تعليم التفگير ضرورة ملحة في عالم متسارع

كتب/جلال بوشعيب فرحي*
ذكر بعض الفلاسفة قديماً بأن الإنسان حيوان عاقل، وهو قول صائب إلى حد ما، ويبقى العقل نعمة من نعم الله التي ساوى الله فيها بين البشر عندما وهبهم هذا الجهاز المفعم بالحيوية. إنه أداة معجزة للتعلم تلازم الإنسان طيلة حياته ، فالعقل ميزة إنسانية يستأثر بها الإنسان عن باقي المخلوقات في الكون، والعقل هو القاعدة التي من خلالها يتم إدارة التفكير، ويمكن تشبيه العقل بمركز القيادة الذي من خلاله يتم إدارة الأفعال الإنسانية وتسييرها ، هذه القيادة تستقبل المعلومات وتقوم بتحليلها وتفسيرها ومن ثم تحويلها إلى فعل مهما كان نوع الوسيلة المستخدمة أو اللغة التي جاءت عبرها هذه المعلومات. يقول عز وجل في كتابه الكريم في سورة الروم الآية 9 : « قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون »، ولذلك فإن الله سبحانه عندما وهب الإنسان العقل أمره بالتعلم، ولم يضع سبحانه وتعالى حداً للعلم وهذا دليل على أن للعقل قدرات كبيرة لا نهاية لها ويتجلى ذلك في قوله تعالى في سورة الإسراء الآية 85 : « وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً ». والإنسان بطبعه لا يستخدم سوى جزء قليل من قدراته العقلية الهائلة، والإنسان مطالب بالتعلم والبحث وبذل جهد كبير في التحصيل العلمي، ولكن هذا لا يعني الاكتفاء فقط بالتعلم ، بل ينبغي عليه التفكير الذي يقوده إلى الإبداع الذي نفتقده اليوم في عالمنا العربي. يقول تعالى في سورة آل عمران الآية 191 «الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والأرض، ربنا ما خلقت هذا باطلاً سبحانك فقنا عذاب النار» عندما يدعونا الخالق إلى التفكير، فإنه ينبغي علينا أن نفهم هذه الدعوة السامية، فهي دعوة إلى التفكر ودعوة إلى الإبداع من بديع السماوات والأرض. ومن خلال التفكير في خلق الله وفي النفس البشرية فإن هذا هو التفكير الإبداعي بعينه، تصوروا معي توقف الإنسان عن التفكير وعن الإبداع، كيف له أن يصنع المصباح وكيف له أن يخترع السيارات والطائرات والبواخر والغواصات.

إن عالمنا اليوم بحاجة إلى مزيد من التفكير ومزيد من الإبداع، وللأسف فإن مدارسنا وجامعاتنا تهمل هذا الجانب الهام في حياة البشرية، فالأمم تتطور بالتفكير والإبداع، والثورة التقنية والتكنولوجيا الحديثة تحتاج إلى مفكرين ومبدعين لمواكبتها ومواصلة التقدم العلمي والتكنولوجي. إن تعليم التفكير والإبداع في بيوتنا ومدارسنا وجامعاتنا مطلب هام يجب أن ننادي به ونركز عليه ونسعى لتحقيقه على أرض الواقع. وهذا الأمر يتطلب منا إعادة النظر في مناهجنا التعليمية وزرع بذور التفكير والإبداع في الأجيال القادمة في مراحل مبكرة.

المؤسسات التعليمية والتربوية هي المعني الأول بتحمل مسؤولية تعليم التفكير الإبداعي، ولذلك يجب تطوير هذه المناهج باستمرار، هذا التطوير بدوره يحتاج إلى تفكير وإبداع في الأساليب والطرق التعليمية للارتقاء بمهارات التفكير لدى النشء وصقل المواهب بهدف تحقيق غايات وأهداف سامية على المدى القريب والمتوسط والبعيد. وعلى المثقفين وأرباب الأقلام والإعلاميين والكتاب والصحفيين أن يكونوا على قدر عظم مسؤولية تحقيق هذه الغايات السامية، لأن العالم يتغير ويتطور بسرعة كبيرة فلا مجال للإهمال والتهاون، إنه زمن أصبحت فيه التكنولوجيا طاغية تتطلب تعاملاً مرناً وسريعاً معها، إنه بلا شك زمن العقول الإلكترونية والآلات الذكية، زمن أصبحت فيه الصناعة لا تعتمد فيه على المجهود اليدوي البشري بل أصبح المكننة واستخدام الحواسيب الإلكترونية بديلاً عن اليد العاملة البشرية. ولكن لا ننسى أن هذه الآلات والمكائن ما كانت لتكون لولا العقول البشرية والابتكارات والتفكير الإبداعي الإنساني. لقد حان الوقت لإعادة التفكير في أنفسنا، لقد حان الوقت لتغيير أساليبنا في التفكير بشكل نستطيع معه مواكبة التطور الهائل في العلوم والاكتشافات والقدرات التكنولوجية والعلوم والتقنيات والإبداعات. لقد أصبح التفكير والإبداع مطلبين أساسيين لمواجهة التحديات في جميع المجالات.

معنى التفكير:

يذكر الدكتور أحمد عزت راجح، أستاذ ورئيس قسم علم النفس بجامعة الإسكندرية سابقاً، في كتابه أصول علم النفس أن للتفكير في علم النفس معنيين، معنى عام واسع ومعنى خاص ضيق، ويقول بأن التفكير بمعناه العام هو كل نشاط عقلي أدواته الرموز أي يستعيض عن الأشياء والأشخاص والمواقف والأحداث برموزها بدلاً من معالجتها معالجة فعلية واقعية، ويقصد الدكتور أحمد عزت راجح بالرمز كل ما ينوب عن الشيء أو يشير إليه أو يعبر عنه أو يحل محله في غيابه. أما التفكير بمعناه الخاص فيقتصر في نظره على حل المشكلات حلاً ذهنياً أي عن طريق الرموز أي حل المشكلات بالذهن لا بالفعل وهذا هو ما يعرف بالتفكير الاستدلالي أو الاستدلال.

وما يهمنا نحن من هذا المعنى هو الوصول إلى الابتكار والإبداع، فالإبداع هو إيجاد حل جديد وأصيل لمشكلة: علمية أو فنية أو اجتماعية أو اقتصادية أو سياسية أو غيرها، ويقصد بالحل الأصيل الحل الذي لم يسبق صاحبه فيه أحد، بمعنى أن الحل ابتدع وابتكر بشكل جديد، والمشكلات على أنواع فمنها ما يستهدف تفسير ظاهرة ما، أي معرفة أسبابها كالمشكلات الفلكية والفيزيقية والطبية التي تعرض لحلها أمثال نيوتن وجاليليو وإينشتاين وجينز، أو مشكلة نشأة الأمراض النفسية التي عالجها فرويد وكل هذا يطلق عليه الدكتور أحمد عزت راجح بأنه إبداع من قبيل الكشف.

ولذلك فإنه من المهم أن نُعلّم الإبداع والابتكار للأجيال القادمة، فالإبداع لا يشمل العلماء والأدباء والمثقفين بل يشمل جميع فئات المجتمع كبيرها وصغيرها سليمها ومعاقها، متعلميها وأمييها ، ولا يمكننا استثناء أحد. فالإبداع يكون على مستويات تختلف حسب أهميتها وقيمتها في المجتمع.

> لماذا أصبحت الحاجة ملحة للتفكير الإبداعي ؟

إنه سؤال مهم جداً ، والإجابة عليه تحتاج إلى كتب ومجلدات، ولكن ما يمكن قوله باختصار شديد إن العالم اليوم بحاجة إلى التفكير الإبداعي بالتوازي مع التعليم، فلولا الإبداع لبقي العالم يدور حول نفسه في حلقة مفرغة، تصوروا معي أن توماس أديسون لم يخترع المصباح، وتصوروا معي أن العالم لم يخترع الآلة البخارية والطباعة والحاسب الآلي. سيظل العالم يعيش في ظلام دامس بلا شك. والإنجازات الأدبية والتقنية والفنية والعلمية هي في حد ذاتها نتجت عن تفكير وإبداع ورسمت أسماء منجزيها بحروف من ذهب في صفحات كتب التاريخ.

إن الأجيال القادمة تنتظرها تحديات كبيرة لمواكب هذه الثورة التكنولوجية لتتمكن من المنافسة والمحافظة على مكانتها بين الأمم، ولذلك فنحن معنيون بتقديم يد العون للأجيال القادمة ومشاركتها التقدم السريع والفعال لتحقيق الإنجازات واستغلال نعمة العقل لتقديم الإبداع للعالم، لأن الإبداع هو ثروة الشعوب العظيمة.

تأمل أخي القارئ جهاز الجوال الذي بين يديك، وتأمل شاشة الكمبيوتر التي أمامك وفكر ملياً ، وتأمل السيارة التي تنقلك إلى عملك ، واسأل نفسك: لماذا نحن كعرب ومسلمين لم نستطع صنع الجوال والكمبيوتر والسيارة؟ واسأل نفسك أيضاً هل هؤلاء اليابانيون والصينيون والكوريون يمتلكون عقولاً غير عقولنا؟! لماذا هم يفكرون و يصنعون ويبتكرون ويبدعون وينتجون ويخترعون، ونحن نكتفي بالاستهلاك فقط؟ إنها أسئلة تنتظر منا الإجابة.<




 

في الثلاثاء 23 يناير-كانون الثاني 2007 05:13:35 م

تجد هذا المقال في صحيفة أخبار اليوم
https://akhbaralyom.net
رابط الصفحة
https://akhbaralyom.net/articles.php?id=55144