الصين في أفريقيا.. غزو مهذب (2ـ2)

2009-09-19 03:12:13

بدر حسن شافعي

(إذا كان البريطانيون أساتذتنا بالأمس، فإن الصينيين أخذوا مكانهم اليوم). . . بهذه الكلمات الموجزة عبّر تريفور نكوبي، أحد أكبر رجال الأعمال الصينيين في إفريقيا، عن رؤية بلاده للقارة السمراء، حيث إن الهدف بالنسبة لهم هو أن تكون لهم السيطرة الاقتصادية عليها تماما كما كانت الإمبراطورية البريطانية تهيمن عليها إبان الحقبة الاستعمارية، وهي نفس الفكرة المسيطرة على فكر حكام وقادة الصين الذين يرغبون في جعل إفريقيا ككل بمثابة دولة تابعة لبكين.

إستراتيجية الصين لتحقيق أهدافها بإفريقيا

لكي تعمل الصين على تحقيق أهدافها السابقة خاصة السياسية والاقتصادية في إفريقيا، عملت من خلال إستراتيجية شاملة تتضمن مجموعة من الآليات اللازمة لتحقيق هذه الأهداف، مع مراعاتها للمبادئ التي دشنتها كمحددات هامة في علاقاتها مع الدول الإفريقية.

بالنسبة للاعتبارات السياسية، عملت الصين على جذب مزيد من التأييد لها بخصوص نزع الاعتراف بتايوان عبر عدة وسائل أبرزها ورقة المساعدات الاقتصادية، واستخدمت في ذلك مبدأ العصا والجزرة، مستغلةً تردي الأوضاع الاقتصادية والأمنية لهذه الدول. ففي ليبيريا، والتي شهدت حربا ضروسا منذ أوائل التسعينات بعد مقتل الرئيس صمويل دو، عملت بكين على استغلال هذا الوضع المأسوي في البلاد، وقامت بالضغط على الرئيس الليبيري حينذاك، تشارلز تايلور، لسحب الاعتراف بتايوان في عام 2003 وذلك قبل نشر قوات الجيش الصيني للمساعدة في تنفيذ مشاريع المياه في البلاد.

وحدث نفس الأمر مع تشاد، حيث قامت بكين في بداية الأمر بمساندة المتمردين التشاديين ضد نظام إدريس ديبى، بعدما أعلنت تشاد عن إقامة علاقات دبلوماسية مع تايوان واعترافها بحق الأخيرة في الاستقلال عن الصين، وهو ما دفع بكين إلى تقديم الأسلحة لمتمردي تشاد، مستخدمةً ورقة الحضور الاقتصادي القوي للشركات الصينية في إقليم دارفور المجاور. ولما حدث خلاف بين النظام في تشاد وصندوق النقد الدولي بسبب المساعدات المشروطة وما ترتب عليه من طرد شركتي شيفرون وبتروناس الماليزيتين المنفذتين لمشروعين بتروليين ممولان من صندوق النقد، كانت الشركات الصينية هي البديل لتمويل هذا المشروع بدون شروط اقتصادية، لكن بشرط سياسي واحد هو قطع نظام ديبي لعلاقته الدبلوماسية مع تايوان، وبالفعل أثمرت هذه الجهود عن زيادة الدول الإفريقية المؤيدة لها من 14 دولة عام 1963 إلى 49 دولة الآن.

وفي مسألة حشد التأييد الإفريقي للصين في المحافل الدولية في مواجهة الدول الكبرى في مجال حقوق الإنسان، نجحت بكين في تأييد هذه الدول لإجهاض عدة محاولات لإدانة الصين داخل لجنة حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة وقد اعتمدت في هذا الشأن على مجموعة من الآليات لعل أبرزها الأداة الدبلوماسية المتمثلة في زيادة زيارات كبار المسئولين الصينيين لإفريقيا، والعكس صحيح أيضا.

ويكفي للتدليل على ذلك الزيارة الأخيرة التي قام بها الرئيس الصيني هوجينتاو خلال الفترة من 12-17 فبراير 2009 لأربع دول إفريقية هي مالي والسنغال (غرب إفريقيا)، وتنزانيا (شرق)، وموريشيوس (جنوب)، والتي تعد الجولة الإفريقية الثانية له منذ القمة الصينية-الإفريقية عام 2006، حيث كانت الجولة الأولى لثماني دول قد تمت في عام 2007. ويلاحظ أن الدول التي قام هوجينتاو بزيارتها في جولته الأخيرة ليست غنية بموارد الطاقة أو الموارد الطبيعية الأخرى؛ مما جعل الإدارة الصينية تبرر ذلك بأنها تكشف عن الأبعاد المختلفة للعلاقة مع القارة، وأنها ليست قاصرة فقط على العلاقات الاقتصادية.

وفي المقابل، تستقبل بكين القادة الأفارقة أفضل استقبال خاصة هؤلاء المغضوب عليهم من الغرب؛ ففي حين تنظر بكين إلى أمثال رئيس زيمبابوي موجابي وغيره على أنه ضيف كبير، فإن الولايات المتحدة وبريطانيا تنظران إليه نظرة استعلائية على اعتبار أنه شخصية لا وزن لها.

وفي موازاة هذا الدعم الإفريقي، فإن المدخل السياسي الثاني لبكين يتمثل في دعم القضايا الإفريقية في المحافل الدولية في مواجهة الدول الكبرى خاصة بالنسبة لبعض الأنظمة التي يتم وصفها بالمارقة مثل السودان وزيمبابوي. وفقد هددت الصين باستخدام حق الفيتو ضد التحركات البريطانية والأمريكية بشأن فرض عقوبات دولية على نظام موجابي في يوليو 2005، لا سيما وأنه كان يزور الصين في حينها طالباً المزيد من المساعدات لمواجهة الأوضاع الاقتصادية السيئة في البلاد.

وتعتبر ورقة المساعدات الاقتصادية لهذه النظام هي المدخل الثالث في هذا الشأن، بغض النظر عن الأوضاع الداخلية فيها خاصة في مجال الديمقراطية وحقوق الإنسان؛ ففي عام 2007 قدمت بكين مساعدة تقدر بنحو 200 مليون دولار لموجابي ساعدته على جذب ولاء المؤسسة العسكرية له، وهو ما دفعه إلى القول: "اليوم تحولنا إلى الشرق- في إشارة لبكين- حيث تشرق الشمس، وأعطينا ظهورنا للغرب حيث تغرب الشمس -في إشارة إلى بريطانيا- التي انسحبت من بلاده قبل 30 عاما". كما قامت الصين بإلغاء 168 دينا مستحق السداد عن 33 دولة إفريقية في نهاية عام 2005. ولعل هذا سبب تأييد الدول الإفريقية لها سياسياً من ناحية، وتفضيل التعامل معها دون الدول الغربية والولايات المتحدة من ناحية ثانية.

أما عن تحقيق أهداف الصين الاقتصادية المعتمدة، فقد عمدت بكين إلى استخدام مجموعة من الآليات أبرزها ما يلي:

1- توطيد العلاقات مع كل من النظم الحاكمة بغض النظر عن موقفها من الديمقراطية وحقوق الإنسان، وكذلك الشعوب الإفريقية في آن واحد، وهي بهذا تتباين عن الولايات المتحدة التي تهتم بالأساس بتقديم المعونة للنظم الديمقراطية فحسب، بل إن بكين تلعب على ورقة الخلافات الإفريقية مع الغرب من أجل الفوز بمزيد من الصفقات التجارية خاصة في مجال النفط والموارد الطبيعية. والأمثلة على ذلك عديدة؛ فمع انسحاب الشركات الأمريكية من السودان بسبب العقوبات الأمريكية على نظام الإنقاذ الإسلامي عام 1997، استغلت الصين هذا الفراغ، وقامت بالدخول بقوة إلى السوق السوداني الذي يمدها الآن ب 7% من احتياجاتها النفطية. وتم ذلك عبر مجموعة من الآليات منها: تحسين البنية التحتية السودانية وإنشاء خط أنابيب بترول في البلاد عام 1999 بتكلفة قدرت ب 3 مليار دولار، وكانت النتيجة امتلاك شركة البترول الصينية الوطنية (تابعة للحكومة) 40% من أسهم شركة النيل الكبرى السودانية التي تسيطر على حقول البلاد النفطية. ومقابل شراء الصين نصف النفط السوداني، قامت ببيع السلاح للخرطوم بسبب الحظر الدولي المفروض عليها، وزودت بكين الحكومة السودانية بالعربات المدرعة والطائرات وملايين الرصاصات والقنابل اليدوية. وقد بلغ حجم هذه المبيعات مليار دولار، كما قامت الشركات الصينية بمساعدة نظيرتها السودانية في بناء ثلاثة مصانع للأسلحة بالقرب من الخرطوم.

وفي أنجولا، التي تعد أكبر شريك للصين، استغلت بكين رفض صندوق النقد الدولي تقديم قرض لحكومة لواندا بسبب اتهامها بالفساد؛ فقامت بكين في عام 2004 بتقديم هذا قرض مقداره بليوني دولار مقابل الحصول على 10 آلاف برميل بترول يومياً. ووفقا للاتفاقية الموقعة بين البلدين، فإن القرض سيتم استخدامه في أعمال البنية التحتية، و70% من قيمته سيذهب للشركات الصينية العاملة في هذا المجال مقابل 30% للشركات الوطنية.

وفي نيجيريا، التي تعد أحد أكبر منتجي البترول في القارة، قامت شركة بترول الصين بتوقيع اتفاق بقيمة 800 مليون دولار مع شركة البترول النيجيرية الوطنية مقابل الحصول على 300 ألف برميل يومياً لمدة عام. وفي عام 2006، وعندما فشلت شركة الصين الوطنية للتنقيب عن البترول في المناطق البرية في الحصول على حصة شركة أمريكية، قامت بشراء حصة مقدارها 45% من شركة نيجيريا للاستثمارات البترولية البرية بمقدار 2. 7 مليار دولار، كما وعدت بزيادة الاستثمارات الإضافية بمقدار 2. 25 بليون دولار.

وبالنسبة للجابون، فإن تراجع صناعة النفط في البلاد قوبل باستثمارات ضخمة من قبل شركة البتروكيماويات الصينية التي تخطط لاستثمارات ضخمة برية وبحرية في البلاد.

2 تنويع المشاريع الاقتصادية في كافة المجالات وعدم اقتصارها على النفط فقط، وخاصة تلك المجالات التي تعني المواطن الإفريقي بشكل مباشر مثل البنية التحتية، طرق وكباري وأنابيب مياه وجسور ومصانع، في حين أن الولايات المتحدة على سبيل المثال تحصر اهتمامها في المجال النفطي. ولذا فإن هناك بعض المحللين الذين يطالبون واشنطن بضرورة الاهتمام بمجال الزراعة جنبا إلى جنب مع المجال النفطي، لأن هذا المجال سيكون أكثر فائدة للأفارقة، فضلا عن الاستثمار طويل الأجل في مجال البنية التحتية.

3 الجودة العالية والتكلفة الأقل بالنسبة للمشروعات التي تنفذها الشركات الصينية وخاصة الشركات العاملة في مجال البنية التحتية في إفريقيا حيث تقوم بتنفيذ المشروعات المنوطة بها بجودة عالية وبتكلفة تقل كثيرا عن مثيلتها الأوروبية، وهذا أمر يحظى بتأييد وترحيب القادة الأفارقة. وقد عبر عن ذلك على سبيل المثال الرئيس السنغالي عبد الله واد خلال زيارة رئيس الصين لبلاده في فبراير 2009، حيث قال واد: "سأقول للرئيس الصيني إن جودة أعمال البناء التي تقوم بها الشركات الصينية ممتازة، وإنني راض تماما عن أدائها"، وذلك خلال تفقده لمشروعات التحديث والبناء التي تقوم بها مجموعة خنان الصينية للتعاون الدولي المحدودة في مدينة توبا، الواقعة على بعد حوالي 200 كم شرق العاصمة داكار. ويشمل المشروع، الذي من المتوقع أن يستغرق خمسة أعوام وتبلغ تكلفته 200 مليون دولار أمريكي، إعادة بناء الطرق وإمدادات المياه ونظم الصرف الصحي، بالإضافة إلى أعمال التشجير في الحضر.

4 تقديم تسهيلات تجارية للدول الإفريقية في عملية التبادل التجاري، خاصة فيما يتعلق بصادرات هذه الدول إلى بكين، حيث رفعت عدد السلع المعفاة من الجمارك خلال الفترة من 2006-2009 من 190 سلعة إلى 440 سلعة دون شروط، في حين أن الولايات المتحدة تضع شروطا للتبادل التجاري مع إفريقيا غالبا ما ترتبط بالديمقراطية وحقوق الإنسان، وكذلك بعض الشروط الاقتصادية الأخرى مثل تنفيذ تعليمات صندوق النقد الدولي والقيام بعملية الخصخصة الاقتصادية.

ويكفي في هذا الصدد الإشارة إلى القانون الأمريكي الذي أصدرته إدارة كلينتون عام 2000، وعرف باسم (قانون النمو والفرص)، والذي يستهدف تخفيض الحواجز الجمركية أمام السلع المصدرة من البلدان الإفريقية إلى الأسواق الأمريكية بحلول عام 2015 شريطة أن يكون ذلك مرتبطا بإحراز تقدم نحو اقتصاد السوق وتعزيز سيادة القانون وتخفيض الحواجز أمام الاستثمارات الأمريكية وتحسين شروط حقوق الإنسان وغيرها.

5 الاهتمام بالمشروعات ذات التأثير المباشر في الشعوب الإفريقية بحيث لا يكون التواصل على مستوى القيادات السياسية فحسب، وحتى لا ينظر إلى الصين أو الشركات الصينية في هذه الدول على أنها شركات استعمارية، ولذا لا غرابة في أن تقوم الصين ببناء بعض المستشفيات وتقديم الأمصال لبعض الأوبئة المنتشرة في القارة مثل الملاريا، وإرسال الأطباء الأكفاء إلى هذه الدول، وبناء بعض ملاعب كرة القدم بالمجان.

6 إنشاء المنتدى الصيني الإفريقي في عام 2000، والذي يعد منبراً للساسة ورجال الأعمال من الجانبين لبحث العديد من القضايا السياسية والاقتصادية محل الاهتمام المشترك، وتعقد اجتماعات المنتدى على المستوى الوزاري كل عامين، وعلى مستوى القمة كل ثلاث سنوات بالتناوب بين الصين وإحدى الدول الإفريقية. وقد استضافت بكين الاجتماع الأول عام 2000 والثالث عام 2006، في حين استضافت إثيوبيا الاجتماع الثاني، ويتوقع أن تستضيف مصر الاجتماع الرابع في نوفمبر 2009.

باحث دكتوراه بمعهد البحوث الأفريقية

جامعة القاهرة.

 

الأكثر قراءة

المقالات

تحقيقات

dailog-img
كيف تحوّلت مؤسسات صنعاء إلى “فقَّاسة صراع” الأجنحة داخل جماعة الحوثي؟ (تحقيق حصري)

حوّل خلاف موالين لجناحين (متشددين) متعارضين داخل جماعة الحوثي المسلحة “جلسة مقيّل” خاصة- بالعاصمة اليمنية صنعاء خلال عيد الأضحى المبارك- إلى توتر كاد يوصل إلى “اقتتال” في “مجلس” مليء بالأسلحة والقنابل ا مشاهدة المزيد

حوارات

dailog-img
وزير الدفاع يتحدث عن الحرب العسكرية ضد ميليشيا الحوثي ويكشف سر سقوط جبهة نهم والجوف ومحاولة اغتياله في تعز ولقائه بطارق صالح وتخادم الحوثيين والقاعدة وداعش

كشف وزير الدفاع الفريق ركن محسن محمد الداعري، ملف سقوط جبهتي نهم والجوف، بقبضة ميليشيا الحوثي، للمرة الأولى منذ تعيينه في منصبه. وأشاد الداعري، في حوار مع صحيفة "عكاظ" بالدعم بالدور المحوري والرئيسي الذي لعبته السعودية مشاهدة المزيد