اليمن على شفا الجحيم
مجلة نيويورك تايمز الأمريكية
مجلة نيويورك تايمز الأمريكية

بقلم: روبرت وورث                                                ترجمة / اخبار اليوم


في يوم 29 مايو، شاركت امرأة شابة تدعى بشرى المقطري مع مجموعة من آلاف المتظاهرين في مسيرات تجوب شوارع تتناثر فيها القمامة بمدينة تعز اليمنية. عمر الثورة الديمقراطية في العالم العربي خمسة أشهر وصبر المتظاهرين في تعز بدأ ينفد.

كانت بشرى واحدة من أوائل القادة الأكثر شجاعة في حركة الاحتجاجات. إنها شخصية رائعة: متظاهرة عمرها 31 عاما وحاصلة على شهادة جامعية وروائية وهي أيضا مطلقة وليس لها أطفال وكانت إلى وقت قريب ترفض ارتداء البالطو. قصيرة وضعيفة ووجهها جميل بعيون بنية هادئة.

في عصر ذلك اليوم، كانت بشرى واقفة في حشد تجمع أمام مبنى الأمن العام بالمدينة وسمعت أصوات عالية جدا. لقد رأت ضباطا على سطح المبنى. لم يكونوا يلقون بالحجارة كما كان الحال عليه سابقا. بل كانوا يطلقون الرصاص على الحشد بشكل متواصل. في غضون دقائق، قُتل ما لا يقل عن أربعة متظاهرين وجُرح نحو 60 آخرون.
ركضت بشرى نحو ساحة الحرية حيث كان الآلاف من المحتجين مخيمين منذ عدة أشهر مطالبين باستقالة الرئيس اليمني علي عبد الله صالح. ثم بدأ الهجوم الحقيقي. بدأت عربات مدرعة ودبابات وجرافات تصل إلى ساحة خيام المحتجين من جميع الجوانب. أطلقوا الغاز المسيل للدموع وخراطيم المياه ومن ثم بدؤوا بإطلاق النار على المتظاهرين من مسافة قريبة. صبوا البنزين على الخيام وأشعلوا فيها النار. لم يكن أحد من المتظاهرين مسلحا.

قالت بشرى: "الناس كانوا يموتون في كل مكان حولنا ولم يكن هناك أي شيء يمكننا القيام به".
عند الساعة 11 مساءا، فرت بشرى إلى بيت أختها الذي يبعد حوالي 200 متر من الساحة. من هناك شاهدت وغيرها من المحتجين النيران تجتاح الساحة بأكملها مستعرة لعدة ساعات. اقتحم الضباط مستشفى محلي وعدة عيادات ميدانية حيث كان المتظاهرون يتلقون العلاج، فأطلقوا عليهم قنابل الغاز المسيل للدموع والرصاص الحي واعتقلوا الأطباء والممرضين. البعض كان يغرز فوهات البنادق في جروح المتظاهرين. وآخرون كانوا يضحكون بهستيريا، كما لو كانوا يتعاطون مخدرات. هذا هو الوصف الذي سردته لي بشرى وغيرها.

في صباح اليوم التالي، وسط بقايا الخيام المتفحمة، شخص خربش على هتافات المتظاهرين المكتوبة في الجدار، كاتبا بسخرية "النظام يريد إسقاط الشعب".

مجزرة تعز لم تلقى اهتماما من الغرب، ربما بسبب الفوضى الكبيرة والعنف الذي يجتاح العالم العربي، خصوصا في سوريا ولبيبا وربما بشكل أقل في مصر وتونس.

حتى الأحداث في تعز أخذت بُعدا مأساويا مع تزايد عدد القتلى والجرحى. كانت المدينة هي قلب الثورة وكان المحتجون أقل تسيسا وسلميين أكثر من أي مكان آخر في اليمن.

وبرغم قسوته المفرطة، فقد أكد هجوم 29 مايو على ما يخشاه الكثير من اليمنيين: أن يرى صالح الانتفاضة الديمقراطية تشكل تهديدا لسلطته أكبر من تنظيم القاعدة.

إن إحراق ساحة تعز تزامن مع انهيار سلطة الحكومة في مناطق واسعة من جنوب اليمن حيث استولت الجماعات الجهادية المدججة بالسلاح على مدينتين وعدة قرى. وفي محافظة صعدة أيضا شمال غرب البلاد، تسيطر حركة ميليشيا على المحافظة، وقد تم مؤخرا اختيار أكبر تاجر سلاح في اليمن كحاكم جديد لصعدة.

كل ذلك كان له افرازات وآثار تتخطى جبال وصحاري اليمن النائية. فعلى سبيل المثال، الفوضى في الشمال تهدد باندلاع صراع بالوكالة بين ألد عدوين في المنطقة، السعودية وإيران، والجيش اليمني لم يعمل أي شيء لاعتراض حكم الميليشيا.
وحتى بعد نقل صالح جوا إلى مستشفى في السعودية لتلقى العلاج بعد إصابته مطلع يونيو في انفجار قنبلة داخل مسجد قصره، يبدو أن الحكومة أو ما تبقى منها مصممون على سحق المتظاهرين العزل في حين يتركون بقية أنحاء البلاد مفتوحة لبعض من أخطر الرجال في العالم.

بعد عقود من المؤامرة السرية مع الجهاديين والمتمردين المسلحين، يعتقد صالح وقادته العسكريين بأنه يمكنهم بسهولة هزيمة هؤلاء المقاتلين أو حتى عقد صفقات معهم.

فإذا كان الأمر كذلك، فإنهم يشكلون مخاطر هائلة، إحداها يمكن أن تكون لها عواقب مميتة بالنسبة للولايات المتحدة، والتي أصبحت الهدف الرئيسي لفرع القاعدة في اليمن. ويمكن أن تصبح كارثة على منطقة الشرق الأوسط الكبير التي تواجه الآن احتمال انهيار ركنها الجنوبي على غرار انهيار الصومال.

وبالنسبة لـ23 مليون يمني، فإن الخطر هو أعظم. فإذا استمر البلاد في التفكك، فسوف يفقدون فرصة للخروج في نهاية المطاف من العنف والفوضى التي حكمت حياتهم لفترة طويلة.

تقول بشرى: "إنهم يهاجموننا يوميا مستهدفين منازل الناشطين ويعتقلون الناس. ولو أنهم يضغطون علينا ويدفعوننا لممارسة العنف، لكننا لن نكون مثلهم. إنهم يريدون تحويل الثورة إلى حرب قبلية. وهذا سوف يمزق البلاد".
لقد بدأت الثورة المضادة في اليمن بكلمة واحدة: برغلي. وهي كلمة يمنية قديمة تستخدمها القبائل في الشمال لتشويه سمعة أبناء تعز المدنيين غير المسلحين.

منذ بداية فبراير، بدأ صالح والتابعين له بإرسال قطعان من البلطجية إلى ساحات الاحتجاجات حيث كانوا يصيحون في المتظاهرين (براغلة) ويضربونهم بالهراوات.

هذه الكلمة لم تكن مفاجئة. فصالح هو نفسه أحد رجال القبائل الشمالية وحاصل على تعليم ابتدائي وهو الحاكم المتلاعب الذي مزق مؤسسات المجتمع المدني القليلة في البلاد خلال فترة حكمه الـ33 عاما. ويُقال أيضا إن صالح قد أغاض تعز التي كانت يوما ما عاصمة اليمن، بسبب دورها كمنارة للتعليم والتنوير.

بمهاجمة تعز، يبدو أن صالح وقادته العسكريين يغضبون التعزيين بشكل متعمد.

تقول بشرى: "البعض منا لم يفكر في تسميتها بثورة البراغلة".

عندما التقيت بشرى خلال وجبة غداء في اليوم الأول لي في تعز، جلسنا على طاولة طويلة مليئة بالدجاج المشوي وطبخة لحم تسمى الفحسة في أحد المطاعم المزدحمة يملكه أحد رجال الأعمال المتعاطفين مع المتظاهرين والذي كان يقدم لكم وجبات الغذاء.

كانت بشرى ترتدي غطاء الرأس ملفوف بإحكام حول وجهها وكان معها مجموعة من منظمي الاحتجاج يتميزون بمظهر يدل على هوية هذه المدينة، منهم الطبيب والمحامي وطالب الدراسات العليا والمهندس.

تقول بشرى إن التعزيين يفتخرون بشدة بجذرهم المدني. المدينة هي مركز التجارة القديمة ومهد المدرجات الجبلية الخضراء حيث يتم زراعة البن الذي تُصنع منه القهوة. مدينة المخأ في الشمال الشرقي من تعز المطلة على البحر الأحمر هي التي سُميت القهوة بها منذ زمن طويل. وهذه المنطقة معروفة لليمنيين ببلاد العيش بعكس المناطق الشمالية التي تسمى بلاد الجيش. فقد كانت دائما عرضة لغارات رجال قبائل من الجبال الشمالية القاحلة. وكانت تعز مدينة جذابة، لكنها الآن تتعرض للضرب والتحقير، حتى بمقاييس اليمن البلد الأكثر فقرا في العالم العربي.

تقول بشرى إنه على مدى ثلاثة عقود قام صالح بتجريد المدينة من رأس المال، وتركيزه على رعاية شبكته للمحسوبية في صنعاء. وتقول "إن الأمر أشبه بنوع من العنصرية. إنه يريد من تعز أن تعاني".
بعد الغداء، أخذنا أحد أصدقاء بشرى بسيارته إلى الساحة. الشوارع كانت تفيض منها رائحة القمامة. أخبرني بعض السكان بأن الحكومة منعت عمال البلدية من جمع المخلفات. طوابير السيارات المنتظرة شراء البترول هي على مدد العين وقد أغلقت الطرق الرئيسية في المدينة.
مررنا بعدد من نقاط تفتيش كان فيها حراس يرتدون ملابس مدنية، ويقول الكثيرون إنهم يخشون الاغتيال منذ الهجوم على الساحة. كان هناك نقطة تفتيش واحدة فقط مليئة بالجنود النظاميين كانوا بالقرب من صورة ضخمة للرئيس.
تقول بشرى: "إنهم هنا لحراسة الصورة. إنها الصورة الوحيدة الباقية في تعز".
توقفت السيارة بالقرب من ساحة الحرية ومشينا بقية الطريق. بقايا الخيام المحترقة والكتل الخرسانية وعبوات القذائف كانت متناثرة في الشوارع. حتى الأشجار تم إحراقها وجذوعها متفحمة. عند وصولنا إلى وسط الساحة، ركض بضع عشرات من الشباب والأطفال نحونا، حيوا بشرى كما لو كانت الزعيمة. ثم حدث شيء رائع: بدأ عزف النشيد الوطني اليمني عبر مكبر صوت من مكان قريب. على الفور وقف الجميع بانتظام رافعين أيديهم اليمنى رمزا للسلام ورددوا كلمات النشيد. لم يسبق لي أن رأيت هذا في أي مكان في اليمن.

بعد ذلك قالت بشرى أن ذلك قد أصبح أحد الطقوس خلال فترة الاعتصام، مضيفة: "أردنا أن نظهر أن حب الوطن ليس مرتبط بالنظام".

بعد لحظات، السحب الكثيفة غطت سماء المكان وبدأت الأمطار الغزيرة بالهطول محولة الشوارع إلى وحل. ركضنا إلى مبنى محترق للاحتماء فيه من المطر.

أحد زملاء بشرى أخذنا بسيارته إلى مرتفع فوق المدينة حتى نراها بشكل واضح. كانت السيارة مكدسة بثمانية أشخاص، أربعة رجال وأربع نساء، في خرق لقواعد الأدب بالنسبة لمعظم اليمنيين، لكن هنا في مدينة تعز الليبرالية، فقد كان الأمر على ما يبدو طبيعيا تماما.

خلال الطريق، حدثتنا بشرى عن حبها لروايات أجنبية. وقد نشرت مجموعة قصصية خاصة بها وتعمل حاليا على إعداد روايتها الأولى.

تقول بشرى: "أنا مثقفة"، واصفة لي كيف تسافر إلى القاهرة كلما توفرت الفرصة وتعود وحقائبه مليئة بالكتب المترجمة إلى اللغة العربية. كان ذلك مدهشا بالنسبة لي أن أجد هذه المرأة في بلد حيث يتم تزويج الكثير من الفتيات قبل سن الـ13 عاما ومعظمهن لا يسطعن القراءة.

كان الهواء على قمة الجبل باردا ورطبا. كان هناك منظر عام مذهل من المدرجات ومنازل يمنية تقليدية مبنية من الطوب واللبن تطل على مدينة تعز. ربما أنها من أجمل الأماكن في تعز، لكن أحد المتظاهرين وصفها لي بقوله: "إنها جوهرة من الرماد".
جلست مع بشرى في بهو فندق فارغ وطلبنا شاي. قالت بشرى إن الاحتجاجات في تعز بدأت في يناير الماضي عندما كانت مجموعة من اليساريين الشباب ملهمين مثل نظرائهم في مصر بالثورة التونسية. معظمهم كانوا محبطين من أحزاب المعارضة السياسية في اليمن، التي دخلت في صفقات مع صالح من أجل الحفاظ على حصتها التافهة من السلطة.

بدؤوا تنظيم المظاهرات وذلك باستخدام الشعار الشعبي المنطلق من تونس ومصر "الشعب يريد إسقاط ا لنظام". حزب المعارضة الأكبر في اليمن، وهو حزب إسلامي معروف باسم التجمع اليمني للإصلاح، طالب بتعديل الشعار بشعار "إصلاح" النظام. المتظاهرون رفضوا ذلك.

كتبت بشرى سلسلة من الأعمدة الحادة في إحدى الصحف المحلية الراغبة في نشر كتاباتها. في يوم 11 فبراير وهو ذات اليوم الذي سقط فيه مبارك، تصاعدت الاحتجاجات في مدينة تعز لتصل إلى عشرات الآلاف وتحولت إلى اعتصام دائم في ساحة الحرية.

تقول بشرى: "لم نكن نتوقع انضمام الكثير من الناس إلينا". يبدو أن تعز هي بذرة الروح لكل اليمن. لقد أصبح التعزيون في صلب الحركات الاحتجاجية المحلية في عدة مدن أخرى، بما فيها العاصمة صنعاء.

بعد أن أطلق مسلحون النار على المتظاهرين في صنعاء في شهر مارس مما أسفر عن مقتل العشرات، تم قراءة أسماء القتلى ومدنهم على المنصة الرئيسية في ساحة الاحتجاج. معظم القتلى كانوا من تعز

لقد بدأت الولايات المتحدة تعيد النظر في دعمها لصالح. فقد أصبح شريكا أساسيا، ولو لم يكن جديرا بالثقة، منذ نوفمبر 2001 عندما سافر إلى واشنطن للتعهد بدعم الحرب على الإرهاب.
دور اليمن باعتبارها منبع للجهاد العالمي، فالعديد من جنود القاعدة كانوا يمنيين، سمح لصالح بأن يقدم المعلومات الاستخباراتية ويصل إلى قيادات الجهاديين مثل أنور العولقي الذي يختبئ حاليا في محافظة شبوة وسط اليمن. 

لقد ساعد الإرهاب في تسليط الضوء على اليمن التي كانت مهملة منذ فترة طويلة باعتبارها بلدا قاحلا وفقيرا ومعزولا.

قال لي مسئول يمني: "لقد اعتادت اليمن على تسميتها بذيل البقرة السعودية. والآن أصبح لها بقرة خاصة بها".
حتى الآن زادت المعونة الأمريكية والمساعدات العسكرية خلال السنوات الماضية. وأصبح الدبلوماسيون الذين يتصدقون بها مرتبكين على نحو متزايد.
لقد عرض صالح القاعدة كورقة مساومة، فيمكنه استخدامها لضمان توفير احتياجاته عندما بدأت احتياطيات النفط والماء في اليمن بالنفاد. لقد سمح لإرهابيين مدانين بالهرب من السجن، لكنه مع ذلك يتخذ إجراءات صارمة ضد المتظاهرين العزل. 

وفي الوقت نفسه، فإن سياسته فرق تسد قد تركته في عزلة كبيرة جدا داخل اليمن. وحتى الأمريكيون وشركائهم السعوديين ينقلبون عليه في نهاية المطاف، واصلين إلى قناعة بأنه صار مقلقا أكثر مما يستحق

لكن انتفاضة 2011 أخذتهم على حين غرة، ربما جزئيا لأنهم قللوا من قوة الحركة السلمية التي بدأت في تعز. حتى اليمنيين أنفسهم لم يكونوا مستعدين. 
بعد فترة قصيرة من بدء الاحتجاجات، التعاطف مع البراغلة وقضيتهم انتشرت في أكثر الأماكن غير المحتملة.

من بين أوائل من تبني هذه القضية كان رجل قبلي مكرش عمره 36 عاما واسمه عبدالله بن الهدار. هو من مأرب وهي محافظة مشهورة بالفوضى وتقع شرق العاصمة اليمنية. 
قابلته للمرة الأولى في خيمته حيث يقيم فيها منذ أربعة أشهر في ساحة الاحتجاج بصنعاء. أدهشني بمظهره: لم يكن يرتدي الجنبية التي دائما ما يحملها رجال القبائل اليمنيين.

قال لي عبدالله: "لقد توقفت عن حمل الجنبية منذ جئت إلى الساحة". وكان رأسه مكشوفا أيضا فقد كره الملابس المزينة بالنقوش والتي يرتديها معظم رجال القبائل. وبالرغم أنه تحدث بلهجة بدوية ثقيلة، فقد وضع نظارة بدون إطار على وجه جعلته يبدو كأنه بائع أكثر من كونه محارب إقطاعي. 

قال عبدالله إنه كان في منزله في مأرب وسط ترسانة هائلة من الأسلحة عندما انطلقت الاحتجاجات في صنعاء في فبراير. وقال عبدالله: "اعتدت على النوم والبنادق من حولي. ودائما ما تخيف زوجتي". ويقول إن النزاعات القبلية سيطرت على حياته وعقدتها.

العداءات لا تزال موجودة تقريبا في مأرب. حدود القبيلة مرصودة بشدة، لذلك فإن أي مترجل أو سيارة تتخطى أرض العدو يمكن أن تعرض حياته للخطر. 
وقال عبدالله إن صنعاء هي غالبا مكان خطير، لأن الأعداء يمكنهم اللحاق بك في أي وقت في وسط الزحام ومن الصعب أن تلحظهم مقبلين.
ويقول: "هذا هو السبب في أنني لم أتعلم اللغة الإنكليزية. الدراسة هي دائما في وقت ومكان معينين". وأخبرني عبدالله وغيره أن دراسة طلاب جامعة صنعاء قد اغتيلت بهذه الطريقة بالضبط.
تربى عبدالله منذ فترة طويلة على كراهية حكومة صالح، الذي لامه في الكثير من البؤس الموجود في مأرب. لذلك عندما بدأت الانتفاضة، اتجه عبدالله مباشرة إلى صنعاء، وبحث عن خالد الانسي، المحامي في حقوق الإنسان وعمره 42 عاما، والذي برز كواحد من قادة الانتفاضة.

قال الآنسي: "قال لي عبدالله الهدار عندما التقيته (سأحضر قبيلتي إلى هنا سنحميكم وسنقاتل من أجل كرامتنا)".
كانت الانتفاضة لا تزال وليدة، لكن الآنسي، الناقد الحاد لنظام صالح وأحد نشطاء صنعاء القليلين، كانت له مجموعة أولويات. يقول الآنسي: "الشيء الأهم بالنسبة لنا لم يكن التخلص من علي عبدالله صالح أو حتى بناء دولة مدنية. هدفنا كان تغيير عقلية العنف وهذه هي ثقافة الجيش والقبائل".


لذلك فهو رد على عبدالله بشدة، قال له: "شكرا لكم، لكننا لا نريد حماة أو مؤيدين. نحن نريد شركاء. إذا أنت تريد أن تكون في أمان، فنأمل أن تنضم إلينا". 

كان وقع هذه الرسالة كبيرا على عبدالله. كأحد رجال القبيلة، توقع عبدالله أن يكون دوره في حشد العضلات والفرض بالقوة. يقول الآنسي: "الحكومة تعاملت دائما مع مثل هؤلاء الناس كأدوات. نعم، تعطيهم الأموال والأسلحة ويتحدثون عن الكرامة لكنها لا تتعامل معهم على قدم المساواة. إنها لا تحترمهم".


لقد تحول حماس عبدالله إلى دوره الجديد كمتظاهر. ويقول عبدالله: "لم أكن أتخيل أن هذا سيكون ممكنا وأن أتخلى عن العنف. إنه شيء سماوي". 

بعد ذلك بأيام تعرض عبدالله للضرب بشدة في مواجهة مع بلاطجة الحكومة الذين يرتدون ملابس مدنية. لقد لبس شعاره الجديد بفخر وبثت قناة الجزيرة لقطات لظهره العاري وهو مليئ بالضربات. أفراد قبيلته في مأرب رؤوا ما حدث له فأتصل به أحدهم على الفور وقال له إن أفراد القبيلة قادمون للثأر له.


وقال عبدالله: "كانوا مدججين بالسلاح. لكنني رفضت. وقلت لهم: إذا أي شخص يريد الانضمام إلي، فعليه ترك كل الأسلحة جانبا، وحتى لا يحمل الجنبية. وحتى لو قُتلت فلا يجب أن تردوا". 

كان هذا انتهاكا لأحد المبادئ الأساسية للحياة القبلية. أقارب عبدالله أرسلوا إليه بعض منهم حتى يطمئنوا على صحته ويتعرفون على الاعتصام. يقول عبدالله إنهم كانوا حوالي 25 شخصا، وفي اليوم الأول لهم في المدينة، مجموعة من بلاطجة الحكومة تعرفوا على عبدالله وهاجموه، فحاول رجال القبائل حمايته، لكنه قال لهم: "لا، كل واحد يحمي نفسه".


لكن الأسابيع التالية لم تكن سهلة. فقد تلقى عبدالله اتصالات غاضبة من أقاربه القبليين والذين قالوا إنه أهانهم. وسعى مسئولون حكوميون إلى إخراجه من ساحة الاعتصام وحاولوا رشوته بالمال والوظائف. 

وكان عبدالله خائفا من الثأر حتى في ساحة الاعتصام. يقول عبدالله: "لمدة عامين كان يحاول أحد الرجال اختطافي أو قتلي. رأيته في وسط ساحة التغيير وكنت خائفا، لكنه اتجه نحوي وقال لي (نعم كنت أخطط لقتلك. الآن كل ذلك انتهى أنا مع الثورة)".


هذه الواقعة انتشرت في التجمعات القبلية، وجاء الكثير والكثير من القبائل من المحافظات إلى صنعاء وغيرها من المدن للانضمام إلى الاحتجاج. حتى في عواصم المحافظات، تم إقامة ساحات للاعتصام وأحيانا بإبرام اتفاقيات لإنهاء أي عداوات حتى يتمكن الناس من الحضور إلى الساحات من دون الخوف بتعرضهم لكمين. 

يقول أحمد الزايدي ناشط من مأرب إنه تم دعوة رجال القبائل في صنعاء لتوقيع وثيقة يتم بموجبها وقف جميع النزاعات. لكن بعد أن جمع الزايدي وغيره من الناشطين مئات التوقيعات، تم وضع الأوراق جانبا وتم اتخاذ قرار بالإعلان فقط عبر مكبرات الصوت عن عفو قبلي عام في المنصة الرئيسية للاحتجاج في صنعاء.


يعيش الزايدي في خيمة بساحة الاحتجاج مع ستة شباب من مأرب، البعض منهم قبائلهم في حالة حرب ضد بعضها البعض. 

يقول الزايدي وهو جالس يصيغ بيانا جديدا في كمبيوتره المحمول: "هذه النزاعات هي الشيء الذي تلعمناه من الكبار. لكن يكفي إلى هنا، فنحن لا نريد ذلك. الشباب هم أملنا الوحيد للخروج من هذه الحلقة المفرغة من العنف".


وأضاف الزايدي أنه لم يكن هناك أي صراعات خطيرة بين رجال القبائل في الساحة في حين حدثت مشاجرات بين أعضاء الأحزاب السياسية المعارضة. 

وقال الزايدي وهو مبتسم: "من المفترض أنهم المتحضرون الوحيدون لكن هم الذين لديهم مشاكل".


ومع أن قبائل مأرب ألقت أسلحتها جانبا، فغيرهم كانوا يخططون لحرب ضد النظام. في أوائل مايو، بدأ مئات من المسلحين بالقدوم بهدوء إلى منزل آل الأحمر. إنه مبنى محصن بسور مبنى من الصخور البركانية الرمادية في حي الحصبة شمال صنعاء. 

آل الأحمر هم زعماء أقوى قبيلة في اليمن وهي قبيلة حاشد التي تضم العشرات من الأسر القبلية وعشرات الآلاف من المقاتلين المدججين بالسلاح في معظم المناطق بشمال اليمن.


ومعروف لعدة قرون بأن قبيلة حاشد ومنافستها الرئيسية قبيلة بكيل هما بمثابة أجنحة للحاكم. وعلى الرغم من أن صالح عمل الكثير في سبيل تقسيم القبائل، إلا أن القبائل لا تزال تشكل قوة وشبه مستقلة في اليمن، وولائهم لا يزال هو العنصر الرئيسي لأي حكومة.

بدأ صالح في خسارة آل الأحمر قبل عدة سنوات، لكن الخصومة النهائية بدأت في 18 مارس. في ذلك اليوم أطلق مسلحون، يرتدون ملابس مدنية، النار على المتظاهرين في صنعاء مما أدى إلى مقتل ما لا يقل عن 52 شخصا وتسببوا في موجة من الانشقاقات في الصفوف العليا من الحكومة اليمنية.


وقد غضب صادق الأحمر، شيخ حاشد، من المذبحة وأعلن فورا عن انضمامه إلى الانتفاضة. وكان الملياردير حميد الأحمر، أخو صادق، أحد أشد المنتقدين لصالح منذ وقت طويل، ويقدم الأموال والتشجيع للمتظاهرين في صنعاء منذ يناير الماضي. 

بعد مجزرة مارس، أصبح الأخوان على قناعة بأن القوة هي الوحيدة التي ستخلص اليمن من صالح. ووفقا لعدد من الأشخاص الذين يعرفونه فإن صالح كان على يقين من أن آل الأحمر قد خططوا للانتفاضة بأكملها وكان يعكف للأخذ بالثأر.


على مدى الشهرين التاليين للمجزرة، ازداد التوتر بين آل الأحمر وقبائل صالح بشكل أكثر سوءا. قصر آل الأحمر في الحصبة محاط بمباني حكومية من ضمنها وزارة الداخلية. 

عندما بدأ صالح بملء تلك المباني بالمسلحين والجنود بحجة منع آل الأحمر من الاستيلاء عليها، رد الأحمريون بالمثل، مستقدمين رجال قبيلتهم إلى صنعاء من محافظة عمران، معقل أسرة آل الأحمر.


اندلعت الشرارة في 23 مايو بعد أسابيع من الجهود الفاشلة التي قام بها دبلوماسيون عرب وأمريكيون لإقناع صالح بالتنازل عن السلطة لحكومة مؤقتة. 

لا يزال من غير الواضح من الذي أطلق الرصاصة الأولى، لكن في غضون ساعات تحولت الحصبة إلى منطقة حرب، استخدمت فيها المدفعية الثقيلة محطمة المباني الحجرية القديمة.


ثم احتدم القتال لمدة أسبوعين حتى تم إخلاء المنطقة بأكملها من السكان وتناثرت في الشوارع الجثث المتعفنة. ووفقا لمنظمات حقوق الإنسان فما لا يقل عن 130 شخصا قتلوا في هذا القتال، لكن عدد القتلى قد يكون أكثر بكثير لان قذائف الهاون كانت قوية لدرجة أنه كان من المستحيل تقريبا دخول المنطقة. 

لم يتوقف القتال إلا عندما انفجرت قنبلة في مسجد صالح في 3 يونيو مصيبة صالح بحروق خطيرة وشظايا استقرت في صدره جراء تطاير المنبر الخشبي للمسجد.


في اليوم التالي، تم نقل صالح جوا وستة آخرين من المسئولين الحكوميين رفيعي المستوى إلى السعودية لتلقي العلاج وتُركت اليمن في فراغ سياسي فوضوي

عندما التقيت صادق الأحمر في منزل أسرته بالحصبة، كانت الشوارع القريبة لا تزال مليئة بروائح المباني المحروقة، حتى أني شممت رائحة متعفنة لا أعرف إذا كانت لإنسان أو حيوان.

استقبلني صادق الأحمر، وهو رجل قصير له حواجب مجعدة وأنفه يشبه منقار الصقر، داخل البوابة الأمامية. كان يرتدي ثيابا قبلية كاملة مع جنبية كبيرة وكلاشنكوف فوق كتفه، والذي لم يسبق له أن أزالها

حوالي عشرين قبيليا كانوا يتبعونا ونحن نسير داخل ساحة المنزل. كان المنزل في حالة دمار والأنقاض في كل ناحية والجدران مغطاة بالدخان الأسود.

أخذني الأحمر إلى نافذة كبيرة محطمة محاطة بالأنقاض وقد تكسرت قضبانها الحديدية. قال الأحمر: "هذا هو المكان الذي ضربه الصاروخ عندما كنا مجتمعين من أجل التوصل إلى وقف إطلاق النار. كنت وراء ذلك العمود"

طليت إلى الداخل ورأيت العمود وبجانبه مراتب مصبوغة بما يشبه بقع الدم. حدثت ضربة الصاروخ عندما كان الأحمر مجتمعا مع وفد ضم مسئولين حكوميين كبار. وقُتل 13 شخصا منهم مشايخ بارزين.

ثم أخذني الأحمر إلى استراحة دائرية مصنوعة من الحجر والخشب وهو المكان الوحيد الذي يبدو أنه نجا من القصف. جلسنا في المكان وحاشيته القبلية محيطة بنا. بين الحين والآخر كان جمل يطل برأسه أثناء حديثنا، وهو الناجي الوحيد من بين 17 جملا كانوا يعيشون في المنزل قبل اندلاع القتال. رائحة الروث أكثر فائحة جدا.

وقال الأحمر: "لم يعد هناك حكومة الآن، إنهم مجرد عصابات". كان أنخبا وأحيانا كان يسرد نكات عامية عربية كانت تُضحك مرافقيه.
لقد تحدثنا باختصار عن الرئيس بالوكالة عبد ربه منصور هادي، وقد كشر الأحمر مظهرا أسنانه المكسوة باللون البني. السلطة الحقيقية في اليمن كانت بيد أسرة صالح. إنه يدير السلطة من خلال قائمة من أفراد أسرته بدءا بنجله أحمد الذي يتولى قيادة الحرس الجمهوري وأبناء أخيه يحيى وطارق وعمار الذين يسيطرون على الوحدات الأمنية الأساسية.

يقول الأحمر: "إنهم مجرد أطفال وهذه هي المرة الأولى التي يدخلون فيها حرب". سألته إذا كانت المعركة مع صالح ستُستأنف. قال لي إنها بالتأكيد ستستأنف، ما لم يكن الرئيس بالوكالة مستعدا "لإثبات نفسه كرجل" ويعلن تشكيل حكومة جديدة، ونفي أبناء صالح من هذه العملية. لم يكن عليه أن يضيف بأن هذا غير ممكن الحدوث إلى حد كبير.

 

واعترف الأحمر أن أسرة صالح لا تزال تحظى بدعم القبائل مقابل الرواتب التي يدفعوها لهم. سألته إذا كان مستعدا لمزيد من الحرب، فقال: "المقاتلون هم بالفعل داخل صنعاء. إنهم بالآلاف".
الأحمر أشار إلى غرفة من دورين في المنزل، الآن التهمتها النيران ونوافذها مهشمة. قال الأحمر: "هذا هو المكان الذي اعتدت أن التقي فيه اللص"، وهو يعني هنا صالح، مضيفا: "سيستخدم كل شيء سلاحا في هذه المعركة، تنظيم القاعدة والقبائل، كل شيء. كنت أعرف أني صديقه".

وعندما وصلنا إلى البوابة الأمامية، أشار الأحمر إلى صورة والده. لم تمسها النيران. وفي حجر ضخم تم نحت الجنبية، وهي رمز لشرف القبلي. يقول الأحمر: "هذه هي الأشياء الوحيدة التي نجت".

وعندما وصلنا إلى الخارج، صافحني وودعني.
في الأساس ربما ينحصر التنافس بين آل الأحمر وقبائل صالح حول الأموال. فمعروف عن قبائل اليمن أنها مرتزقة، حيث ستقاتل إلى جانب من يدفع لها المال. لقد كان الرئيس وعائلته ينتزعون المال من قطاع النفط على مدى عقود من خلال شبكة معقدة من الوسطاء. وقد سربوا أيضا مدفوعات ضخمة لرعاية القيادات العسكرية والقبلية، فمن فيهم حتى وقت قريب آل الأحمر.

التقديرات حول ثروة أسرة صالح هي بالمليارات وكثير منها موجود في الخارج. في الأشهر القليلة الماضية انفقوا كثيرا جدا ليس لدعم النقص الشديد في الوقود، لكن دفعوا أموالا لعشرات الآلاف من رجال القبائل لحضور المسيرات الأسبوعية المؤيدة للحكومة في صنعاء. كان يتم صرف من 7000 ريال إلى 12000 ريال لكل شخص يوميا.
أما بالنسبة لأولئك الذين لم يكونوا يحصلوا على هذه الأموال، فكانت حياتهم أسوء منذ اندلاع الانتفاضة في بداية السنة بسبب ارتفاع أسعار المواد الغذائية وشحه المياه والوقود. فإذا استمرت هذه الأمور نحو الأسوء، فإنها ستكون جاذبة للإسلاميين المتشددين أو المتطرفين الآخرين، مما شوه كل الحسابات حول ولاء الجيش اليمني أو قبائلها.
في إحدى ليالي نهاية يونيو، أوقفت تاكسي على طريق مظلم في الطرف الجنوبي من صنعاء. كانت السيارة قذرة ومهشمة وسائقها جندي شاب هزيل وثرثار اسمه عبد العزيز كانت مرسومة على وجه ابتسامة عريضة وقد أخبرني أنه يبحث عن بترول

لقد أندفع وراء شاحنة على جانب الطريق، حيث تشابكت حولها مجموعة من السيارات. كان على الشاحنة عدد من الشباب شعرهم طويل ومرتدين ثياب رثة يفرغون براميل الوقود إلى دبات بلاستيكية صفراء.
هؤلاء هم سمسارة السوق السوداء حيث يبيعون البترول بأكثر من 45 دولار للعشرين لتر، ما يعادل سبعة أضعاف السعر الحكومي في معظم المحطات.

 

في المحطات قد يستغرق ملئ خزان السيارة بالوقود الانتظار عدة أيام. توجه عبد العزيز إليهم وبيده دبة صفراء وحصل على البترول في غضون عشر دقائق.
أخذ أنبوب مطاطي من خانة السيارة وقطع نهايته بالجنبية ومن ثم وضع أحد الأطراف في الدبة وأمتص البترول من الطرف الثاني لتغذية السيارة. أخذت منه هذه المحاولة عدة مرات وفي كل مرة كان يبصق البترول من فمه.
كان يتطلع إلي ولا يزال مبتسم. وأخيرا حصلت السيارة على ما يكفيها لتحريك محركاتها. لكن بعد نصف ميل، بدأت حركة السيارة تتقطع، فقال عبدالعزيز: "البترول مخلوط بالماء. لقد خلطوه".
كنا على امتداد طريق فاضي على بعد بضع مئات الأمتار من مسجد الصالح، مبنى ضخم مضاء بالأنوار في مدينة يكسوها الظلام. الآن لا تصل الكهرباء إلى صنعاء إلا لبعض ساعات في اليوم، لكن المسجد الذي بناه الرئيس قبل عقد من الزمن، يٌرى من بعيد وهو مضاء دائما.
بدأ عبد العزيز يحدثني عن نفسه. التحق بالجيش منذ سنة لكن وحدته حاليا لا تعمل إلا نصف الوقت. وقال عبد العزيز إن راتبه يعادل 150 دولار شهريا، مؤكدا أنه لم يستلم رواتبه منذ شهور، لذلك فدخله الوحيد يأتي من سيارة الأجرة. وهي غير كافية للعيش.
وقال: "أفكر في الرجوع إلى قريتي في ذمار. الفلوس خلصت".
بعد ذلك لم يبتسم للمرة الأولى وقال: "ما فيش حكومة ولا دولة ولا قانون".

المستقبل المحتمل لليمن هو الظاهر في أقصى جنوب البلاد، حيث عصابات الجهاديين الراجلة الذين سيطروا على مساحات شاسعة من الأرض ويبدو أن الحكومة عاجزة عن وقفهم.
عندما وصلت إلى عدن على الساحل الجنوبي لليمن، كانت المدينة شبة مهجورة. الشوارع فارغة. حتى المغتربين البريطانيين العجوزين الذين قابلتهم كانوا يمزحون بعصبية حول الهروب على متن قارب عبر البحر الأحمر إلى جيبوتي بعد أن عاشروا لعقود من الزمن في عدن.
في الفندق الذي نزلت فيه، وهو مبنى من ثمانية طوابق ببوابات حديدية وبه على الأقل 100 غرفة لكني لم أرى غير ثلاثة أو أربعة نزلاء آخرين، منهم محافظ محافظة أبين الذي قال لي انه اضطر للفرار إلى عدن بعدما أقدم مئات من الجهاديين المسلحين على الاستيلاء على عاصمة المحافظة، زنجبار.
عندما أخبرته بأني صحفي، تطلع في وجهي وعيناه واسعة وقال: "إنهم سيسيطرون على عدن وسيكون لهم دولتهم إذا لم تكن هناك مساعدات دولية فورية".
لم يكن هناك تكييف في بهو الفندق وكان العرق من جبينه ينهمر وكانت موسيقى فيلم التيتنك تصدح في الخلف.
سألته عما حدث للجيش اليمني، فقال: "إنها حرب. القاعدة جاءت بأعداد كبيرة من المسلحين. وهناك جيش لكن أصبحوا مرهقين من الهجمات الكثيرة. مقاتلي القاعدة عرفوا نقاط ضعف الجيش وإلى جانب ذلك فكل شيء منقسم الآن، الحكومة والجيش. لقد استغلوا هذا الانقسام".
آخر زيارة لي إلى عدن كانت قبل ستة أشهر وكانت مذهلة عكس اليوم. في ذلك الوقت، كانت المدينة تعج برجال الأمن يحملون أجهزة اللاسلكي وعربات مدرعة تجوب الشوارع.

المدينة استضافت بطولة خليجي 20 وهي بطولة إقليمية لكرة القدم. الحكومة استخدمت هذا الحدث لتثبت للعالم بأنها قادرة على قهر القاعدة، مما شجع مئات الزائرين للقدوم من بلدان عربية أخرى.

 

وزعمت الحكومة اليمنية إنها أنفقت مئات الملايين من الدولارات، في بلد يعيش نصف سكانه على دولارين أو أقل في اليوم، لبناء الملعب الجديد وتجديد عشرات الفنادق.

انتهت البطولة من دون وجود عوائق وتحت أعين معظم القوات العسكرية في اليمن. عدن الآن تبدو مدينة محاصرة. سمعت إطلاق النار وأنا فوق التاكسي في أنحاء متفرقة من المدينة. والتقيت في كل مكان ناس قالوا لي إنهم يخافون من أن تسقط المدينة قريبا. وكان معظمهم غير متأكد من يكون هؤلاء الغزاة
قال لي صالح وهو أحد النازحين من أبين إنه كان مستغرب من انسحاب الحكومة السريع من مسقط رأسه. وقال إن الأمر لم يأخذ غير ساعات قليلة في صباح 27 مايو. عند ظهر ذلك اليوم دخل صالح المسجد لصلاة الجمعة ورأى عشرات من المقاتلين الأجانب، منهم مصريين وسودانيين وعراقيين. وكان زعيمهم يمني، كان صالح يلعب منه كرة القدم عندما كانوا صبيه.

بعد الصلاة، صعد زعيمهم ليلقي خطبه، قال فيها بحسب رواية صالح: "نحن هنا لتطهير المدينة من الكفار. من هو مع الحكومة فهو كافر. اليوم نحن نصلي في زنجبار والجمعة المقبلة نخطط للصلاة في عدن"

وقال صالح إنه بعد ذلك رأى الجهاديين وهو يفتحون قبوا في البنك المركزي بزنجبار وشاهدهم وهو مذهول وهم يرمون أكوام من العملة إلى الهواء وحثت الناس على مساعدة أنفسهم عندما كانت الأموال تنهمر على الأرض

وقال صالح: "لم يسرقوا أي شيء. كانوا على عكس الجيش الذي يسرق دائما".

رجل آخر من زنجبار يدعى عبدالله الجفري يقول: "هناك الكثير من الأسباب للانضمام إلى المصلحين أولا هناك انتقام من قوات الأمن على ما فعلوه بنا. ثانيا لتطبيق الشريعة الإسلامية. أو لمجرد أنهم سفاحون يريدون فرصة للقتال. أو لربما انضممت إليهم لأنك أحد أنصار علي عبد الله صالح وأنت تؤمن بأنه يدعمهم سرا".
لم يكن الجفري يمزح في كلامه، فمعظم اليمنيين يعرفون إن حكومة صالح تعاونت وقدمت عروضا للجهاديين منذ سنوات. ومع انهيار الجيش في زنجبار، حاول قادته البقاء وهي حيلة يائسة. لجئوا إلى وسيط قبلي للتفاوض على وقف إطلاق النار.

التقيت بالوسيط في عدن كان شيخا عمره 49 عاما ويدعى علي عبدالله عبد السلام ومشهور باسم الملا زبارة

اقترب مني في بهو الفندق الذي أقيم فيه وأخذ يقبلني على خدي فشممت رائحة الويسكي تفوح من فمه. كان واضحا أن موظفي الفندق خافوا منه

جلسنا وخلال دقائق سألني بابتسامة شيطانية عريضة على وجهه، كم سأدفع له في لقاء المقابلة. قال إن لديه معلومات بأن مكتب التحقيقات الفدرالي الأمريكي سيدفع الكثير من المال ثمنا للمقابلة معه. فقلت له إني لا أستطيع أن ادفع أي شيء

كان معه رفيق له وهو رجل قبلي ملتحي اسمه طه جلس إلى جانبه وسرعان ما همس إليه: "خلاص هذا يكفي، أنسى الأمر". فلم يكرر طلبه حول المال.
ومن ثم بدأ يحكي لي عن رحلاته إلى زنجبار، حيث اجتمع مرتين مع أعضاء تنظيم القاعدة. بعد الرحلة الأولى تبادل رسائل عبر الموبايل مع شخصية بارزة في القاعدة اسمه فهد القصع المطلوب من الولايات المتحدة لدوره في الهجوم على المدمرة الأمريكية في عام 2000.
وقال إن قادة القاعدة لا يتكلمون عبر الهاتف إطلاقا لأن الحكومة اليمنية لديها نظام يتعرف على الأصوات زودتها به الولايات المتحدة. لقد أراني الرسائل على هاتفه. كانت مكتوبة باللغة العربية الفصحى وتشير بإيجاز إلى القصع الذي حظي بحماية زبارة في الماضي.

كاتب الرسالة عبر عن تقديره لجهود الوساطة التي يقوم بها زبارة لكنه قال إن الحكومة كذبت ورفضت وقف إطلاق النار خلال المفاوضات.
قال لي زبارة إن القصع رفض الاستسلام وإنه قد التقى في وقت لاحق مع رؤساء القصع: سعيد الشهري وقاسم الريمي. وقال زبارة إنهم يتجهون للاستيلاء على زنجبار وغيرها من المدن، مضيفا بأن جهوده لوقف إطلاق النار باءت بالفشل

وقال زبارة: "إذا قال أي شخص إن هناك نظام في البلاد، فهو يكذب".

وقبل مغادرته قال: "إننا الآن مثل الصومال، لكننا إلى الآن لم نبدأ القتال".
شيء واحد يبدو واضحا: هو غياب الحكومة اليمنية تماما في مناطق الشمال، فالمنطقة بها مزيج من الجماعات المسلحة التي تعاني شحه في الأموال والأسلحة.
يبدو أن السعوديين، الذين يدفعون رواتب لشيوخ القبائل اليمنية لعقود من الزمن، يدفعون بأجندة طائفية.
قال لي أحد مشايخ الجوف اسمه عبدالله راشد الجميلي: "السعوديون الآن يضعون شروط على الأموال التي يدفعونها لنا. يريدون منا أن ننتشر المذهب السني وأن نقاتل الحوثيين".

كان الجميلي، 35 عاما، صريحا حول الدعم الذي يتلقاه من السعودية عندما ألتقيته في صنعاء. قال إنه يحصل على حوالي 2500 دولار في الشهر. لكن يبدو انه خائف من انهيار السيادة اليمنية في الشمال.
وقال: "يبدو أن هناك صراعا الآن بين إيران والسعودية من أجل الهيمنة على شمال اليمن"، مضيفا بأن أنصار الجانبين قاتلوا من اجل السيطرة على قاعدة عسكرية يمنية بين ماس ويونيو وقُتل ما لا يقل عن 70 من رجال القبائل.
هناك الآن وقف لإطلاق النار، لكن كلا الجانبين استولوا على مخازن كبيرة للأسلحة التي هجرها الجيش أو تم شراؤها من السوق السوداء المزدهرة في اليمن. وأكد الجميلي إن كلا الجانبين له رعاة خارجيين.
حتى في تعز، قلب الثورة، فإن المتظاهرين يتجهون الآن نحو العنف. أحد الشخصيات المعارضة البارزة في المدينة هو سلطان السامعي يقود ميلشيات مناهضة للحكومة.
في مركزه المطل على المدينة، كان هناك ما بين 60 إلى 70 مسلحا يحرسون بالخارج ويختبئون بين الأشجار والبيوت التي لم يكتمل بناؤها.
السامعي هو عضو مجلس النواب اليمني. كان يحمل بندقية طوال الوقت. لقد أراني أكياس خيام موضوعه تحت الدرج وفرشاه أسنان ومصباح يدوي وثياب يغيرها حتى يتمكن من الانتقال إلى موقع آخر في أي وقت.

وقال انه نجا من عدة محاولات لاغتياله من قبل رجال الأمن الحكوميين.
عندما سألته عن الهجوم على ساحة الحرية، قص علي أحداث تلك الليلة ثم انهار وبكى للحظات، وثم قال: "اضطررنا لاستخدام الأ.

في الخميس 28 يوليو-تموز 2011 12:47:57 ص

تجد هذا المقال في صحيفة أخبار اليوم
https://akhbaralyom.net
رابط الصفحة
https://akhbaralyom.net/articles.php?id=65185