الحراك الجنوبي وخيار الانتظار والترقب!
مصطفى راجح
مصطفى راجح
يريد من الثورة أن تنجز له في زمن الأمل الجمعي..
ما عجز عن إنجازه في زمن اليأس الجمعي (الانفصال)
الحراك الجنوبي وخيار الانتظار والترقب!

الحراك الجنوبي لم يساند الثورة الشبابية . هو فوجئ بها , ولم يرم بكل ثقله في شارعها . التزم الحذر وهو يشاهد شارعاً جديداً يزاحمه في مدن الجنوب . ولو كان الحراك أجمع على موقف قاطع لمساندة الثورة لكان الأمر اختلف ولنجحت باكراً في إسقاط النظام . وما شهدناه في مدن الجنوب هو شارع جنوبي شعبي يتحرك بمعزل عن صيغ الحراك المحددة ..ولكنه ليس بمعزل عن القضية الجنوبية وإنما يراهن على حلها في إطار حل القضية اليمنية كلها من بوابة إسقاط النظام .
إذن فقد أختار الحراك الجنوبي بصيغة ما قبل الثورة موقف المتفرج السلبي الذي ينتظر نتائج ما يحدث ليتحرك على ضوئه . ولا يغير الأمر هنا موقف الرئيسين علي ناصر والعطاس الذي كان ايجابياً ومسانداً للثورة ومعززاً لصمودها، فدلالة هذا الموقف وأثره انحصرت في الجانب السياسي ولم تتمكن من دفع الكتلة السكانية الأكثر تضررا من إقصاءات حرب 94 والمتركزة في ردفان والضالع للخروج من سلبيتها إزاء الثورة اليمنية . فقد بقيت حركة نجاح مقطورة وراء البيض ومواقفه النزقة المفتقرة تماما للحس السياسي الناضج وحساسية رجل السياسة والخبرة التاريخية . ومع الخبر الذي تداولته المواقع هذا اليوم عن رفض العطاس وعلي ناصر اختيارهما في المجلس الوطني واشتراطهما الاتفاق المسبق على المناصفة والرؤية لحل القضية الجنوبية يكون السياسيان المخضرمان قد وضعا مسمارا في دولاب الثورة وعشرة مثلها في دولاب القضية الجنوبية .
عموما وطالما هذا موقف الحراك (الانتطار) فعليه أن يكمل انتظاره. بمعنى أن يهيئ نفسه بتحديد رؤية واضحة لحل القضية الجنوبية تجمع عليها كل الأطراف في الساحة الجنوبية ومن ثم يتم الحوار حولها مع قيادة الثورة بعد نجاحها . فحتى الآن لم تجمع قوى الحراك على موقف موحد ولا زالت المراوحة قائمة بين مشروع البيض لفك الارتباط , ومشروع العطاس/ علي ناصر بصيغة الدولة الاتحادية الفيدرالية, وبينهما شارع جنوبي يتوزع بين شباب الثورة السلمية, وحراك صامت ينتظر نتائج الفعل الثوري ,وأحزاب لها حضورها ,وجماعات مسلحة جهادية مدعومة ضمنياً من النظام الآيل للسقوط .
ولقد أثبت الواقع خطأ انتظار الحراك وموقفه السلبي، فسقوط مدن جنوبية كما رأينا نموذجه في زنجبار بين لنا أن الحركات الجهادية المسلحة بما يتوفر لها من بيئة ملائمة توفرها لها حالة بقاء النظام على شكل مركز ميلشياوي يراهن على تعميم الفوضى والانفلات, هي الطرف المناسب لهذه المهمة والأكثر جاهزية للسيطرة على المناطق الخارجة عن السيطرة طالما والحراك لم يضع رهانه كاملا وبدون شروط مع الثورة الشعبية السلمية لتحسم هذا الوضع وتجنب اليمن بكل جهاته مخاطر الدخول في الخيارات الصفرية التي بدأها النظام بحرب الحصبة واقتحام ساحة تعز وتسليم زنجبار لأنصار الشريعة. دعك هنا من مبالغات المتطرفين في الحراك أن كل هذه قوى جنوبيه , فإذا كانت قوى الحراك نفسها لم تتمكن من التوحد حول رؤية سياسية محددة للحل تفرز قيادة موحدة تعبر فعلا عن الإجماع الذي يرتضيه الشارع الجنوبي , فما هو الحال بالجهاديين أنصار الشريعة العنفية .
إن أي موقف مفروض نخبوياً على الشارع الجنوبي سواءً من البيض ومشروعه لفك الارتباط , أو العطاس ومشروعه للفيدرالية, أو شباب الثورة وخيارهم الوطني في دولة قانون مدنية لكل اليمنيين, أو الجهاديين وعنوانهم المطروح كجماعة لأنصار الشريعة تتطلع لإيجاد ساحة لها ابتداءً من الجنوب, كل ذلك يحتاج إلى إجماع من الشارع الجنوبي.. ولو كان فك الارتباط خياراً للإجماع لكان الجنوب قد انفصل قبل ثلاث سنوات , ولما انتظر قادة الحراك الثورة الشبابية ليشترطوا عليها أن تنجز لهم في زمن تخلق الأمل الجمعي لكل اليمنيين ما لم يستطيعوا إنجازه في زمن اليأس والإحباط والانفصال النفسي بين اليمنيين حتى كادوا يتحولون بفعل ذاك اليأس إلى جزر منفصلة عن بعضهم البعض أشطارا ومناطق وقبائل ومذاهب ..وأفراداً.
وأي مشروع يطرح الآن يحتاج إلى إجماع جنوبي أولاً وإلى حوار وتوافق بين كل اليمنيين في إطار الثورة الشبابية وإلا أصبح الأمر وصاية جديدة تحل محل وصاية الهيمنة الهمجية لنخبة الحكم على الجنوب والتي يراد الآن للشمال أن يتحمل تبعاتها باعتباره كان محتلاً للجنوب بحسب الخطاب المسدوسي المتطرف.وينسى هؤلاء أن الدولة الخارجة عن إرادة الشعب, والتي تحكمه بالقوة الغاشمة المجردة, والتحالف مع الخارج هي أصلا دولة - مجازا - احتلال أجنبي لكل الشعب لأنها ضدا على المجتمع وإرادته ومصلحته واجتماعاته.
يحتاج القادة الجنوبيون الآن أن يتمهلوا قليلاَ في اختيار وجهتهم، فاعتقاد هؤلاء أن حسم الأمور من الآن باتجاه فك الارتباط سواءَ المباشر أو عبر الفيدرالية المؤقتة، يعتبر الطريقة الأكثر سهولة وبعداً عن وجع الدماغ، اعتقاد خاطئ، فالجنوب لن يكون بعيداً عن الفوضى والاحتراب في حال فشلت الثورة أو حالة وصولها إلى هدفها بنصف بلده.
أما ذرائعية الاعتراف بالقضية الجنوبية والاستعداد للحوار حولها فلم تعد مقبولة لأن الأمر الواقع والذي يعرفه الجميع هو أن كل القوى قد اعترفت وأقرت وكررت اعترافها وإيمانها بالقضية الجنوبية والحوار حول آفاق حلها.

أكثر من ذلك يغدو الأمر عرقلة لمسار الثورة السلمية الشعبية ولا أعتقد أن الجنوب وقضيته وحراكه سوف يخرج من هذا السيناريو رابحاَ. انتصار الثورة السلمية الشعبية هو وحده من سيفتح آفاق الحل للقضية الجنوبية والقضية اليمنية عموماً. ولن يخسر الجنوب شيئاً بسقوط النظام، بل سوف يكسب أملاً جديداً بحل عادل ومتوازن يعيد للجنوبيين اعتبارهم وحقوقهم وصيغة واضحة لشراكتهم السياسية في الدولة اليمنية والكيان اليمني الواحد. أما استمرار النظام بصيغته الحالية كأمير حرب فسوف يفتح أبواب الجحيم أمام الجميع في كل أنحاء اليمن وجهاته , ويخطئ من يتوهم أن بإمكان الجنوب أن ينجوا من مخرجات هذه الوضعية بمعزل عن مصير الكيان اليمني ككل متكامل.
لقد وصل الحراك الجنوبي إلى ذروته أواخر العام 2008, ولم يؤد الخيار الأمني الشامل إلى نضج الحراك الجنوبي ونجاحه في استخلاص رؤية تمثل إرادة الإجماع الجنوبي, بدلاً عن ذلك ارتكس من هذه الذروة إلى المراوحة الجامدة بين أتون العنف الذي فتح أبوابه النظام من جهة , وفشل قوى الحراك في بلورة رؤية موحدة وقيادة سياسية موحدة تقنع الشارع الجنوبي وتبلور قضيته ومطالبه بخطاب ناضج وجاد ورصين يجمع ولا يفرق ويكسب الأنصار لا أن يخسرهم بمشاركة بعض المحسوبين عليه في تغذية قيم عنصرية مقيتة إزاء المواطنين العاديين من مناطق شمالية, وعجز الحراك في عمومه عن السيطرة على هذا الخطاب وكبحه , مما وفر فرصة للنظام المنفلت من كل الضوابط والقيم والمستعد للتكتكة بأي شيء حتى بالقضايا المصيرية واللعب بها كأوراق سياسية وهو ما رأينا نتيجته بانتقال النزق العنصري المحدود إلى أفعال وجرائم قتل استهدفت ضحاياها لمجرد انتمائهم لجهة دون أخرى. ومذاك الحين والحراك الجنوبي يراوح مكانه ويقل زخمه ويفقد حيوية صلته بحاضنه المجتمعي والمزاج العام الذي كان يسنده.
كما أن خيار الانفصال حتى لو غدا تعبيراً حقيقياً عن إجماع شعبي جنوبي سواء أمس أو اليوم لا يعني أن طريقه ستكون مفروشة بالورود والمقارنات السطحية لما كان عليه الحال قبل الوحدة, إنما يحيل الجنوبيين واليمن عموماً إلى سيناريو مجهول تتعزز فيه كل الاحتمالات السيئة للاحتراب والتشظيات وعدم الاستقرار لا على دولة ولا على دولتين. فلم تقام وتستقر دولة الاستقلال كتعبير عن هوية جنوبية مستقلة عن الهوية اليمنية الحية والجامعة وإنما استقامت دولة اليمن الديمقراطية كوعاء للمشروع السياسي لقوى المشروع الوطني الديمقراطي لقوى اليسار , وقدر لها أن تقوى وتستمر لأن محددها هو هذه السمة السياسية ولأن توجهها قام على مرتكز الهوية الوطنية اليمنية الواحدة وترسيخاً لها وليس ضدا عليها. ولم يقوض الجنوب ودولته اليمنية سوى فشل القوى والتكوينات القبلية والمناطقية في إنجاز صيغة متوازنة لتحقيق وإدارة مصالحها سياسياً وسلمياً عبر الإطار السياسي التاريخي (الحزب الاشتراكي ) , وكانت نتيجة هذا الإخفاق تجدد دورات العنف , والتي كانت آخرها قاصمة لظهر النظام . هذا هو السبب الموضوعي متضافراً مع التآمر الإقليمي والغربي على النظام الاشتراكي في الجنوب.. وليس السبب توهمات مسدوس العنصرية بأثر رجعي التي ترى اليوم في شركاء الهوية الوطنية الواحدة, والمقاومة للاحتلال, والمشروع السياسي الوطني الواحد , مجرد اختراقات مخابراتية من الشمال. الشمال الذي شكلت محافظاته المحاذية للجنوب حزاماً أمنياً بشرياً يحمي الجنوب ويرنو بإكبار نحو دولته وتجربته كأمل يعد كل اليمنيين بالوحدة والدولة الوطنية المجسدة لطموحاتهم وتطلعاتهم .
إذن والحال هكذا , فلا مناص لشركائنا في هذا الوطن سوى المراهنة على الثورة الشبابية الشعبية السلمية وان يرموا بثقل الحراك وما تبقى لديه من قدرات التعبئة والتحشيد في ميزان قوى الثورة الشبابية إلى جانب شباب أبين وحضرموت وشبوة وعدن الذين اصطفوا مع الثورة ولم يربكهم تردد كيانات الحراك.
لقد أثبتت الوقائع والأحداث التي أفرزتها الثورة أن طائرات النظام المحتل لليمن من أقصاها إلى أقصاها ومدفعيته وصواريخه تقصف أرحب ونهم بقسوة وهمجية وصلف تماما مثلما فعلت في صعدة وتعز ويافع ومدن الجنوب في حرب 94 القذرة التي أوقعت كل هذه الجراح الغائرة في جسد اليمن وغرست معها تشظيات نفسية نعاني منها اليوم بعد أن تحولت إلى خطاب قطعي يبحث عن أساس ذرائعي في التاريخ السحيق لليمن قبل مئات وآلاف السنين, مع أن الواقع الموضوعي السياسي الصانع لهذه التشظيات لا يتعدى العشرين عاماً.
الآن وقد حصحص الحق أمام اليمنيين ولاحت أمامهم فرصة الخلاص,لا مجال للحراك, ولا خيار له سوى مساندة الثورة الشبابية وان يرمي بثقله للتعجيل بنصرها دونما شروط أو مناصفة ومحاصصة. أو يتوارى في صالة الانتظار , لما سيؤول إليه الحال والحوار مع الوضع الجديد سواء قيادة المرحلة الانتقالية أو الفوضى التي يساهم حياده السلبي في صنعها , مع احتمال أن يصل إلى هذا الحال فاقدا للشارع الجنوبي الذي يتسرب من بين يديه إلى ساحات الثورة , وربما دهاليز العنف المتدثر بعبائة الدين والجهاد
وفي كلا الحالين ينبغي أن تتحرر قوى الحراك ذهنياً على الأقل من صورة الوضع القديم لهيمنة المناطق والأطراف , وتهميش المدن الحضرية.  

في السبت 27 أغسطس-آب 2011 05:44:33 ص

تجد هذا المقال في صحيفة أخبار اليوم
https://akhbaralyom.net
رابط الصفحة
https://akhbaralyom.net/articles.php?id=65426