;
معاذ راجح
معاذ راجح

أُمِّي رحلت وأنا أسيرٌ أبكيها في مأرب 856

2018-12-22 06:07:55

لم أكن أتخيل أنَّها ستتركني، أو على الأقل لن ترحل دون وداعي وتقبيلي، هكذا كنت أُمنِّي نفسي في الأيام القليلة الماضية، حتى قبل لحظات من رحيلها، كنت أتحدث مع أحد أقربائي عن نتائج التحاليل المخبرية لدمها، وأشاركها مع صديقي الذي يواصل دراساته العليا كطبيب في الأردن، وأطلب بدون خجل من أحد الأطباء زيارة منزلنا صباحاً على وجه السرعة. جاءت تلك اللحظة أسرع، تلك التي أهرب منها منذ أصابتها جلطة دماغية أواخر فبراير/شباط الماضي، «سمعت أنفاساً تتلاشى وتخفت عبر سماعة الهاتف، مع كل ثانية تقربنا من صباح الأربعاء 19ديسمبر/كانون الأول 2018م الموافق 12 ربيع الثاني 1440هـ». رحلت أمي بكل بساطة!! رحلت وتركتني مع جحيم الأحزان والآلام والقسوة، أندب خذلاني لها في أيامها الأخيرة، أندب عجزي وتقصيري، أندب الظروف التي رمتني بعيداً عنها في بلدة بأقصى اليمن، مع ملايين العقبات والصعاب، التي حالت دون لم شملي بها طيلة الشهرين الماضيين. آآآآه يا أُمَّاه، الدمع يغرق عيني وأنا أرى منزلي وهو جاهز للسكنى، لكنَّ بيتي بدونك خراب، صدرك عندي أعظم من قصور الدنيا كلها، كيف لا؟ وقد شربت من حنانك أكثر من أخوتي، بحكم أنني آخر العنقود. كيف لا وأنا أرى تعبَكِ وألمَكِ وصبرَكِ في كل لحظة أقضيها برفقة حفيدك "سعد" وأمه، التي فتحت آلامها وصبرها وتحمُّلها الغشاوة التي كانت على عيني، لأرى نفسي أكثر العاقين من الأبناء، واسعى لتلافي ذلك؛ لكن مشيئة الرب أن ترحلي وتتركينني أَجُرُ آلاف الخيبات. أُمَّاهُ.. كنت قد وعدتُكِ سابقاً بألَّا استسلم وألَّا أيأس في غربتي وحياتي، كنت قد وعدتُكِ بألَّا أكون أسيراً لحزني وشوقي، وعدتُكِ أن أكرس حياتي لتلك الأهداف النبيلة والأحلام الجميلة التي بحت بها لك ذات مساءٍ صيفيٍ والقمر حاضرنا في سطح منزلنا المتواضع، سنة 2012م، بعد أسبوع من رحيل الغالي والدي. وعدتُكِ يا أُمِّي في ذلك الزمان، وها أنا اليوم أجددُ وعدي وعهدي لكِ، أن أظل ابنكِ المشتاق ما حييت، أن أكرس حياتي لأهدافي وأحلامي الكبيرة. ها أنا أصرخ يا أُمِّي بعهدي وأنا الأسير هنا في مدينة مأرب، أصرخ وأنا شاحبٌ أمام آلاف القبور والشواهد المكتوبة عليها أسماء بدماء جنود ورجال استشهدوا ودفنوا دون أن تراهم أُمَّهاتُهم، أو تقبلهم القبلة الأخيرة. أعرف يا أمي أنَّكِ لا تعرفينهم جميعاً، لكنَّ بينهم جاراً لي يدعى (حامد)، وقريباً يدعى (أسامه)، وثالثاً اسمه (حسن)، ورابعاً وآخرين ممن حدثتُكِ عنهم وأريتكِ صورهم في هاتفي، سيخبرونك يا أمي بكلامي هذا، أنا واثق. سيحكُون لكِ قصصاً خرافية وبطولات وتضحيات منسية تحت التراب، في كل يوم لها فصل مختلف وأبطال جدد، يلتحقون بركب الشهادة في سبيل استعادة الدولة والجمهورية وتحقيق الحلم المنشود لكل اليمنيين. أمي أنا والكثير من أقراني أسرى في سبيل تحقيق تلك الأحلام الكبرى، لا أعني بالأسر هنا معتقلاً سرياً أو سجناً تحت الأرض كما يشاع عن مأرب، بل أعني يا أمي الأسر القائم علينا كيمنيين في وسط متاهات الصراعات الدولية وموازين القوى، وحسابات خاطئة لبعض الأشقاء في الخليج، ورغبات وأطماع شخصية لبعض المحسوبين على قيادة تحقيق الحلم الوطني، ساهمت كُلها أو بعضها، مع الأسف في طول معاناة الشعب لأربع سنوات متتالية من الحرب والدمار، زادت فيها جرائم وبطش إخواننا (الأعداء الحاليين) أبناء جلدتنا، ممن ارتهنوا للغرب وجاهروا بالولاء للعمائم السوداء، عشاق وعملاء دول الاستكبار العالمية السريين، والصارخين كذباً بالحرب ضدها. دماؤنا يا أُمِّي ودماؤهم تسفك بأيديهم، في متاجرة غير عادلة، ومقامرة ليس الأمر واضحاً بعدُ إلى أين ستصل خسائرُها بنا، وبالعالم والجيران. عفواً أُمِّي لم أتمالك نفسي وأنا أرثي رحيلك عني، أن أرثي بقايا وطني، فأنتِ وطني، وما تبقى من الوطن أمهاتٌ تذرف الدموع، وأخواتٌ ينتحبن على قريبٍ أو حبيبٍ، شهيداً أو مقتولاً، أسيراً أو مخطوفاً، كُلُّها جراحٌ يا أمي، وقبل أن أداوي جرح بُعدي عنكِ، جرح رحيلكِ ما تبقى من قلبي الضعيف؛ لينزف تنازُلياً ما تبقى من لحظات حياتي القصيرة، فقلبي دون وجودك لا يتحمل أكثر. أُمَّاهُ.. يا الله أيُّ وجعٍ برحيلها وأيُّ ألمٍ يعتصرني!!، لو قيس كل نعيم وفرح وسعادة في الدنيا بفقد الأمِّ ما ساوى لحظة واحدة بحُضنها أو رشفة حنان من قلبِها، هذا ما صرت أعايشهُ مُنذُ رحلت.

يا سكان هذه القبور.. يا شهداء تنادي أمَّهاتُهم بأسمائهم عند رب العرش كل يوم، ماتت أُمِّي حقيقة يحاول عقلي إدراكها وفهمها، لكن نفسي وروحي تنكرها، وستظل تنكرها حتى ألقاها، وإلى ذلك الحين! أخبروها بخطابي الطويل وغير المرتب هذا، أو على الأقل أخبروها أنَّي مدين لها بحياتي كلها، مؤكدٌ ستعرف كل ما أردت قولهُ لها قبل رحيلِها؛ لأنها -رحمها الله وأسكنها الجنة- أُمِّي وحبيبتي أنا.

الأكثر قراءة

الرأي الرياضي

كتابات

أحمد عبد الملك المقرمي

2024-05-05 23:08:01

معاداة للإنسانية !

كلمة رئيس التحرير

صحف غربية

المحرر السياسي

وكيل آدم على ذريته

أحلام القبيلي

2016-04-07 13:44:31

باعوك يا وطني

أحلام القبيلي

2016-03-28 12:40:39

والأصدقاء رزق

الاإصدارات المطبوعة

print-img print-img
print-img print-img
حوارات

dailog-img
رئيس الأركان : الجيش الوطني والمقاومة ورجال القبائل جاهزون لحسم المعركة عسكرياً وتحقيق النصر

أكد الفريق ركن صغير حمود بن عزيز رئيس هيئة الأركان ، قائد العمليات المشتركة، أن الجيش الوطني والمقاومة ورجال القبائل جاهزون لحسم المعركة عسكرياً وتحقيق النصر، مبيناً أن تشكيل مجلس القيادة الرئاسي الجديد يمثل تحولاً عملياً وخطوة متقدمة في طريق إنهاء الصراع وإيقاف الحرب واستعادة الدولة مشاهدة المزيد