في اليمن.. معركة غير متكافئة واغتيال مكتمل الأركان

2018-09-29 09:05:36 أخبار اليوم/ تقرير - عارف الواقدي


خارت قواه مؤخرا، فاستسلم للموت بعد أن أنهكت جسده النحيل عديد من الأمراض لم يتمكن من الحصول على ثمن ما يشتري به ولو جزء بسيط من أدويته التي يستخدمها باستمرار بعد أن تنصلت عن دفع راتبه المنقطع منذ قرابة العامين حكومتين تنفقان المليارات من أجل الحرب.
ليست قصة من الخيال، لكنها بالفعل قصة أكاديمي في جامعة صنعاء، أفنى عمره في تعليم المجتمع تأريخ وطنهم على امتداد ملايين السنوات، فكانت مكافآته الوحيدة التي حصل عليها بالمقابل هي الموت على سرير المرض عاجزاً عن شراء الأدوية، علاوة على حرمانه من الحصول على قطعة أرض لا تتجاوز مساحتها مترين لتكون قبرا يضم رفات جسده.
• العجز عن إسعافه..
يوم الجمعة، الموافق الـ21 من شهر سبتمبر/أيلول 2018م، دخل الأستاذ الدكتور/ عبدالغني علي سعيد الشرعبي- أستاذ الآثار القديمة ورئيس قسم الآثار السابق بكلية الآداب في جامعة صنعاء- في غيبوبة مرضية، وقفت حينها أسرته - بحسب ما تقول لـ"أخبار اليوم" - عاجزة عن إسعافه إلى المستشفى، فهي لا تمتلك ريالاً واحداً في البيت، يفي باستئجار سيارة أجرة "تاكسي" يأخذهم إلى المستشفى.
تؤكد أسرته، أنها بعد أن ظلت في موقف تخبط قرابة النصف ساعة، اهتدت إلى فكرة الاقتراض من أحد أصحاب البقالات المجاورة للعمارة السكنية، والذي بدوره لم يقصر في ذلك وأعطاهم ما يريدون، وتم إسعافه، غير أنه استمر في غيبوبته حتى صباح اليوم التالي وتوفي مرضاً وفقراً بعد عامين من حياة استمرت بلا راتب.
• عدم القدرة على شراء الأدوية..
وتذكر أسرته أنه توقف عن شراء العلاج منذ نحو شهر تقريبا قبل وفاته، فقد كان - طبقا لما تفيد - لم يعد قادراً على شراء ذلك الدواء الذي كان مهما جداً بالنسبة له - بحسب ما توصف لـ"أخبار اليوم" وتوقف عن تعاطيه، مما أدخله في غيبوبة قبل وفاته بيوم واحد.
• أمل واهن ..
(س. ع) امرأة تسكن في الشقة المجاورة لشقته في العمارة السكنية التي يسكنها الدكتور الشرعبي - تذكر لـ"أخبار اليوم" - في الأيام الأخيرة وبعد أن أشتد عليه المرض نتيجة عدم تعاطيه أدويته، وجدته أكثر من مرة عند باب العمارة، ودائما ما كان يسألني بكل ما أوتي من أمل واهن لا يتجاوز قوة خيط العنكبوت عن أخبار رواتب الدكاترة الجامعيين التي مازالت مقطوعة.
توضح جارته بأنها في كل مرة كانت دائما ما تجيب على سؤاله أن الرواتب مازالت مقطوعة، ليفقد الأمل مرات ومرات.
• البحث عن قبر..
عادل- شاب صغير في مقتبل العمر- يقول لـ"أخبار اليوم" إنه ااتجه مع عدد من أصدقائه بعد معرفته بوفاة جاره الدكتور الشرعبي، إلى إحدى المقابر للقيام بحفر قبر له، مضيفا "حفرنا القبر بأنفسنا وبأيدينا لأنه وقتها كنا لا نحن نمتلك المال الكافي ولا أسرته لإحضار من يحفر قبر، أو شراء قبر جاهز".
وفي سياق ما أوصلت الحرب وجماعة الحوثي الإنقلابية إليه ملايين اليمنيين من معاناة في الوضع المعيشي يعلق بمرارة بالغة، أحد طلاب قسم الآثار، في الجامعة، الذي تلقى تعليمه على يد الدكتور الشرعبي، "لقد تزاحمت قبوركم الخضراء - مخاطبا الحوثيين - وامتلأت بكم وبنا كل المقابر، بحرب ليس للأبرياء بها ناقة ولا جمل".
• قلب مجهد..
يتحدث الطالب محمد الحقب، عن أستاذه قائلا: توقفت دقات قلب أستاذي المنهك مرضا عن النبضان، فمات بعد عجزه عن شراء أدويته من شدة الفاقة والفقر" مؤكداً بأن قلب أستاذه لم يتوقف نتيجة عدم تعاطيه ذلك الدواء لتشافيه أو لتغيير نظامه العلاجي والحمية الغذائية، بل توقف لأنه كان لا يمتلك قيمة العلاج، ولأن راتبه قد توقف أساساً منذ شهور طويلة تصل إلى (24 شهراً).
يقول الحقب "توفير دواء الإسبرين أو البلافيكس للكلسترول بقوة 20 mg، كانت كفيلة بأن تكفل له الحياة، وأن لا تترك دقات قلبه المنهك تتوقف بعد أن توقف عن تعاطي أدوية وعلاج الضغط والسكر والكولسترول، الأمراض التي يعاني منها منذ فترة طويلة".
وأردف الحقب "مات بعد أن عجز عن شراء علاجه بعد توقف راتبه من قبل جماعة الحوثي الإنقلابية، هذه المليشيا القبيحة - وفق ما يصفها - والتي طبقا لما يقول لا يهمها أرواح الناس ولا حياتهم" مخاطبا هذه الجماعة "لقد قتلتموه فقراً، كما قتلتم كل شيء ينبض بالحياة".
• الحال سواء..
وتحدث لـ"أخبار اليوم" زميله في الجامعة، دكتور علم الاجتماع عادل الشرجبي، بقوله: قابلته قبل وفاته بـ10 أيام في باب كلية الآداب، وكانت تبدو عليه آثار المرض واضحة، فوجهه شاحباً، فبادرته بالسؤال عن السبب، فأجابني: توقفت عن استخدام أدوية السكر والضغط والكوليسترول، بسبب افتقاري لثمنها.
يؤكد الدكتور الشرجبي أنه وقتها لم يكن قادراً على مساعدته بأي شيء، فالحال - طبقا لما يقول - من بعضه، ومن ثم افترقنا، مؤكداً عن تعرضه لصدمة كبيرة عند تلقيه خبر وفاته، ومضيفا "فالذل والاحتقار والخزي لمن أوقف صرف مرتباتنا".
• لا مبالاة..
مسيرة سنوات من الخدمة في التدريس والعمل الدءوب، حتى في حالة مرضه وتوقف راتبه لعامين، كل هذا لم يشفع للدكتور الشرعبي، من الحصول على مبلغ ولو يسير من خزينة جامعة صنعاء، يساعده في مرضه.
• مليارات لتموين الحرب..
وتقدر الإيرادات السنوية لجامعة صنعاء - بحسب كشوفات موازنة حسابات الإيرادات الذاتية للعام 2013م - بنحو (مليار و 486 مليون ريال يمني) لم تشفع له بالحصول على قيمة أدوية مرضه، مقابل سنوات من عمره أفناها فيها، بالرغم من الكشوفات ذاتها تؤكد أن النفقة العامة للجامعة خلال العام الواحد لا تتجاوز (770 مليون ريال يمني)، فيما تؤكد مصادر في الجامعة بأن كافة إيرادات الجامعة تقوم جماعة الحوثي - سلطة الأمر الواقع - بتحصيلها لتموين حربها العبثية التي تقودها منذ نهاية العام 2014م.
ويؤكد عدد من أكاديميين جامعة صنعاء، انهم منذ سبتمبر/ أيلول 2016م، لم يستلموا أي مرتبات من كلا الحكومتين، بعد أن أوقفتها وصادرتها جماعة الحوثي الإنقلابية، يقابلها وعود غير ملتزم بها من قبل الحكومة الشرعية هي الأخرى.
• أعمال الشاقة ..
وفي ظل الوضع المعيشي الصعب الذي وصل إليه الأكاديميين في الجامعات اليمنية، ومنها جامعة صنعاء، توجه العديد منهم للعمل في المخابز ومقاهي الإنترنت والمطاعم ومصانع البلك، بعد أن دفعت بهم الحاجة والفاقة.
يأتي ذلك - وفق ما يؤكد دكتور الفلسفة، بالجامعة الدكتور جميل عون لـ"أخبار اليوم" في محاولة منهم لدرء الموت جوعاً بسبب توقف رواتبهم لشهور طويلة، بعد أن تنصلت لهم الحكومتين من رواتبهم وحقوقهم منذ العامين مضت، بالرغم من استمرارهم في أداء واجبهم الذي يرون أنه من العيب عدم الالتزام به.
• ليس الأول ولن يكون الأخير ..
يوجه العديد من أكاديميين جامعة صنعاء، بعد وفاة زميلهم الدكتور الشرعبي، مرضا نتيجة عجزه عن شراء أدويته بعد أن فتك به المرض، قولهم لهاتين الحكومتين "لم يكن الدكتور الشرعبي، أول الأكاديميين الذين ماتوا من المرض والفقر بسببكم، وحتماً لن يكون الأخير، وأنكم لسوف تسألون عنهم، تأكدوا من ذلك".
• اغتيال مكتمل الأركان..
يكشف هؤلاء الأكاديميين في حديثهم لـ"أخبار اليوم" أنه خلال شهر واحد فقط توفي ثلاثة دكاترة مرضا وجوعاً بسبب عدم صرف رواتبهم وعجزهم عن توفير الغذاء والدواء لهم ولأسرهم، واصفين ما يحدث من تجاهل لما وصلوا إليه بأنه اغتيال إنساني متكامل الأركان.
دكتور علم الاجتماع الشرجبي، خلال حديثه لـ"أخبار اليوم" وجه العديد من التساؤلات لرئيس الحكومة الشرعية، قائلا: هل تعلم يا بن دغر، كم كلفة تكوين عالم أو أكاديمي واحد؟ أنت تفرط برأس المال البشري عندما تتركهم فريسة للموت بسبب أمراض يمكن معالجتها لو استلموا مرتباتهم.
يذكر الشرجبي، أن رئيس الحكومة الشرعية الدكتور أحمد بن دغر، قبل عدة أشهر أصيب بوعكة صحية خفيفة فسافر إلى القاهرة، لتلقي العلاج في أفخم المستشفيات، فيما أعضاء هيئات التدريس بالجامعات في المحافظات الشمالية توفي كثيراً منهم بسبب عدم القدرة على مواجهة الكلفة المالية للخدمات الصحية، ومئات منهم أما توقفوا عن استخدام العلاج للأمراض المزمنة، أو في طريقهم للتوقف، كل ذلك بسبب عدم صرف مرتباتهم منذ سنتين.
ويخاطب الشرجبي، رئيس الحكومة الشرعية، يا بن دغر، طلبت منا أن ننزح إلى عدن، حتى تصرف مرتباتنا، فنزحنا في نهاية شهر مارس، وعاملنا في التعليم العالي والخدمة المدنية، ولم تقبل وزارة المالية استلام الملفات، ولقد قالوا: أنك أغلقت المعاملات، فجلسنا في عدن، حتى خلصنا الفلوس اللي كانت معانا، ورجعنا صنعاء، ذلحين أيش المطلوب؟ ننزح بعدك للرياض، والقاهرة؟.
وفاة الدكتور الشرعبي، عاجزاً عن شراء علاجه، وما وصل إليه الأكاديميين ودكاترة الجامعات في اليمن، ليس إلا حالة ضمن الآلاف الحالات الأخرى بعضها أكثر آلما تحدث في بلد يعيش في حالة حرب، وحكومتين متحاربتين كل واحدة منهما مكونة من (42 وزيراً) وكل منهما لديها (22 محافظا) حتى للمحافظات التي لا تسيطر عليها.
• فقر مدقع..
وأنتج انقلاب مليشيا الحوثي على الدولة ومؤسساتها في الـ21 من سبتمبر/ أيلول 2014م، مأساة إنسانية فاقمت من معاناة اليمنيين في جانب الحياة المعيشية والمادية والاقتصادية، وقلب حياتهم رأساً على عقب، مؤكداً تقرير اقتصادي صادر عن - مركز الدراسات والإعلام الاقتصادي اليمني - بأن نسبة الفقر في اليمن، ارتفعت إلى 85% من إجمالي السكان البالغ عددهم 27 مليوناً.
يأتي ذلك - وفق ما تفيد مصادر محلية - بعد أن استولت جماعة الحوثي الإنقلابية على مصادر الثروة ومفاصل الدولة بقوة السلاح، ما أدخل البلد في أتون حرب عبثية أصابت الحياة العامة والوضع الاقتصادي بالشلل، أدى إلى توسع رقعة الفقر، حيث بات شبح المجاعة يتهدّد الجميع.
• معركة غير متكافئة..
وإمعاناً في التضييق على اليمنيين أوقفت مليشيا الحوثي الإنقلابية صرف رواتب موظّفي الحكومة والمعلمين والأكاديميين في مناطق سيطرتها، وتحوّل مئات الأكاديميين والمعلمين، إلى باعة متجوّلين في شوارع العديد من المحافظات الخاضعة لسيطرتها.
وتؤكد مصادر حقوقية متطابقة أنّ إيقاف مليشيا الحوثي الإنقلابية صرف مرتبات الموظفين الأكاديميين والمعلمين الشهرية بشكل خاص وكافة الموظفين بشكل عام أجبرهم على خوض معركة يومية غير متكافئة مع كسرة الخبز.

الأكثر قراءة

المقالات

تحقيقات

dailog-img
كيف تحوّلت مؤسسات صنعاء إلى “فقَّاسة صراع” الأجنحة داخل جماعة الحوثي؟ (تحقيق حصري)

حوّل خلاف موالين لجناحين (متشددين) متعارضين داخل جماعة الحوثي المسلحة “جلسة مقيّل” خاصة- بالعاصمة اليمنية صنعاء خلال عيد الأضحى المبارك- إلى توتر كاد يوصل إلى “اقتتال” في “مجلس” مليء بالأسلحة والقنابل ا مشاهدة المزيد

حوارات

dailog-img
وزير الدفاع يتحدث عن الحرب العسكرية ضد ميليشيا الحوثي ويكشف سر سقوط جبهة نهم والجوف ومحاولة اغتياله في تعز ولقائه بطارق صالح وتخادم الحوثيين والقاعدة وداعش

كشف وزير الدفاع الفريق ركن محسن محمد الداعري، ملف سقوط جبهتي نهم والجوف، بقبضة ميليشيا الحوثي، للمرة الأولى منذ تعيينه في منصبه. وأشاد الداعري، في حوار مع صحيفة "عكاظ" بالدعم بالدور المحوري والرئيسي الذي لعبته السعودية مشاهدة المزيد