;

نقد العقل العربي :تكوين العقل العربي ..الحلقة «26» 1810

2010-08-19 12:24:07

صفحة من
كتاب


إذا كانت الملاحظات السابقة تبرز،
بصور مختلفة، الأهمية التي للفقه في الثقافة العربية الإسلامية فإن ما هو أكثر
أهمية بالنسبة لموضوعنا هو طريقة الإنتاج النظري في الفقه، نقصد: "علم أصول
الفقه".
والحق أن أصالة الفقه الإسلامي، وبالتالي "خصوصية" العقل المنتج له،
العقل العربي، إنما
ترجع إلى هذا العلم المنهجي الذي لا نجد له مثيلاً في الثقافات
السابقة أو اللاحقة، وكما لاحظ الأستاذ/ محمد حميد الله فإن "علم أصول الفقه هو أو
ل محاولة في العالم استهدفت
إنشاء علم للقانون متميز عن القوانين التفصيلية
الخاصة بهذا السلوك أو ذاك، علم يمكن تطبيقه في دراسة قانون أي بلد وفي أي عصر"
.
لقد وجدت على الدوام وفي كل المجتمعات قوانين وأعراف، فإلى جانب شريعة حمورابي
هناك الألواح الاثني عشر عند اليونان وهناك قوانين كيوس وقوانين جيستينيان عن
الرومان فضلاً عن قوانين الصين وقوانين الهند. .
ولكن هذه القوانين كلها لم تكن
مؤسسة، كالفقه الإسلامي، على علم أصول، هذا العلم " الذي ابتكره المسلمون لأول مرة،
والذي لا نجد له نظيراً لا عند اليونان والرومان في الغرب ولا عند البابليين والصين
والهند وإيران ومصر والشرق، ولا في أي مكان آخر".
ولكي نقدر أهمية هذا العلم
بالنسبة لموضوعنا نقد العقل العربي قد تكفي الإشارة إلى طابعةه المنهجي
الايبيستيمولوجي، إذا هو "القواعد التي يتوسل بها إلى استنباط الأحكام الشرعية من
الأدلة"، وهو بالنسبة للفقه يحتل في الثقافة العربية الإسلامية نفس المكانة التي
تحتلها الفلسفة في الثقافة اليونانية، كماً وكيفاً، صار بالإمكان القول إنه إذا
كانت مهمة الفقه هي التشريع للمجتمع فإن مهمة أصول الفقه هي التشريع للعقل، ليس
العقل الفقهي وحدة بل العقل العربي ذاته كما تكون ومارس نشاطه داخل الثقافة العربي،
أن هذا لا يعني أننا نريد أن نسود طريقة الفقهاء على غيرها من الطرق، كلا ، ولكننا
نريد أن نؤكد منذ الآن ، وهذا ما سيتبين لاحقاً، أن طريقة علم العقل العربي، سواء
في الفقه أو النحو أو الكلام. .
هي طريقة واحد تقوم على نفس الآليات أو
الميكانيزمات التي تقوم عليها طريقة الفقهاء، وهذا ليس فقط لأن "علم أصول الفقه
قواعد مستعارة من علوم أخرى. . .
لأن الأصوليين جمعوا من العلوم المختلفة ما يرجع
إلى غرضهم ويختص ببحثهم فألفوه وصيروه علماً"، بل أيضاً لأن هذا العلم أصول الفقه
قد استعارته بدورها، بعد أن صار طريقة ناضجة مقننة، تلك "العلوم المختلفة" التي
كانت أصلاً له.
ودون التقليل من أهمية مساهمة الأصوليين الذين جاؤوا بعد الشافعي
في إخصاب هذا العلم وتنظيمه فإن القواعد التي وضعها صاحب "الرسالة " تظل مع ذلك
بمثابة الأساس والهيكل العام لهذا العلم المنهجي.
إن "القواعد" التي وضعها
الشافعي لا تقل أهمية بالنسبة لتكوين العقل العربي الإسلامي عن "قواعد المنهج" التي
وضعها ديكارت بالنسبة لتكوين الفكر الفرنسي خاصة والعقلانية الأوروبية ا لحديثة
عامة.
فلنتعرف، إذن ، على هذه "القواعد" التي أسست ما يمكن أن نطلق عليه اسم
"العقلانية العربية الإسلامية"، ولنبدأ بشرح الظروف الفكرية التي املتها والتي جعلت
منها" القواعد المقننة للرأي، المشرعة للعقل.
إذا نحن نظرنا إلى الفكر العربي
الإسلامي عند بداية تشكله وتبلور قضاياه وتياراته، مع بداية عصر التدوين، وجدناه
يميل إلى التوزع إلى تيارين رئيسيين في كافة المجالات: تيار يتمسك بالموروث
الإسلامي ويدعو إلى اعتماده أصلاً وحيداً للحكم على الأشياء، وتيار يتمسك بالرأي
ويعتبره الأصل ا لذي يجب اعتماده، سواء في الحكم على ما جد من الشؤون أو في فهم
الموروث الإسلامي نفسه.
وهكذا ففي التفسير تياران: أحدهما يعتمد التفسير
ب"الأثر" أي بما نقل عن النبي والصحابة، والثاني يعتمد التفسير ب"الرأي" وذلك
بالاجتهاد في فهم الخطاب القرآني على ضوء إحكام العقل مع التقيد بقواعد اللغة
وأساليب ا لتعبير العربي والاسترشاد بظروف وأسباب التنزيل.
ومثل التفسير الحديث:
فهنا أيضاً نجد من يقبل كل حديث يروى عن النبي ولا يتجرأ في الشك في صحته، ربما
لأنه لا يتصور أن يتجرأ أحد في الكذب على رسول الله، وهناك بالعكس من هذا من يشترط
ألف شرط في قبول الحديث منطلقاً من منطق الرأي ، أي من الشك والتحري.
ونفس الشيء
نجده في قطاع اللغة والنحو: فريق يعتمد الرواية والسماع ومركزهم الكوفة وبغداد،
وفريق يعتمد الرأي والقياس ومركزهم البصرة.
ولا ينبغي أن نعطي لهذا التقسيم
الجغرافي كبير أهمية.
فأهل الرأي في الفقه كان مركزهم الكوفة نفسها بينما لم تكن
تخلو البصرة من أهل الحديث الذين كان مركزهم في المدينة.
هذا من جهة، ومن جهة
أخرى يجب ألا نفهم هذا الصراع، سواء داخل هذا العلم أو ذاك، على غير حقيقته، فنحمله
ما لايتحمل : فلم يكن الأمر يتعلق دوماً بالصراع بين "القديم" و"الجديد" ولا بين
"الثابت" و"المتحول" ، بل كان صراعاً بين وجهات نظر يتداخل في كل منها القديم
والجديد، الثابت والمتحول، بحيث نجد نفس الشخصية العلمية تعتمد" الرأي" في مجال،
و"النقل" أو "الأثر" في مجال آخر.
فأبو حنيفة مثلا وهو زعيم مدرسة الرأي في
الشريعة، كان في العقيدة من أهل السنة "=ضدا على المعتزلة".
أما ا لنظام وهو
أكثر زعماء المعتزلة عملاً بالعقل في ميدان العقيدة فلقد كان ضد الرأي والقياس
والإجماع في مجال الشريعة.
لم يكن الصراع، إذن، لا في الفقه ولا في النحو ولا في
علم الكلام، صراعاً بين "القديم" و"الجديد" ، هكذا بإطلاق ، بل كان صراعاً بين
وجهات نظر لم تكن تعتمد في نفس الأصول والمقدمات في تفسيرها أو معالجتها للقديم
والجديد معاً.
وبعبارة أخرى إن هذا الاختلاف بين وجهات النظر الذي رافق نشأة
العلوم العربية الإسلامية مع بداية عصر التدوين إنما كان يعبر في حقيقته وجوهره عن
"أزمة أسس".
لقد كانت الحاجة قائمة وبإلحاح، في العلوم العربية الإسلامية، إلى
إعادة تأسيسها منطقياً وايبيستيمولوجيا بعد أن تم تأسيسها عملياً من خلال "تدوين
العلم وتبويبه".
إن "التبويب" لم يعد كافياً بل إحكامه وإرساءه على أصول ومقدمات
متينة واضحة.
وعلى الرغم من أن "أزمة الأسس" هذه قد ظهرت، كما قلنا، في جميع
العلوم العربية الإسلامية ، وفي وقت واحد تقريباً ، إلا أن حدتها لم تكن فيها
جميعاً على نفس الدرجة.
لقد كان الصراع في علم الكلام ما يزال متجهاً بكل ثقله
نحو مقاومة الهجمات الآتية من خارج الدائرة الإسلامية، هجمات المانوية خاصة، ولذلك
تأخر فيه الفصل في قضية "الأسس" إلى مرحلة متأخرة نسبياً حينما تمت تصفية الزنادقة
وتحول الصراع إلى داخل الدائرة الإسلامية نفسها فكان أبو الحسن الأشعري هو الذي قدر
له أن يقوم بعملية التأسيس في علم الكلام.
أما في النحو فلم يكن الصراع داخله
يمس الدين مباشرة، لا العقيدة ولا الشريعة، بل كان يغينهما بما يقدم من إمكانيات
الفهم والتأويل للنصوص الدينية" التأويل داخل المجال التداولي العربي، الجاهلي
الإسلامي، لا خارجه" ولذلك لم يكن هناك ما يستدعي التعجيل ب"فرض النظام" بكل
الصرامة اللازمة في هذا القطاع الذي كان يتقاسمه أهل الكوفة وأهل البصرة بما يوضعوه
من أصول لهم.
أما في مجال الشريعة فلقد كان الأمر يختلف تماماً، لا من حيث شدة
الصراع ، بل من حيث خطورة النتائج التي كان يمكن أن تترتب عنه فيما لو استمر الخلاف
بين أهل الرأي وأهل الحديث وحصلت القطيعة بينهما.
لقد كان الحديث يتضخم بالوضع
وتبررها. . وكان "الرأي" يتضخم هو الأخر إن جاز هذا التعبير بالذهاب بعيداً مع
الفروض النظرية تلك، والعدول أحياناً كثيرة عن استيحاء النصوص وسيرة السلف إلى
الاستحسان العقلي المحض.
وإذن فلقد كان لابد من تأسيس البحث على قواعد يراعيها
الجميع تجعل حداً للحاجة على وضع الحديث، وتقف بالرأي عند حدود معينة
واضحة.
وتلك هي المهمة التي قام بها محمد بن إدريس الشافعي المطلبي "150 ه
204ه".
أما أن يكون لهذا الصراع حول "الأصول" في مجال التشريع أبعاد اجتماعية
وسياسية، فهذا ما ليس من مهمتنا الخوض فيه هنا، فكل ما نريد أبرازه هو أن التطور قد
بلغ بالفكر العربي، في مجال الشريعة خاصة، إلى نقطة أصبح معها من الضروري الفصل في
مسألة "الأصول" هذه، بطريقة أو بأخرى، ويأتي الشافعي الذي عاش هذه الصراع عن قرب،
بإقامته بين أهل الحديث في المدينة وأخذه عنهم وبتردده على العراق وتلمذته على
أساتذة الفقه هناك واحتكاكه بهم ومناظرته لهم، يأتي الشافعي ليعمل على تحديد الأصول
وتقنين الرأي ، فلقد كان ذا عقل من تلك لعقول التي تريد أن تفرض النظام في كل
شيء.
وسواء استفاد الشافعي هذا الميل إلى النظام من الطب والتنجيم اللذين يقال
أنه كان على معرفة بهما ، أو كان ذلك راجعاً إلى شيء آخر، فإنه مما لاشك فيه أن
منشئ علم أصول الفقه يدين بالشيء الكثير لعلماء اللغة والنحو الذين تعلم منهم واحتك
بهم وناظرهم أيام شبابه وكهولته، واللذين كانوا جادين آنذاك في العمل على تقنين
اللغة والنحو انطلاقاً من "أصول" واضحة محددة الخليل وسيبويه خاصة تمكن من
إغلاق النسق اللغوي إغلاقاً محكماً ولا تسمح بأي جديد إلا ذلك الذي يجد له أصلاً
داخل النسق.
كان الشافعي معاصراً في شبابه للخليل واضع علم العروض، أي قانون
الشعر العربي، وجامع اللغة على أساس نسقي شرحنا معالمه الأساسية في الفصل السابق،
وكان الشافعي معاصراً كذلك لتلميذ الخليل، سيبويه صاحب "الكتاب" الذي جمع قواعد
اللغة العربية وأرسى أصولها في نسق محكم مازال يحتفظ بصلابته إلى اليوم، يقاوم
التغيير بعناد.
وسواء استوحى الشافعي مشروعه من عمل الخليل أو من عمل سيبويه فإن
الشيء الذي لا يمكن تجاهله ولا إغفاله هو تأثير منهج اللغويين والنحاة في "الرسالة"
شكلاً ومضموناً.
وإذا عرفنا أن الشافعي لم يسم رسالته تلك بهذا الاسم، بل كان
يدعوها "الكتاب" أدراكنا أية علاقة كان بين مشروع الشافعي ومشروع سيبويه صاحب
"الكتاب": فهذا كتاب النحو، وذاك كتاب الفقه.
لقد قنن الخليل " سحر البيان "
ألفاظاً وأوزاناً، وقننه سيبويه أعراباً وتصريفاً، وها هو ذا الشافعي يبدأ في
رسالته بشرح "كيف البيان": لقد تم تقنين البيان العربي على مستوى المبنى من جهة "=
النحو" ، وعلى مستوى المعنى من جهة ثانية "معاجم اللغة" ، فلماذا لا يقنن على مستوى
علاقة المبنى بالمعنى، وفي النص الديني الأساسي، ويكون ذلك طريقاً ملكية إلى جعل حد
ل"الفوضى" الضاربة أطنابها في مجال التشريع ، فوضى "التضخم" في الحديث والرأي سواء
بسواء؟ من العبث إذن البحث في المنطق اليوناني أو في الطب والتنجيم عن السلطة
المرجعية التي اعتمدها الشافعي في عمله.
إن "الرسالة" ذاتها تحيل منذ الصفحات
الأولى إلى السلطة المرجعية الموجهة لها.
إن الأمر يتعلق أساساً بالعمل داخل
دائرة "البيان العربي" وليس خارجها، وذلك كانت الخطوة الأولى هي التساؤل: "كيف
البيان"؟.

الأكثر قراءة

الرأي الرياضي

كتابات

كلمة رئيس التحرير

صحف غربية

المحرر السياسي

وكيل آدم على ذريته

أحلام القبيلي

2016-04-07 13:44:31

باعوك يا وطني

أحلام القبيلي

2016-03-28 12:40:39

والأصدقاء رزق

الاإصدارات المطبوعة

print-img print-img
print-img print-img
حوارات

dailog-img
رئيس الأركان : الجيش الوطني والمقاومة ورجال القبائل جاهزون لحسم المعركة عسكرياً وتحقيق النصر

أكد الفريق ركن صغير حمود بن عزيز رئيس هيئة الأركان ، قائد العمليات المشتركة، أن الجيش الوطني والمقاومة ورجال القبائل جاهزون لحسم المعركة عسكرياً وتحقيق النصر، مبيناً أن تشكيل مجلس القيادة الرئاسي الجديد يمثل تحولاً عملياً وخطوة متقدمة في طريق إنهاء الصراع وإيقاف الحرب واستعادة الدولة مشاهدة المزيد