;
المؤلف/ علي محمد الصلابي
المؤلف/ علي محمد الصلابي

صلاح الدين الأيوبي.. وجهوده في القضاء على الدولة الفاطمية وتحرير بيت المقدس ..الحلقة الثالثة 1868

2008-08-25 04:30:50


ثانياً: الدافع السياسي:

كان الملوك والأمراء الذين أسهموا في الحركة الصليبية يسعون وراء أطماع سياسية لم يستطيعوا إخفاءها سواء قبل وصولهم إلى الشام وفلسطين أو بعد استقرارهم فيهما، والمعروف أن النظام الإقطاعي ارتبط دائماً بالأرض، وبقدر ما يكون الإقطاع كبيراً والأرض واسعة بقدر ما تكون مكانة الأمير سامية في المجتمع، وفي ظل هذا النظام كانت المشكلة الكبرى التي يمكن أن تواجه الأمير والفارس هي عدم وجود إقطاع أو أرض له، مما يجعله عديم الأهمية مسلوب النفوذ، وهذا ما أدى إلى بقاء عدد كبير من الفرسان والأمراء بدون أرض ، لأن من القواعد الأساسية في هذا النظام أن الابن الأكبر وحده هو الذي يرث الإقطاع، فإذا مات صاحب الإقطاع انتقل الإقطاع بأكمله إلى أكبر أبنائه، وهذا يعني بقاء بقية الأبناء دون أرض، وهو وضع ممقوت في المجتمع الإقطاعي، الأمر الذي جعل الفرسان والأمراء المحرومين من الأرض يتحايلون للتغلب على هذه العقبة عن طريق الزواج من وريثة إقطاع، أو الالتجاء إلى العدوان والحرب للحصول على إقطاع، وكان أن ظهرت الحركة الصليبية لتفتح باباً جديداً أمام ذلك النفر من الأمراء والفرسان، فلبوا نداء البابوية، وأسرعوا إلى الإسهام في تلك الحركة لعلهم ينجحون في تأسيس إمارات لأنفسهم في الشرق، تعوضهم ما فاتهم في الغرب. أما الأمراء والفرسان الذين كانوا يمتلكون إقطاعات فقد وجدوا في المشاركة في الحركة الصليبية فرصة طيبة لتحقيق مجد أكبر والحصول على جاه أعظم.

وبدراستنا لمراجع الحروب الصليبية نرى أن أطماع أمراء الحملة الأولى تجلت في عدة مظاهر سياسية، فقد أخذوا يقسمون الغنيمة وهم في الطريق أي قبل أن يستولوا على الغنيمة فعلاً، وسوف نرى بإذن الله تعالى كيف استحكم النزاع فيما بينهم أمام أنطاكية لرغبة كل واحد منهم في الفوز بها، وكيف من استطاع منهم أن يحقق لنفسه كسباً في الطريق قنع به وتخلى عن مشاركة بقية الصليبيين في الزحف على البيت المقدَّس، وهو الهدف الأساسي للحملة، وكثيراً ما دب الخلاف بينهم - بعد استقرارهم- حول حكم إمارة أو الفوز بمدينة، وعبثاً حاولت البابوية أن تتدخل لفض المنازعات بين الأمراء وتحذرهم بأن المسلمين يحيطون لهم، وأن الواجب الصليبي يتسدعي تضامنهم لدفع الخطر عن أنفسهم ولكن تلك الصيحات ذهبت أدراج الرياح؛ لأن هدف الأمراء كان ذاتياً سياسياً، ولم يكن يهمهم كثيراً رضا البابا أو سخطه، بل إن بعض الأمراء لم يحجموا عن مخالطة القوى الإسلامية المجاورة ضد إخوانهم الصليبيين مما يدل على أن الوزاع الديني كثيراً ما ضعف عند أولئك الأمراء أمام مصالحهم السياسية، أما بالنسبة للإمبراطور البيزنطي "ألكسيوس" فإنه لم يعترض على أهداف أمراء الحمة؛ لأنه إذا تسنى للدولة اليزنطية استرداد ما كان لها من أملاك قبل غارات الأتراك عليهم، جاز أن تقوم في تخومها إمارات مسيحية حاجزة، لها حق السيادة عليها، ولضمان الحصول على ذلك حرص الإمبراطور على الحصول على يمين الولاء من أمراء الغرب، وبذلك توافقت المصالح كلا الجانبين المسيحيين في القيام بالحرب والعدوان على الأرض الإسلامية، والواقع أنه من العسير الفصل بين العوامل المادية والعوامل المعنوية التي دفعت المسيحيين إلى الحروب الصليبية، فالفقر والرغبة في الكسب، وروح المغامرة كانت عوامل هيأت الجو المناسب للحروب، غير أن هذه العوامل لم تظهر إلا بما نجم عن فكرة للحرب "المقدسة" وتخليص الأرض من حماس ديني، والواضح أن فكرة الحرب نبعت من السياسة البابوية، وسياسة الدولة البيزنطية والحروب الإسبانية الإسلامية، فمما سهل أمر إعلان الحرب على المشرق الإسلامي، ما درج عليه الإسبان والفرنسيون في قتال المسلمين في بلاد الأندلس، حيث اتخذ هذا القتال صفة الحرب المقدسة، سواء من جهة المسلمين، حيث أثار "المرابطون" في المغرب الإسلامي الجهاد الديني، أو من جهة المسيحيين في الحالة النفسية التي اقترنت بتوجيه الحرب الصليبية إلى الشرق، حتى أن المؤرخ الكبير "ابن الأثير" نظر إلى الخطر الخارجي نظرة شمولية، واعتبر أي عدوان على طرف من أطراف العالم الإسلامي - سواء في الشرق والغرب، رافد يصب في النهر الأكبر، وهو الغزو الأجنبي المنظم على أكبر قوة حضارية في العصور الوسطى، وهو الدولة الإسلامية.

هذا من جهة، ومن جهة أخرى كشف المؤرخ المذكور بوضوح عن أسباب نجاح هذا الغزو، ذي الشعب "الأندلس، صقلية - الشام - فلسطين" والتي تكمن في: الفرقة، والأطماع الذاتية، وفقدان الروح الوثابة التي تميز بها الحكام والمسلمون الأوائل بناة الدولة الإسلامية، وقد كان واضحاً للعيان أن الكنيسة الغربية كانت محمومة لتوسيع رقعتها الإقطاعية، والسيطرة على الكنائس الشرقية، إضافة إلى رغبتها في حرب المسلمين، ومن حقائق التعصب الديني وجود الجماعات الدينية التي كانت ترتبط بالكنيسة مباشرة وكانت ذات أثر فعال في تلك الحروب، منها فرسان الإسبتارية الذين كانوا ملتزمين بالدفاع عن ممتلكات الصليبيين في المشرق، وحماية الأماكن المقدسة، وكانوا يرتبطون بالبابا مباشرة، وكانت كنائس بيت المقدس قد خصصت عشر دخلها لمساعدتهم في أداء رسالتهم الدينية المزعومة، وهناك هيئة الفرسان الداوية التي اتخذت مقرها في جزء من هيكل سليمان عليه السلام في المسجد الأقصى، وسميت باسم: فرسان المعبد، ثم حرفت إلى اسم الداوية، هذا وقد كانت للبابوية ورجال الكنيسة القدرة على التأثير والضغط والتهديد بالنسبة لمن لا ينفذ رغبة الكنيسة بإصدار قرارات الحرمان التي تقضي بالحرمان من النعيم في الآخرة ونبذ طاعته في الدنيا على حد زعمهم.

ثالثاً: الدافع الاجتماعي:

ساد المجتمع الأوروبي في العصور الوسطى تمايز طبقي كبير، فقد سادت فيه طبقة رجال الدين وطبقة المحاربين من النبلاء والفرسان، وكانت طبقة الفلاحين تمثل الأكثرية المغلوبة على أمرها، والتي كان أفرادها يكدحون، ليسدوا حاجة الطبقتين الأوليين.

كان الفلاح الأوروبي مغلوباً على أمره، وكان مطالباً بالتزامات عديدة لأصحاب الإقطاع، وقد كان البابا على دراية بأحوال الفلاحين الكادحين، فوعدهم بإلغاء التزاماتهم نحو أسيادهم وأغراهم بخيرات شيدوا لأنفسهم أكواخاً من جذوع الأشجار وفروعها غطيت سقوفها بالطين والقش، دون أن يكون لها نوافذ، ولا يوجد داخلها أثاث، بل كان ما يجمعه الفلاح، يعتبر ملكاً خاصاً للسيد الإقطاعي، كما يعتبر محروماً من الملكية الشخصية. وكانوا مثقلين بالالتزامات الخدمية لأسيادهم الإقطاعيين في شتى المجالات إلى جانب حرمانهم من منتجاتهم، وبذلك يظهر مدى التعاسة والبؤس الذي كان يعيشه غالبية شعب أوروبا في القرن الحادي عشر الميلادي، وهكذا لما ظهرت الدعوة للغزو الصليبي، وجدت هذه الغالبية العظمى فرصتها للخلاص من حياتها الشاقة المليئة بالذل والهوان، ونظروا إلى أخطار الاشتراك في هذا الغزو نظرة هينة أمام ما كانوا يعيشون فيه، فإن ماتوا في هذه الحرب كان لهم الخلاص وإن نجوا كانت لهم حياة جديدة أفضل مما كانوا عليه، ولقد عرفت الكنيسة كيف تلعب بعقول هؤلاء، وتوغر صدورهم ضد الإسلام وأهله، وخدعتهم بأنهم سيحررون بيت المقدس والقبر المقدس، وسيباركهم الرب، والبابا، لذلك لم يردعهم رادع عن الذبح والقتل ، بل كان قتل المسلم مرضاة ينال عليها الصليبي ثواباً يوم الدينونة.

رابعاً: الدافع الاقتصادي:

يعتبر التطلع إلى خيرات المشرق الإسلامي، من أقوى دوافع الحروب الصليبية بعد الدوافع الدينية، وقد عبر البابا "أوربان" نفسه في خطابه عن أهمية العامل الاقتصادي بالنسبة لواقع أوروبا آنذاك فقال: لا تدعوا شيئاً يقعد بكم. . . ذلك أن الأرض التي تسكنونها الآن والتي تحيط بها البحار وقلل الجبال ضيقة على سكانها الكثيرين، وتكاد تعجز عن كفايتهم من الطعام، ومن أجل هذا يذبح بعضكم بعضاً، ويلتهم بعضكم بعضاًَ. . . إن أورشليم أرض لا نظير لها في ثمارها بل هي فردوس المباهج، وإن جميع الوثائق تشير إلى سوء الأحوال الاقتصادية في غرب أوروبا في أواخر القرن الحادي عشر، وكانت فرنسا بالذات تعاني من مجاعة شاملة قبيل الحملة الصليبية الأولى، ولذلك كانت نسبة المشاركين منها تفوق نسبة الآخرين، كذلك اشترك عدد كبير من تجار المدن الإيطالية والفرنسية والإسبانية في الحروب الصليبية بغرض استغلالي بحت من أجل السيطرة على الطرق التجارية للسلع الشرقية التي أصبحت مصدر ثراء للمشتغلين بها، لذلك قامت أساطيلهم بدور فعال في الاستيلاء على المراكز الرئيسة في الشام، فساعد الجنوية الفرنج في الاستيلاء على أنطاكية سنة "490ه- 1097م"، وأسهم البنادقة بعد ذلك بعامين في استيلاء اللاتين على بيت المقدس، وكان هدف هذه الجاليات الأول والأخير هو الربح والكسب المادي، ولم يكن يعنيها الباعث الديني إلا بالقدر الذي يحقق مصالحها، ويكفي أن نعرف أن شعار البنادقة الذين عرفوا به وقتذاك كان: لنكن أولاً بنادقة ثم لنكن بعد ذلك مسيحيين، ولذلك قامت جمهوريات إيطاليا "جنوا - بيزا - البندقية" بعقد معاهدات مع أمراء الصليبيين بالمشرق حصلت بمقتضاها على امتيازات اقتصادية هامة.

خامساً: تبدل ميزان القوى في حوض البحر المتوسط:

وذلك منذ أواسط القرن الخامس الهجري "الحادي عشر للميلاد" لصالح الغرب الأوروبي مركز الحركة الصليبية، فضعف الدولة البيزنطية وترنحها تحت ضربات السلاجقة القوية جعلها تسارع إلى الاستنجاد بأوروبا الغربية من ناحية، ثم اختلال أوضاع المسلمين في الجناح الغربي من العالم الإسلامي خاصة في الأندلس وصقلية، وما قابل ذلك من تيسير أسباب القوة والظهور لدى أعدائهم، مما جعل الغرب الأوروبي يرفد النصارى الإسبان بشتى صنوف الدعم والمساندة في صراعهم مع مسلمي الأندلس، مما دفع بالمرابطين، ومسلمي صقلية على الاستنجاد بأفريقية من ناحية ثانية، كل ذلك أدى إلى دخول الحركة الصليبية في طورها الجديد الذي اتخذ صفة العالمية، وكانت البابوية تدعم هذه الحرب بالموافقة والتوجيه والدعاية والدعم المعنوي، فهذه حروب صليبية متقدمة على إعلان البابا أوربان الثاني بدء الزحف الصليبي إلى المشرق سنة "488ه -1095م"، وتعتبر أفريقية بمدلولها التاريخي أحد هذه الميادين في الصراع الصليبي، فقد كانت الجبهة الأفريقية ميداناً نشطت فيه قوى العدوان الصليبي لعدة قرون، يتمثل ذلك في حملات عديدة وجهت إليها الواحدة تلو الأخرى، ولم تفتر للصليبيين في ذلك همة ولم يُوهن الفشل لهم عزيمة، فكمان أن بلدان المغرب الإسلامي كانت أول من اكتوى من البلاد الإسلامية بنار الاستعمار الأوروبي الحديث، وكانت بلدان الجناح الغربي من العالم الإسلامي ومن ضمنها إفريقية هي التي تلقت الضربات الأولى للصليبيين ، والسبب في ذلك يعود إلى عدة اعتبارات جغرافية وتاريخية من أهمها: قربها الشديد من غرب أوروبا مركز الحركة الصليبية ومعرفة الأوروبيين الواسعة نسبياً لأوضاع المسلمين في هذه المنطقة سياسياً واقتصادياً واجتماعياً لسهولة الاتصال بين الطرفين، ثم الحقد الشديد الذي كان يكنه الأوروبيون للمسلمين المغاربة، وبالذات لكونهم هم الذين تولوا عبء الجهاد في أوروبا أكثر من غيرهم من المسلمين، وما كان يشعر به الأوروبيون من خطر هؤلاء إذا تهيأت لهم الوحدة والقيادة المخلصة، لكل ذلك كانت أوروبا تتربص بمسلمي هذه المنطقة الدوائر وتتحفز للوثوب عليهم منتظرة الفرصة المناسبة، وأخذت هذه الفرصة التي طالما انتظرها محركو قوى العدوان الصليبي تتهيأ منذ أواسط القرن الخامس الهجري "الحادي عشر للميلاد"، إذ أصاب الجناح الغربي من العالم الإسلامي من التمزق ما جعله يسير بخطى حثيثة نحو التردي إلى الهاوية، ولم يكن وضع إخوانهم في المشرق بأحسن حال منهم، فكان هذا التمزق وافتراق الكلمة هو السبب الأهم في البلاء الذي نزل بالمسلمين في المشرق والمغرب على حد سواء، وما أشبه اليوم بالأمس، لقد كان ولا يزال تفرق العرب والمسلمين هو الباب الواسع الذي يدخل إليهم أعداؤهم منه لضربهم في عقر ديارهم، فكان أن انطلقت القوى الصليبية في موجة عاتية تضرب المسلمين في ثلاث جبهات في آن واحد في الأندلس وصقلية وأفريقية.

صلاح الدين الأيوبي مؤلَّف جديد يضيء شمعة أخرى في الموسوعة التاريخية التي نسعى لإخراجها، وهو امتداد لما سبقه من كتب درست الحروب الصليبية، ويتناول الدكتور/ علي محمد الصلابي في هذا الكتاب صراع المشاريع: المشروع الصليبي، والمشروع الإسلامي، ولخص الحملات الصليبية التي سبقت قيام الدولة الأيوبية، والرصيد الخلقي لصلاح الدين وصفاته، وتوسعه في إنشاء المدارس، ومكانة العلماء والفقهاء عنده ، ثم أفرد المؤلف فصلاً كاملاً لمعركة حطين وفتح بيت المقدس، وأسباب الانتصار في تلك المعركة الفاصلة والحاسمة، ثم الحملة الصليبية الثالثة وردة فعل الغرب الأوروبي من تحرير بيت المقدس والتعبئة الشاملة التي حدثت، وأخيراً وفاة صلاح الدين وتأثر الناس بوفاته حتى المؤرخون الأوروبيون أشادوا بعدله وبقوته وتسامحه واعتبروه أعظم شخصية شهدها عصر الحروب الصليبية قاطبة، وستظل سيرته تمد أبناء المسلمين بالعزائم الصلاحية التي تعيد إلى الحياة روعة الأيام الجميلة الماضية وبهاءها.

ونظراً لأهمية هذا الكتاب وما يحتويه من معلومات تهم القارىء الكريم ونزولاً عند رغبته تعمل أخبار اليوم عن نشره كاملاً في حلقات.

الأكثر قراءة

الرأي الرياضي

كتابات

كلمة رئيس التحرير

صحف غربية

المحرر السياسي

وكيل آدم على ذريته

أحلام القبيلي

2016-04-07 13:44:31

باعوك يا وطني

أحلام القبيلي

2016-03-28 12:40:39

والأصدقاء رزق

الاإصدارات المطبوعة

print-img print-img
print-img print-img
حوارات

dailog-img
رئيس الأركان : الجيش الوطني والمقاومة ورجال القبائل جاهزون لحسم المعركة عسكرياً وتحقيق النصر

أكد الفريق ركن صغير حمود بن عزيز رئيس هيئة الأركان ، قائد العمليات المشتركة، أن الجيش الوطني والمقاومة ورجال القبائل جاهزون لحسم المعركة عسكرياً وتحقيق النصر، مبيناً أن تشكيل مجلس القيادة الرئاسي الجديد يمثل تحولاً عملياً وخطوة متقدمة في طريق إنهاء الصراع وإيقاف الحرب واستعادة الدولة مشاهدة المزيد