الدين على طاولة السياسة
بشرى عبدالله
بشرى عبدالله

في دولة ينظم الدين فيها أوجه الحياة المختلفة ليكون منطلقاً ومرجعية لكل القوانين التي تهدف إلى تنظيم سير المؤسسات المختلفة درءاً لأي تناقضات أو انتقاص في الحقوق والواجبات، فلقد كان على الدوام ضمن أولويات الحاكم والمحكوم، لكونه الحكم الفيصل في كافة النزاعات والخلاقات والمعاملات اليومية، وطالما كان علماؤه مصدر ثقة واحترام تفوق مكانة وتقدير السياسي المثقف والمفكر، لما لمكانة رجال الدين من أهمية كرسها التاريخ والتربية "التنشئة" الدينية منذ الصغر بوجوب احترام رجال الدين وتوقيرهم وعدم التطاول بالحديث في مجالسهم.
لكن ما شاهدناه وخلال العقدين الأخيرين في اليمن، ورغم أن الدولة مرجعيتها الأولى والأخيرة هي للدين الإسلامي الحنيف، إلا أنها حادت عن ذلك، ليس لأن مصالحها تتعارض مع الدين، لكن لكون تلك المصالح لن يقبل بها الدين، لكونها تتعارض مع تعاليمه بانتقاصها لحقوق المحكومين وتمكن قلة بتسخير كل نفوذها وسلطتها في تحقيق مآربها التي تضرب المصلحة العامة، وهذا ما لا يقبله الدين والذي أساساً جاء لينظم العلاقة بين الحاكم والمحكوم، تجنباً للفتن والظلم والذي طالما كان له أثره في هلاك الأمم قديماً وتخلفها عن الحضارات حديثاً.
الحاكم الذي كان من المفترض أن يرجع للدين كلما اشتدت به المحن والأزمات، حتى لا يقع منه ظلم على أحد من أصحاب الحقوق وخصوصاً تجاه من يعارضه وقد أوجد رجال دين يفتوا له ما أراد أن يفتي له.. فجعلوا الدين كغيره أداة للحاكم.
كان توظيف الدين واضحاً في الأحداث الأخيرة.. فالجميع سعى لكسب تأييد رجال الدين وكان أكثر هؤلاء وضوحاً النظام.. ففي بداية احتدام الصراع وسوء العلاقة بينه وبين الشعب، بادروا بتقديم النقاط السبع والتي ترتكز في مجملها على كيفية الخروج من الأزمة.. فجاء الحاكم مضيفاً النقطة الثامنة، ورغم معارضة بعض من رجال الدين لها، لكونها تحرم الشعب حق من الحقوق المكفولة له دستورياً وقانونياً، والدين الذي هو أساس ومرجعية لهذا الدستور والقانون، لكن الحاكم أصر عليها ليوظفها لمآربه التي لم تعد تخفى على أحد، ليبرز في الصورة بتلك النقاط الثمان ورجال الدين الذي يحظوا بثقة أغلبية الشعب، وكأنه يرسل لخصومه ولمؤيديه رسالة فحواها "إن الدين ورجاله يؤيدونني"، لم يرض الأمر بعض من رجال الدين وخصوصاً بعدما لمسوه من تعنت الحكام وعدم إصغائه للشارع، فانفصلوا عن سياسته وانضموا لهدير التغيير التي اجتاحت اليمن ليؤيدوها لأنها بالنسبة إليهم ليست إلا من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر طالما حافظت على سلميتها.
ليجد الحاكم نفسه قد عزل من ذوي الثقة ليبحث عن رجال دين طالما ادعوا بأنهم ليسو رجال سياسة وأنهم ليسو أهل للمغامرة في دهاليزها، لكنهم وإرضاء للحاكم طوعوا الدين للسياسة، فأفتوا بفتاوى وقفوا بها مع القاتل الذي استباح دم الأبرياء، ففي الوقت الذي أدعى أهالي الضحايا الذين سقطوا وأبنائهم وهم ينشدون التغيير بطريقة سلمية بأنهم شهداء، جاء هؤلاء لينفوا الشهادة عنهم، وأنا لست بصدد إصدار فتوى ولكني هنا أبرز الخطابين المختلفين، فرجال دين قالوا عن هؤلاء الضحايا شهداء، كونهم سقطوا وهم يمارسون أفضل الجهاد وهو كلمة حق عند سلطان جائر، وآخرون قالوا عنهم مغرر بهم وإنما هم قتلى كونهم لم يقفوا أمام عدو وإنما أخٌ في الدين وقد خرجوا عن بيعة الحاكم الذي كان من المفترض الحفاظ عليها.
وما نعرفه عن الدين الإسلامي هو سماحته واستيعابه لمتغيرات العالم أجمع ليناسب كل زمان ومكان ولا يركن إلى مرجعية متخلفة متحجرة تتغنى ببعض الفتاوى الضيقة، وإن الدين لم يكن يوماً قيد على أحدـ أو سلطاناً جائراً على أحد بقدر ما أعطانا الحرية والكرامة والإنسانية التي جعلتنا مختلفين عن سائر الأمم، ليأتوا بعض هؤلاء ليكونوا أدوات للحاكم يناصروه على الباطل ويفتوا بفتاوى من أنزل الله بها من سلطان ولو كان فيهم خيراً لكفوا الحاكم عنما يمارسه تجاه شعبه، لكنهم أبوا إلا أن يكونوا أداة على طاولات حكامهم للتأجيج والتحريض وزرع الفتنة والشقاق، وجعلوا الدين الذي يجب أن يتبعه الجميع تابعاً للحاكم.
لقد انقسم رجال الدين في اليمن إلى قسمين أو أكثر، فقسم أقر بوجوب طاعة الحاكم والالتزام بالبيعة التي بايعناه بها حتى الممات، وقسم آخر أقر بجواز الخروج والمطالبة بتغيير الحاكم من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وخاصة بعد ما صدر منه انتهاك للحقوق وللنفس البشرية.
وهكذا وكلما انشق رجال الدين انشق الشعب ليتبع كل طائفة منهم طرفاً ولا يذهب ضحية هذا الانقسام إلا الجهلة ممن ينقادون وراء رجال الدين والساسة، دونما تفكير أو عقلانية، مفرغو الجماجم يحركونهم أينما وكيفما أرادوا.
بين من يفتي بجواز الخروج في ماهرات واعتصامات من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبين من يحرمها باعتبارها دخيلة ولم يفعلها الرسول ولا أصحابه، وبين من يفتي بجواز الخروج عن الحاكم وخاصة بعد ما فقد شرعيته بانتهاكه دماء رعيته وبين من يوجب طاعته والالتزام بالبيعة التي بايعناه حتى الممات، بين من يسمي القتلى الذين سقطوا نتيجة لكل ما سبق شهداء كونهم مارسوا أعظم الجهاد "كلمـة حق عند سلطان جائــــر"، وبين من يعتبرهم قتلى، بين من أهان الدين حينما أدخله بالسياسية دونما علم أو دراية وجعله خادماً لطرف ما يؤتمر الدين به ويوظف لبقائه ولكسب مؤيديه، طائفة حملت أوزار من يثق برجال الدين ويحتكم لفتواهم ليجدوا أنفسهم بعد حين شركاء في جرم ضد الدين، ضد الإنسانية، فماذا سيحل بمثل هكذا رجال دين؟.
ألا يجب أن يعاقبوا كونهم تطاولوا على الدين حينما سخروه لخدمة طرف على آخر؟ ألا ينبغي أن يكون عقاب هؤلاء مضاعف، كونهم لم يمارسوا ما مارسوه إلا عن علم؟، لكونهم لم يكتفوا بتضليل أنفسهم، بل ضللوا الناس وزرعوا الشقاق والفتنة بينهم؟ ألا يجب أن يكونوا أول من يحاسب، وتسحب الثقة عنهم وعباءة الدين التي ارتدوها، لأنهم مارسوا أكبر جرم حينما عملوا على التعبئة الخاطئة والمتعمدة للناس فقط، إرضاء للحاكم؟، لكي يكونوا عبرة لباقي العلماء الذين شوهوا صورة الدين الإسلامي الحنيف.

في الأربعاء 30 مارس - آذار 2011 07:30:30 ص

تجد هذا المقال في صحيفة أخبار اليوم
https://akhbaralyom.net
رابط الصفحة
https://akhbaralyom.net/articles.php?id=64025