ثورة وانقلاب يد واحدة!!
محمد علي محسن
محمد علي محسن

ما حدث في مصر لم يكن فقط ثورة شعبية أو انقلاباً عسكرياً محضاً على حكم الإخوان؛ وإنما يمكن قراءة ما حدث على أنه ثورة وانقلاب في آن واحد.. كيف ثورة شعبية وانقلاب عسكري؟.. الإجابة: ملايين ساخطة مطالبة بإسقاط الرئيس محمد مرسي، ومؤسسة عسكرية عاملة ومتوثبة للعب دور سياسي يعيدها إلى واجهة الأحداث والوجود كحامية للدولة والجمهورية المصرية من الانهيار في أتون الفوضى، وكسلطة ونفوذ وصانعة للحكام وللسياسة المصرية والقومية وإن بطريقة مستترة ومزاوجة ما بين ظاهرها المدني المستقل والمحايد وبين جوهرها العسكري العميق المتغلغل في مؤسسة الحكم.
 نعم, الشعب مصدر كل سلطة وشرعية، ونعم إنه ما من حاكم شرعي بعيد نزع الشعب عنه صفة المشروعية، ومن خلال تظاهرات شعبية مهولة يفوق تعدادها ملايين الأصوات الممنوحة له في الانتخابات!.. لكننا إزاء حالة عجيبة غريبة يصعب فصلها عن سياقها الثوري العسكري أو العكس، فمن ناحية كونها ثورية وشعبية ومطلبية ولها هدفها المتمثل بتصحيح الوجهة وتبديل المعادلة المختلة الناتجة عن خطأ مقترف وقت الانطلاق؛ فبكل تأكيد مظاهرها الاحتجاجية لا توحي بغير أنها ثورية، وغايتها الأساس استبدال الصورة المشوهة القائمة؟.. إما وإذا ما قلنا بأنها عسكرية انقلابية، فنهاية هذه الثورة كانت سريعة وحاسمة اقرب للانقلابات العسكرية التي عادة ما تستهل بالبيان الأول، وبتعليق العمل بالدستور، واعتقال الرئيس وكبار رجاله، وبموازاة مع إغلاق نوافذه الإعلامية والدبلوماسية ومحاصرة أتباعه ومؤيديه وحجزهم في نطاق ضيق ولو لبعض الوقت، وريثما تزول سحابة المدرعات الانقلابية. 
شخصياً لا أستطيع نفي وجود ثورة قوامها الملايين ومكانها المحروسة، كما ولا أقدر نكران حقيقة هذه الحشود الضخمة في الساحات والميادين، فمهما كانت درجة تعاطفي أو نصرتي للرئيس مرسي باعتباره أول رئيس مدني منتخب ديمقراطياً، لكن تعاطفي هذه لا يعني عدم احترامي للملايين الثائرة المناهضة لحكمه والقائلة وبلسان واحد وجهوري "ارحل"..
 وإذا كان هذا هو حالي مع ثورة إخوتنا المصريين؛ فإنني بالمقابل لا أخفي امتعاضي من تدخل الجنرالات وبتلك الصورة الفجة والدالة عن تحيز واضح وسافر وضار بثورة الشعب المصري ذاته المطالب الآن بعزل رئيس لم يمض على انتخابه وتوليته سنة كاملة، ففي المجمل أداء الجيش ربما اعتبرناه منقذاً للبلاد والعباد وفي ظرفية صعبة كهذه التي ظل فيها الرئيس متمسكاً بشرعيته الآتية عبر صناديق الاقتراع، لكننا وإذا ما نظرنا لتدخله هذه المرة سنراه مدعاة للقلق والتوجس, فلأول وهلة يصدر بياناً يمهل الرئاسة وقوى المعارضة أسبوعاً ومن ثم 48ساعة، وإلا فانه سيتدخل حماية للدولة وشعبها وآمنهما القومي، وهذا بالفعل ما وقع؛ إذ رأينا اللواء/ عبدالفتاح السيسي, وزير الدفاع القائد العام للجيش, يعلن بتعليق الدستور، وبتكليف رئيس المحكمة الدستورية رئيساً مؤقتاً حتى إجراء الانتخابات الرئاسية المبكرة، وتعديل مواد الدستور ووضع ميثاق شرف للإعلام.. كل ذلك تم فعله بعلم الرئيس القائد الأعلى للجيش، ودون الاضطرار إلى تنحيته ببيان مثلما هو الحال مع الرئيس مبارك الذي لم يكن سوى رئيس عسكري وفاسد ومستبد، ومع الفارق الشاسع بين رئيس مدني منتخب ديمقراطياً؛ لكنه فشل في إدارة المحروسة، وبين رئيس عسكري استولى على بلد ومقدراته وديمقراطيته لثلاثة عقود كاملة؛ كان جيش مصر كريماً في لطفه وتعامله وصبره على مبارك ورجاله القتلة الفاسدين الناهبين.. والعكس أيضاً مع الرئيس مرسي؛ إذ كان جيش مصر شهماً وكريماً هذه المرة مع الشعب ولحد دعمه وتشجيعه على ما هو أكثر من التظاهر والتمرد على رئيسه المنتخب قبل عام ؛ بل ووصل الأمر إلى الجهر بموقف الجيش المنحاز كلياً لتظاهرات الشعب ولسلطة الشعب وشرعية الشعب وجيش الشعب، ولوسائل إعلام الشعب، كما وشوهدت طائرات هذا الجيش وهي تلتقط بكاميراتها تظاهرات الشعب، وموزعة صورها لقنوات الشعب، ولأعلام دولة الشعب الموجود فقط في التحرير والاتحادية.
أريد الابتهاج بكون لدينا جيش عربي بهذه المكانة الرائعة التي جعلته محط احترام ومحبة الشعب العربي كله وليس فقط الشعب المصري؛ لكنني مع ذلك لم أبتهج بهذا الانحياز الجميل للشعب بكونه مالك السلطة والقوة، إذ أنني وبحكم معرفتي بالجيوش العربية وتركيبها وعلاقتها وولاء قادتها للسلطان, تكونت لدي قناعة بأن هذه الجيوش نادر جداً ما انحازت لمصلحة شعوبها، فكثيراً وغالباً ما وقفت بوجه ثورات التغيير، لذا صرت أخشاها أكثر من خشية الحكام المستبدين الذين لا قيمة أو صيرورة لهم من دون الترسانة الحربية وقادتها.
 كما ولا أخفي فرحتي وإعجابي بهذا الجيش المصري الذي يحسب له وقوفه بجانب الشعب المصري العظيم إبان ثورة 25يناير، والآن أيضاً يقدم لنا أروع صورة مشرفة، وفي وقت تقف فيه الجيوش العربية الأخرى في جبهة الحاكم المستبد، وفي مواجهة شعوبها الثائرة الخانعة نتيجة لهيمنة ثقافة البطش، والتنكيل، والقتل، والترويع، والنفي، ولا أظن ما يجري في سوريا سوى حالة مشاهدة من جملة حالات مروعة, وائدة لكل فكرة طموحة حالمة بالتغيير.
ومع رغبتي في الابتهاج والاعتزاز بما اجترحه الجيش المصري، وبانحيازه التام والمطلق للشعب؛ فإن تدخله الحاسم والسريع، وكذا خطابه وفعله تجاه الرئيس مرسي وجماعة الإخوان بلا شك يدعوني للتريث والانتظار؛ كيما تبدو الصورة جلية وواضحة، فما من شك أن وراء الأكمة ما وراءها.
 نعم, ما حدث أعده جميلاً ورائعاً إذا ما كان بالفعل غايته المواطن المصري، أما وحين يكون هدفه خدمة أجندة الجنرالات ومصالحهم الشخصية، وخدمة كبار الفاسدين والمستبدين, سواء من المصريين أو الأنظمة الإقليمية كالسعودية والإمارات؛ فإن الأمر هنا يدعو للحزن والارتياب.. كيف لا ينتابني الفزع والوجل وأول المهنئين للجيش المصري الملك/ عبدالله ووزير خارجية الإمارات؟, كيف لا أشعر بالقلق والجزع ومستهل ثورة الضباط إغلاق قنوات فضائية، واعتقال رئيس الدولة ورؤساء الشورى وحزب العدالة وجماعة الإخوان والقائمة لا تنتهي ممن يشتبه بانتمائهم لتنظيم الإخوان؟.
شخصياً أظن أن مصر أكبر وأضخم من أن يحكمها الإخوان الذين مازالوا غير مؤهلين لرئاسة وزارة ومحافظة؛ فكيف برئاسة حكومة وبلد كبير ومهم وحيوي كمصر؟, وكيف برئاسة شعب تعداده قرابة تسعين مليوناً وفيه من الكفاءات والخبرات والمدنية والمؤسسات والتعدد الثقافي والطائفي والإنساني ما يفوق قدرات وإمكانيات وأفكار جماعة الإخوان وتنظيمهم وكذا الحركات الإسلامية الموالية لهم؟.
لطالما قلت بأن فوز الإخوان بانتخابات الشورى والرئاسة لا يعني بحال من الأحوال أنهم الأفضل والأجدر؛ بل لأنهم التنظيم الأكثر جاهزية وإمكانية لقطف ثمار الثورة, ليس في مصر وإنما في أغلب ثورات الشباب العربي، حينها عاتبني كثير من إخوان اليمن الذين وجدتهم متشبثين بكونهم الفصيل الأكبر الأحق بحكم أرض الكنانة أو غيرها من الأوطان.
نعم؛ جماعة الإخوان ليست جاهزة ومؤهلة لقيادة مصر؛ ونعم الرئيس مرسي قضم لقمة هي أكبر من قدرة معدته على هضمها وفق تعبير رجب اردوغان, رئيس حكومة تركيا.. ونعم الرئيس مرسي لم يترك خياراً لمناوئيه سوى خيار قوة الجيش بكونها الأداة الوحيدة التي بمقدورها وضع حد لحالة الانقسام والشلل المهدد للدولة المصرية.. لكن كل هذه المبررات وعلى فرضية صحتها لا يمكنها نفي ودحض حقيقة عزل الرئيس وبطريقة عسكرية انقلابية أقل ما يقال عنها أنها خارجة عن سياق وأدوات ومفاهيم مدنية ديمقراطية عصرية ثورية..
ففي النهاية نحن إزاء رئيس مدني منتخب أخفق وتعثر في مهمة تعد أكبر منه وأكبر من تنظيمه الوليد ومن جماعته الدينية المسكونة بهاجسها وقالبها وديناميكيتها الوعظية الخيرية, وحتى فكرها وخطابها العتيق، وأمام ثورة غليانها لا يهمد بغير إزالة ومحو الصورة المشوهة، وإحلال بدلها صورة مغايرة معبرة عن وجه مصر الحقيقي والمتسق مع وجودها وكينونتها وحضارتها وأحلامها وآمالها وانفتاحها وثقافتها ومشكلاتها وتحدياتها, ووو.
نعم, نحن إزاء ثورة شعبية ناسفة لأية مشروعية، وإزاء انقلاب عسكري داحض لفكرة الانقلابات العسكرية التقليدية المتسمة بالعنف والمباغتة، في كلا الحالتين ثورة مصر الثانية لم تطح برئيسها شعبياً وديمقراطياً واحتجاجياً مثلما كان يأمل دعاة الدمقرطة والتمدن؛ فاقتضى الأمر عزله إنقلابياً وعسكرياً وبإغلاق منابر الإعلام وباعتقال لقيادات إخوانية وبمحاصرة قنوات ومؤسسات وتظاهرات مؤيدة للحكم..
كما ولا يستطيع مدعي فلسفة وحياد سياسي نفي حقيقة تلكم الملايين المناهضة لحكم مرسي وجماعته، فلأول مرة في التاريخ السياسي الحديث نجد ثورة بهذه الكثافة غير مسبوقة في التاريخ المصري الحديث أو القديم، وبهذه المدنية والسلمية والحضارية والتنظيم المدهش والأفكار المتقدمة ومن ثم تؤول هذه الثورة إلى القوى العسكرية الكلاسيكية ذاتها والتي كانت سبباً في تخلفها السياسي والحضاري والديمقراطي.. كما أنه ولأول مرة في التاريخ يعزل حاكم منتخب ومن خلال انقلاب عسكري ناعم غير مباغت أو مفاجئ أو عنيف, مثلما جرت عادة الانقلابات العسكرية.

في الأحد 07 يوليو-تموز 2013 06:20:59 م

تجد هذا المقال في صحيفة أخبار اليوم
https://akhbaralyom.net
رابط الصفحة
https://akhbaralyom.net/articles.php?id=72360