;
د. جلال أمين
د. جلال أمين

ماذا حدث «للمعرفة» في العالم العربي؟ 1189

2008-08-04 05:03:31


في النصف الأول من القرن العشرين كان العرب مشغولين بقضية النهوض «بالمعرفة» مثلما هم مشغولون الآن. ولكن معنى المعرفة المقصود وقتها، لم يكن هو بالضبط المعنى المقصود منها اليوم، ولا الهدف من النهوض بها مثل الهدف منه الآن.

كانت مشكلة المعرفة في ذلك الوقت تتلخص أساساً في انتشار الأمية. كان حال لبنان وفلسطين في منتصف القرن الماضي أفضل في هذا الصدد من حال بقية البلاد العربية التي كان يتجاوز معدل الأمية فيها نسبة عالية، ومن ثم كان النهوض بالمعرفة معناه باختصار «نشر التعليم». وكان نشر التعليم يفهم منه محو الأمية والتوسع في إنشاء المدارس.

لم تكن قراءة الصحف قد أصبحت عادة بعد. ففي مجتمع معظمه أميون كان توزيع الصحف محدوداً للغاية. بل حتى الراديو، الذي لم يكن يتطلب معرفة بالقراءة والكتابة، كان أيضاً محدود الانتشار في منتصف القرن العشرين، بسبب ارتفاع ثمنه بالنسبة لمستوى الدخل، وبسبب قلة انتشار الكهرباء. ناهيك عن التليفزيون الذي لم يكن قد دخل أي بلد عربي قبل منتصف القرن.

كانت أهم وسيلة لنشر المعرفة إذن هي نشر التعليم ومحو الأمية بإنشاء المزيد من المدارس. ولكن الأمر أصبح مختلفا جدا الآن. فمع انتشار التعليم في النصف الثاني من القرن وانخفاض معدل الأمية، زاد التأكيد على محتوى التعليم ومستواه بالمقارنة بعدد المتعلمين ونسبة الأمية.

ظهرت على السطح مشكلة احتمال التعارض بين الكم والكيف، إذ ظهر أن من الممكن جدا، كما حدث بالفعل في معظم البلاد العربية، أن ينتشر التعليم مع انخفاض مستواه، يزداد عدد المتعلمين ولكن تقل نسبة المتعلمين تعليما راقيا.

ومع انتشار عادة قراءة الصحف والاستماع إلى الراديو، ثم مع ظهور التلفزيون وانتشاره، لم يعد من الممكن أن يقتصر «الإعلام» على «التعليم»، إذ أصبح من الممكن أن تنتشر المعرفة بوسائل أخرى غير المدرسة، وهي «وسائل الإعلام» الأخرى، وأصبحت مسألة الارتقاء بحالة المعرفة تشمل في ما تشمل الارتقاء بحالة الصحافة والإذاعة وبرامج التلفزيون، فضلا بالطبع عن نشر المزيد من الكتب والارتقاء بمستواها.

ثم حدث تغير آخر في الثلاثين عاما الأخيرة انطوى على تغير في الأهمية النسبية التي تعطى للأنواع المختلفة من المعرفة. فقد زاد بشدة الاهتمام بأنواع المعرفة المرتبطة بالتقدم الاقتصادي والتكنولوجي، على حساب المعرفة المستمدة من الدراسات الإنسانية والعلوم الاجتماعية.

أصبحت الأمم تفاخر بعضها البعض بما أحرزته من تقدم تكنولوجي وبمدى قدرة أبنائها على تحقيق هذا التقدم. نعم، ما زال من المهم «الارتقاء بحالة المعرفة»، ولكن المعارف المختلفة لم تعد تعامل معاملة متساوية.

لا بد أن هذا التغير في مفهوم «الارتقاء بالمعرفة» ذو علاقة وثيقة بتغير مفهوم «الارتقاء» بوجه عام. فعندما كان المصلحون العرب الأوائل، كرفاعة الطهطاوي، والشيخ محمد عبده ولطفي السيد، يتكلمون عن ضرورة الارتقاء بحالة المعرفة (وبالذات التعليم)، كان الهدف الذي يدفعهم إلى الاهتمام بالمعرفة هو علاقتها «برقيّ الأمة» بوجه عام.

كان من الشائع في أواخر القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين التمييز بين الأمم «الراقية» وغيرها، وكان الرقيّ يحمل معاني متعددة ليس التقدم الاقتصادي إلا واحدا منها، ولم يكن يعتبر بالضرورة أهمها. كان تقدم الأمة في مضمار الحرية السياسية والديمقراطية مهما.

وكذلك كان التقدم في مركز المرأة، وكذلك احترام النظام وتطبيق قدر عال من المساواة في معاملة البشر بصرف النظر عن الأصل الطبقي. وكان «العدل» مهما، وكذلك ضبط النفس وعدم الافتئات على حقوق الآخرين... الخ. كان النجاح في كل هذا يعتبر وثيق الصلة «بالارتقاء بحالة المعرفة»، فارتفاع مستوى المعرفة كفيل بتحقيق التقدم السياسي وتدعيم الديمقراطية، وكفيل بالنهوض بمركز المرأة، وبتحقيق المزيد من العدالة والمساواة.. الخ، أي انتقال الأمة إلى عداد الأمم «الراقية».

لم يعد الأمر كذلك مع اقتراب القرن العشرين من نهايته، أو بالأحرى لم يعد كذلك بالضبط. فقد أصبح للتقدم الاقتصادي والتكنولوجي أولويته على ما عداه من أنواع التقدم. وشاع استخدام شعار «التنمية الاقتصادية»، وشيئاً فشيئا أصبح التقدم والتخلف يقاسان بارتفاع أو انخفاض متوسط الدخل. وما دام التقدم التكنولوجي هو الوسيلة الفعالة لزيادة الإنتاجية وارتفاع مستوى الدخل، فقد أصبح مطلبا أساسيا لجميع الأمم، وبأي ثمن. وكان لا بد أن يتغير مفهوم «المعرفة» تبعا لذلك، فيصبح أهم شق فيها هو ذلك الذي يساعد على التقدم التكنولوجي.

هذا التغير في الأهمية النسبية للأنواع المختلفة من المعرفة، أحدث بدوره تغيرا في الأهمية النسبية للوسائل المختلفة لنقل المعرفة أو اكتسابها. نعم، ما زالت المدرسة مهمة، ولكن التقدم التكنولوجي قد ينتقل أيضا، بل وربما بشكل أكثر فعالية، عن طريق مراكز التدريب، بل من الممكن أن يتم كسب المعرفة داخل المشروعات الإنتاجية نفسها، عن طريق ما يسمى «بالبحث والتنمية» (R & D) وقد يكون هذا أضمن لتحقيق التقدم التكنولوجي من التعليم «النظري» في المدارس والجامعات.

أضف إلى ذلك أن كسب معرفة جديدة في ميدان التكنولوجيا قد يتطلب اتصالا أكبر بالأجانب، واعتمادا أكبر عليهم، مما يتطلب كسب أنواع أخرى من المعرفة، كتلك المتعلقة بالإنسانيات والعلوم الاجتماعية وتقدم الآداب والفنون. هذا الاتصال بالأجانب، الأكثر تقدما في مضمار التكنولوجيا، يتطلب بدوره تعلم لغاتهم، وقد يتطلب السفر إليهم أو جلبهم إلينا. وقد يكون هذا المجيء إلينا في صورة قدوم خبراء أجانب، في ما يسمى «معونات فنية»، ولكنه قد يكون أيضا في صورة قدوم «استثمارات أجنبية».

هل ترى إذن ما حدث من تغيرات في المقصود بالمعرفة، وفي الأهمية التي نعلقها على أنواعها المختلفة، وفي وسائل الحصول عليها، وفي الأهداف المتوخاة منها؟ كان المقصود بالارتقاء بالمعرفة في الماضي أوثق صلة بالرقى الإنساني بوجه عام، ويعتمد على جهود أفراد الأمة المقصود الارتقاء بها أكثر من الاعتماد على الأجنبي، ويستخدم اللغة القومية أكثر من اللغات الأجنبية.

فهل كان في هذا التغير الذي طرأ على المعرفة مكسب أم خسارة؟ أم أن الأمر أشبه بأن يكسب المرء العالم كله ويخسر نفسه؟.

الأكثر قراءة

الرأي الرياضي

كتابات

كلمة رئيس التحرير

صحف غربية

المحرر السياسي

وكيل آدم على ذريته

أحلام القبيلي

2016-04-07 13:44:31

باعوك يا وطني

أحلام القبيلي

2016-03-28 12:40:39

والأصدقاء رزق

الاإصدارات المطبوعة

print-img print-img
print-img print-img
حوارات

dailog-img
رئيس الأركان : الجيش الوطني والمقاومة ورجال القبائل جاهزون لحسم المعركة عسكرياً وتحقيق النصر

أكد الفريق ركن صغير حمود بن عزيز رئيس هيئة الأركان ، قائد العمليات المشتركة، أن الجيش الوطني والمقاومة ورجال القبائل جاهزون لحسم المعركة عسكرياً وتحقيق النصر، مبيناً أن تشكيل مجلس القيادة الرئاسي الجديد يمثل تحولاً عملياً وخطوة متقدمة في طريق إنهاء الصراع وإيقاف الحرب واستعادة الدولة مشاهدة المزيد