مرحيب بك يا الطيب الأصلي!!
محمد علي محسن
محمد علي محسن

وعاودت "الأيام" ومع عودتها الثالثة المكللة بخمسة أعوام من التوقف القسري المشرف, عادت أرواحنا مبتهجة, فرحة رغم بؤس وإحباط وكدر واقع لا يبدو فيه متسع للاحتفاء ولو للحظات مسروقة من عمرنا المبدد في الحزن والقهر والأذى.

نعم.. فكما تكون دموع السماء بشارة خير وبهجة ليباب ثرى أضناها العطش والانتظار؛ كذلك هي الأيام في عودتها المباغتة, الكاسرة لرتابة وسم وكآبة خمسة أعوام كاملة من الانتظار الممزوج بلوعة العشق الجمعي الذي لا ينفع لصبابته واشتياقه غير الوصال والاتصال الحواسي الفيزيائي المادي.

أعوام خمسة نحتت لها أخاديد وتجاعيد في أبدان كائنات آدمية لم تحتمل قسوة الحياة ومنغصاتها؛ لكنها بالنسبة لصحيفة ومتصحف وبائع جوال وكاتب وعامل ومحرر وناشر ومهنة ومجتمع بلا شك تضاهي عقوداً إن لم نقل قرونا.. تصوروا مثلا كم هي سويعات اليوم ثقيلة طويلة لإنسان أنهكه الوجع والألم الجسدي أو الوجداني أو أن حريته مكبلة ومقيدة بأصفاد العقاب الجائر الظالم؟ بالمقابل كم هي الأيام وسنونها مسرعة لمن لباسه العافية وتمتع بحريته؟.

مصافحة الصحيفة كل صباح أغر ومع تباشير شمس يوم جديد منبعثة من لجة زرقة أليم مثل خرافة العروسة الآتية من المستحيل, أعده أمراً يستحق منا الابتهاج ولو خلسة من وجعنا الحياتي المستبد فينا, لننسى مأساة انطفاء الكهرباء المنغصة لنومنا في لظى جحيم أيار! لنرتشف شاي الصباح ولنطوي قليلاً من الوقت.. أخبار أزمة الوقود ومحاربة الإرهاب وتخريب أنابيب النفط وأبراج الكهرباء والدم النازف بغزارة والأرواح المزهقة عدواناً وجوراً!.

للشاعر الأنكليزي الكفيف "ملتون" قولة صاغها قبل ثلاثمائة سنة وأجدها حاضرة الآن: في وسع العقل أن يخلق- وهو في مكانه مقيماً- جحيماً من الجنة، أو نعيماً من الجحيم "أظن أنه بمستطاعنا الاحتفاء بصحيفة أحزننا كثيرا توقفها القسري العنجهي.

 كيف لا تغمر السعادة واحداً مازال اسمه مدوناً في دفتر محلات الأقمشة والإلكترونيات لصاحبها أمين ومهيوب وصادق العديني بـ "محمد الأيام" ليت المسألة اقتصرت على أصدقائي العُدينين الطيبين الرائعين، وإنما أيضا أقرأ اسمي الثلاثي متبوعاً بالأيام وفي محلات ابن البلاد محسن العُسق وإخوانه لبيع المواد الغذائية.

 وكيف لا يفرح ويبتهج لهذه الإطلالة- التي تماثل انبعاث طائر الفينيق وهو يطلق العنان لجناحيه وقبلهما روحة كيما تخفق وتغرد ثانية وثالثة.

نعم.. أهلا بست الكل "الأيام" ومليون مرحيب بك يا الطيب الأصلي، حتما عودة مباغتة؛ لكنها لذيذة ومفرحة لجماهير اتعبها السؤال والانتظار.. أرى الآن الراحل هشام مبتسماً ضاحكاً هازئاً مردداً قولة الفيلسوف افلاطون: لو أمطرت السماء حرية؛ لرأيت بعض العبيد يحملون المظلات".. ليرحمه الله ولينعم الآن بجوار ربه راضيا مرضيا بما تركه من أثر لا يمحى مطلقا بوفاة صاحبه وإنما يبقى ذكرى حية متجددة مؤثرة مزدهرة لا تعرف الفناء، وذلك لسبب بسيط هو أن هذا الأثر صحيفة تربعت قلوب الناس الذين حملت همهم، واقترنت بمعاناتهم، ونجحت بهم، وسيظل هكذا ديدنها الذي لا يتبدل أو يتغير ما بقيت الأمانة مصانة، والكلمة حرة، والصحيفة نابضة بخفق الحياة والأمل والحق والعدل.

أهلا بست الصحافة وأيقونتها الرائدة، وعودة حميدة مديدة بلا شك سيكون لها أثرها البالغ على مجمل الصحافة الوطنية وبالذات الأهلية منها والتي قدر لها الانتشار خلال الأعوام الفائتة التي أجُبرت فيها صحيفة الأيام على التوقف الكلي إلى أن عاودت صدورها وفي التاريخ ذاته 3مايو يوم الصحافة العالمية وذكرى اليوم المشؤوم 3مايو 2009م.

ثقتي بلا حدود بتخطي "الأيام" وطاقمها الجامع بين حكمة الكبار وحيوية الشباب سنون خمسة عجاف دفعتها ضريبة لنجاحها، وفي الوقت الذي سُعدنا بعودتها الثالثة ينبغي التأكيد بحاجة الصحيفة وقيادتها إلى ما هو أكثر من الترحيب والإطراء، إنها بضرورة إلى الدعم الملح والجاد الذي يُسرّع من عودتها إلى أكبر شريحة مجتمعية انقطعت صلتها بها, تاركة المجال لغيرها من الصحف الأهلية التي نجح بعضها في الانتشار وأخفق البعض الآخر أو تعثر.

 فخمسة أعوام وقع فيها أشياء كثيرة لا يستهين بها سوى مكابر أو جاهل، صحيح أنها جميعاً لم تستطع شغر الحيز الكبير الذي خلفته الأيام, خاصة في محافظات الجنوب التي عُدت مساحتها أكبر من تغطيه صحف يومية محسوبة على أطراف معينة غير مؤهلة لتكون بديلاً للأيام نظراً لاختلاف وتفاوت وجهات نظر الناشرين أو الداعمين لهذه الصحف، ولكن ذلك لا يعني إغفال ما حققته هذه الصحافة من تطور ملحوظ على المستويين التحريري والجماهيري.

 ضف لهذه الصحف اليومية كانت هناك صحف جنوبية أخرى ظهرت في فترة الاحتجاب وقدمت نفسها كحاملة لراية القضية الجنوبية، فبرغم أنها لم تستطع سد الفجوة الكبيرة التي خلفتها الأيام؛ إذ كان أداؤها يعوزه الكثير من المهنية والتقنية والمؤسسية والتسويق والخبرة والتجربة وغيرها من الأسس التي اعتمدتها مؤسسة الأيام وفشلت في تحقيقها معظم هذه الصحف الجنوبية, بما توافر لها من مناخات وظروف أفضل بكثير مما أتيح لصحيفة الأيام.

 ومع كل ما تقدم لا أحد بمقدوره إغفال رفعها لسقف الحرية ولحد تجاوز المحظور والممنوع، فبرغم أن هذه الحرية صنيعة بيئة ثائرة منفلتة فوضوية, لكنها في المحصلة ستترك أثرها على حاضر ومستقبل الصحافة الأهلية عامة.

واقع الحال أننا إزاء ظرفية سياسية وتاريخية مختلفة تماما عما كان سائدا إبان النظام العائلي الجهوي القبلي العسكري الذي سيظل بالنسبة للصحيفة ومحبيها وصمة عار لا تنسى أو تمحى بسهولة.. نعم لدينا صحافة يومية ولدت من رحم الثورة والفوضى والمرحلة، هذه الصحافة الورقية والإلكترونية سقفها صار مرتفعا ومتجاوزا لكل الخطوط التي ظلت حمراء وممنوعة وفي مدة وجيزة باتت متاحة ومباحة.

هنالك قولة للكاتب الايرلندي الساخر برناد شو: الذين لا يستطيعون تغيير أفكارهم، لا يمكنهم تغيير شيء في الواقع " أعتقد أن أخي وصديقي الرائع تمام باشراحيل- رئيس تحرير الأيام- ليس من النوع المتكلس المتقوقع غير مدرك لطبيعة التغيير الحاصل في الساحة الوطنية عموما والصحافية خصوصا.

ثقتي بالعزيز تمام وكتيبته بأنهم سيكونون عند مستوى التحديات الماثلة المتسارعة التي لا ينفع معها غير حماسة الشباب وخبرة الكبار، والأيام لا ينقصها الخبرة والتجربة المكتسبة لدى ربانها الذي أجده خير تجسيد للحكمة القائلة: ابن الوز عوام "كما لا ينقصها طاقة الجيل الثالث بقدر ما يستلزمها أفكارهم الحيوية التي قد تبدو أحيانا خرقاء مجنونة غريبة مقلقة مبتدعة نكرة مغامرة غير مفهومة أو مستوعبة أو أو أو الخ.

لكنها- وقياسا بالتطور المذهل صحافيا وتقنيا وفنيا وتحريريا وخبريا وتسويقيا- أظنها مسألة لا مناص من التسليم بها كمسلمة فرضتها عولمة الإعلام الناجح المتحرر من قوالب وقواعد عتيقة جامدة لم تعد مقبولة لدى المتلقي العادي الذي صار- بفعل شبكة الأنترنت وثوراته التي لا تتوقف لحظة عن الابتكار والتحديث وكذا كثافة القنوات المخترقة لفضاءات الدول وقوانينها وسيادتها- واحدة من المشكلات المحبطة والمحيرة للصحافة المكتوبة التي يعد تحديها الأكبر رهن نجاحها في تحقيق رغبة جمهورها أولا وأخيراً.
في الإثنين 19 مايو 2014 04:04:39 م

تجد هذا المقال في صحيفة أخبار اليوم
https://akhbaralyom.net
رابط الصفحة
https://akhbaralyom.net/articles.php?id=75734