجهلُ خيَّم في بلادٍ ... رأيت أُسودها مُسخت قُرُودا، الواقع يشير إلى أننا لم نعد نكترث بماهية الكارثة التي نعيش فصولها دونما إحساس بها، فليس معاناتنا فقط من غياب الدولة أو تخلي مسؤوليها عن واجبهم القانوني والأخلاقي؛ إنما – أيضاً – من هذا السقوط القيمي والسلوكي والأخلاقي الجمعي الذي يتربعه الجهل والجهلة، فلكل داءٍ دواءٌ يُستطبُّ به .. إلَّا الحماقةَ أعيت من يُداويها .
                                                                  

في الثلاثاء 08 يناير-كانون الثاني 2013 02:28:20 ص

تجد هذا المقال في صحيفة أخبار اليوم
https://akhbaralyom.net
رابط الصفحة
https://akhbaralyom.net/articles.php?id=70507