شعب الظلام ووهج أديسون!!
محمد علي محسن
محمد علي محسن


الوطواط كائن غريب الأطوار، فمع أنه يتمتع بمزية الطيور، وحاسة تجعله يزاحم النحلة في ذوقها ورحيقها، ويفوق اليعسوب في حدسه واستشعاره؛ إلا أنه فُطر العيش في جنح الظلام، وفي سواده البهيم تجده جزعا مذعورا عكس مخلوقات السماء الفرحة في ملكوت الله المضيئة الفسيحة.. علاوة على ذلك للوطواط حنجرة العصافير المغردة ببزوغ شمس الربيع، وبصر اليمامة حدة ورؤية للكائنات الصغيرة الزاحفة أو الطائرة، ومع ما يتمتع به هذا الكائن من مزايا الطيور الفضائية؛ لا يستطيع أن يطير كثيراً، أو يبصر طريقاً، ففطرته تأبى أن تكون إلا لحياة الظلام.
للوطواط مواهب وقدرات تؤهله لبلوغ الشهب والنجوم، وليس فقط لمغادرة عتمة الليال الموحشات التي أستأنسها، ولدرجة أنها صارت رديفاً لحياته العجيبة المغايرة لفطرة الخلق، ولأقرانه الطيور الهاجعة في أعشاشها، وأوكارها، وبيوتها ليلا، ففي الوقت الذي تسترح وتنام فيه طيور الأرض كافة؛ يفرد الوطواط جناحيه متسللاً من عتمة نهار طويل إلى حلكة فضاء آخذة بالانحسار والزوال.
ونظراً لمصباح أديسون الآخذ ضوئه بالانتشار والتمدد، وعلى حساب الساعات والأمكنة المعتمة؛ فلقد ضاق الوطواط من هذا الزمن الصاخب المتوهج ليله، ولحد لم يعد يمايز فيه الفارق ما بين ساعة نهار أو ليل، كما أنه ما من لحظة تمر ؛ إلا وتسلبه وقتاً ومأوى، فكلما زادت الإنارة كثافة واتساعاً قلت وانحصرت المساحة المعتمة، وكلما زاد العمران والتطور مساحة وبنياناً وتقنية نفقت وانقرضت خفافيش المعمورة.
وإزاء الكارثة المحدقة بسلالة مهددة بالانقراض عاجلاً أم آجلاً، ارتأت هذه الفصيلة النادرة مواجهة وهج أديسون الذي لا يبقي مخلوقاً أو يذر عتمة ؛ إلا وولجها منيراً مستبيحاً وحشة الظلام، ففي هزيع آخر بقعة معتمة، عقدت الوطاويط جلسة طارئة وأخيرة، ناقشت فيها محنة شعبها المهجر ظلماً وعدواناً، ومن موطنها الكوني الفسيح إلى بقايا سقوف وزوايا وجدران أزمنة التاريخ المظلمة.
وبعد الأخذ والرد أقترح الحاضرون بوطن بديل يضم شعب الظلام، نعم وطن آخر على غرار فكرة ادوارد هرتزل وجماعته الصهيونية الجامعة لشتات يهود العالم وعلى أرض لم تكن لهم أبداً، وإذا لم يكن وطناً دائماً ومستقراً؛ فعلى الأقل لابد من ملاذ مؤقت واضطراري تستوطنه أسرابها، أسوة بجماعات الإرهاب المستوطنة كهوف وجبال وقفار أفغانستان واليمن والصومال وسواها من الملاذات الأخيرة الخفاقة فيها رايات سوداء وجماعات دهماء ظلامية لا تستطيع التكيف مع العصرنة والحداثة والتنوير.
احد المدافعين عن حق الحيوان كان قد أشار على وطاويط المحفل الغفير بمخاطبة مجلس الأمن، وإذا لم تتوافق دوله الخمس دائمة العضوية ؛ فيتوجب إحالة مطالبته للجمعية العمومية بكامل أعضائها، وفي حال لم تحظ باهتمام المنظمة، ستوجه شكواه لمحكمة الجنايات ولمنظمات حقوق الكلاب والطيور والسلاحف والتماسيح وووالخ من المخلوقات الطائرة أو الزاحفة التي لم يهزمها اليأس أو البطش، حتى أُعترف بها كمخلوقات تتمتع بكثير من الحقوق والحريات.
 وعلى هامش مؤتمر دولي عني بالطاقة وأثرها على البيئة وطبقة الأوزون، وما ترتب عنهما من تلوث واختلال في حرارة الشمس المتزايدة سخونة، ولدرجة تنذر بفناء كافة كائنات الأرض؛ كانت معاناة خفافيش الظلام قد أدرجت ضمن جدول المؤتمر، فبعد جهود ومساعٍ مضنية بذلها وفد الخفافيش، قررت المنظمة أخيراً الامتثال لمطلب شعب الوطواط، وطرح قضيته ضمن نقاشات وتداول هذا المؤتمر الأممي المكرس للطاقة والبيئة، وذلك لصلة النور والتلوث بمعاناة شعب الظلمات.
في الجلسة المخصصة لكلمة الوطاويط، كان أمين عام المنظمة، بان كي مون، قد اعتذر للأعضاء عن عدم مثول مبعوث شعب الظلام أمامهم لتأذيه من أضواء القاعة، وعدسات الكاميرات المسلطة لمنصة المتحدثين، على هذا الأساس اقترح على الحاضرين ؛ إما الأصغاء لكلمة موفدهم، وعدم الانزعاج لصريره المتسلل من عتمة السرداب السفلي؛ وإما إطفاء الأنوار المؤذية، وإغلاق كافة مصادر الإضاءة؛ كي يتاح لهذه المخلوقات الظلامية مخاطبة ممثلي دول العالم من المنصة ذاتها المحددة للرؤساء والزعماء والسفراء..
 مقترح غريب، لكنه ومع ذلك وضع للتصويت المباشر، حاز مقترح إطفاء القاعة غالبية الأصوات، فباستثناء عشرة أصوات عارضت وخمسة امتنعت كانت مائة وخمسون دولة قد تعاطفت مع معاناة مبعوث شعب الظلام، إذ صوتت بمصلحة تداول النقاش في عتمة حالكة سوداء، وفي بادرة هي الأولى في مضمار قضايا الأمم والشعوب المنظورة من المنظمة الدولية.
في نهاية الجلسة أصدرت الجمعية قرارها الشهير والخالد في ذاكرة البشرية، إذ كلفت أمينها العام بإيفاد من يراه مناسباً لتقصي مأساة شعب الوطواط، ورفع تقريره خلال مدة شهر واحد، أعلنت وسائل الإعلام نبأ الجلسة وقرارها، رحب الاتحاد الأوروبي بقرار المنظمة الدولية، وأعربت روسيا والصين، والجامعة العربية، ومجلس التعاون الخليجي عن دعمها ومساندتها لحق هذه الكائنات الغريبة في العيش والحياة الحرة والكريمة.
 جلس كي مون يناقش المسألة مع رجاله المحيطين، انقضى الشهر ولم ينجز تقريره ؛ فعاد للمنظمة طالباً تمديد فترة الشهر إلى شهرين، إلى ستة أشهر، ومن ثم سنة، وسنتين، والآن على وشك الانتهاء، فيما هو بالكاد عرف موطن هذه المخلوقات الظلامية، اهتدى لكهوفها المخيفة، ايقن تماماً باستحالة إدماجها، وتعايشها، وتقرير مصيرها، ما لم تكن جاهزة ومستعدة لمغادرة مواطنها المعتمة، وما لم تكن الكائنات الإنسانية والعولمية- أيضاً- بمستطاعها التكيف مع عتمة الانطفاء وسريالية العصور المظلمة..
المهم في النهاية قرر النمر الكوري بان كي مون إيفاد مستشاره الخاص إلى شعب الظلام، ومذ وصول العربي المغربي السيد/ جمال بن عمر ومهمته مكرسة للتوفيق ما بين مخلوقات تأبى فطرتها العيش خارج الغسق، وبين كائنات لا تحتمل انطفاء الكهرباء.  

في الأربعاء 10 إبريل-نيسان 2013 05:27:23 م

تجد هذا المقال في صحيفة أخبار اليوم
https://akhbaralyom.net
رابط الصفحة
https://akhbaralyom.net/articles.php?id=71446