لنتمسك بخيار السلام
حافظ الشجيفي
حافظ الشجيفي

لا يمكن انجاز تحول سلمي ودولة مدنية عبر وسائط مثل الحسم الثوري إذا توفر البديل أو عن طريق العنف والحرب أو بواسطة الخيارات الاستعدائية والإقصائية.. أي لا يمكن أن نجنى الثمرة الطيبة من الشجرة الخبيثة.. والحسم الثوري لا يمكن أن ينتج إلا الحرب والحرب لا تنتج إلا نظاماً مستبداً ...
كما أن الخوف المشروع من حصاد ثورة الشباب من قبل قوى الكسل والتطرف والمتربصة للاستحواذ على نتائج الثورة حاضراً بقوة, مستغلة في معظمها الخطاب التحريضي المتطرف في التعبئة الحشدية للانقضاض على الثورة وحرف مسارها صوب مستقبل مجهول مستفيدة من زخم الفقر والفاقة والجهل وما يتركه من انفعالات مؤذية في ردود الأفعال في ظروف لم تتضح وتنضج فيه الرؤية العقلية الثاقبة للشباب..
هذا القول في مجمله صحيح، ولكنه لا يلغي حقيقة أن هذا الوضع يلقي بظلاله على نقاء الصورة السلمية التي حرص شباب الثورة الشعبية عليها، وحرصوا أن تكون إرادتهم وسندها الشعبي هي وحدها الكفيلة بتحقيق الأهداف والوصول إلى الغايات النبيلة المتمثلة في الدولة المدنية الديمقراطية الحقيقية، دولة الحريات وحقوق الإنسان ومحاربة الفساد وتحقيق الرقي الحضاري، والتنمية الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية على ركائز قوية وصون كرامة الإنسان والمجتمع.
إزاء هذه الحالة، هل يعني أن علينا أن نسقط الخيار السياسي أو نسقط الخيار الثوري لدحر عصابات النظام المتبقية في الحكم؟ لا يجوز أن نسقط أياً من الخيارين في هذه المرحلة، ونقولها بألمٍ شديد، ولكن بتصميم قاطع وإلى حد ما نهائي، إن هذه العصابات المتمردة على الشرعية الدستورية والوطنية وعلى شرعية الثورة هي التي تقلص فرص الخيار السياسي وتمعن في تأكيد الحل العسكري.
بهذا المقدار تتضاءل الحاجة إلى خيار الحسم عن طريق الفعل الثوري (الزحف)طالما ملكنا خيار أسهل وأقرب منه لنوفر على أبناء لشعب المزيد من المآسي التي تُبقى حادثة (عصر الأمس واليوم) وما قبلها من الحوادث مثلاً بسيطاً لها ...
إن رفض الحلول السياسية واستخدام وسائل القهر لضمان السيطرة، يشجع من لا يمتلكها، على التعصب ومعاداة الآخرين، وصولاً إلى احتقار الثورة السلمية بدوره واستخدام أساليب القوة لنبذ الآخر وإقصائه، فمقابل انحطاط السياسة وتغييب دورها يحضر السلوك المتخلف والردود المتوترة والمتمردة، ومقابل توسيع هوامش التعصب تنمو ثقافة العنف، وترتفع درجات التوتر الأهلي، وتتشجع العصبيات على التناحر والاقتتال، ما يعني أن المستفيد الوحيد من تنامي ثقافة العنف، هم أعداء الحرية، ومدمنو الإلغاء والإقصاء، وقوى سياسية أصابها العمى الإيديولوجي وتحبذ القوة وتمجدها، وتدعي امتلاك الحقيقة المطلقة وأن من يخالفها لا يستحق العيش والحياة!.
يجب أن لا نغرق في مستنقع عقلية الشيخ وثقافة القبيلة والخضوع للاستبداد والتقليد الأعمى لثقافة المحيط الثقافي والوسط الاجتماعي يجب، أن نملك تلك القوة الحيادية المركزية في أن نكون خدماً للحقيقة وليس للقوة وباحثين ومتمسكين بالفكرة والمنهج وليس الوسيلة أو الصنم.! وعباد لله وحده عز وجل وليس للبشر ولو كانوا ملائكة أو رسل أو أنبياء أو أولياء..! ونبتعد عن مفاهيم البداوة والبدائية بعبادة إله واحد في السماء أو إلهين أو اثني عشر إله في الأرض، التي مازال بنو آدم يفعلونها إلى اليوم ثم يصرخون بأنهم مسلمون...! ولا أستثني طائفة أو مذهباً أو حزباً أو ديناً..!
لا نريد أن نعبد اله في السماء هو الله عز وجل ثم نعبد بخاري ومسلم في الأرض أو نعبد اثني عشر إماماً في الأرض أو نعبد شيخ قبيلة في الأرض أو نعبد رئيس دولة في الأرض أو نعبد زعيم حزب في الأرض أو نعبد درهماً أو ريالاً أو دولاراً في الأرض.!
لقد برهنت الأحداث والتجارب المأساوية المنصرمة لذوي النيات الحسنة بأن الطريق الوحيد والسليم المفتوح على مصراعيه أمام الجميع هو طريق الحل السياسي السلمي, طريق السلام والاستعداد المشترك للمساومة لصالح القضايا المشتركة والمستقبل والمصير المشتركين في يمن مدني ديمقراطي موحد وحديث.,,
إذ ليست هناك في عالمنا الراهن مشكلة لا يمكن معالجتها وحلها بالطرق السلمية, وهنا اسميها مشكلة لخلل بائن في النظام وليس في الثورة.. شريطة أن تتوفر النية الحسنة والإرادة الصادقة والرغبة الخالصة في الوصول إلى حلول تؤمن مصالح الجميع دون مزايدة أو مكابرة أو تهديد, في حين برهنت الحياة أيضاً بأن التهديد والوعيد واستخدام القوة أو العنف أو السلاح والحرب كلها أساليب لا تعالج المشكلات القائمة بل تزيدها تعقيداً وصعوبة وتزيد من التوتر المتبادل وتعمق الهوة بين الطرفين وتدفع إلى التطرف في المواقف وإلى التباعد, كما يزداد نزيف الدم من جميع المكونات الوطنية,
ثقافة العـنـف وبرمجة القتل..! ورقة يجب تمزيقها من سجلات عقولنا وخلعها من الواقع، لأنها لا تؤدي إلى التغيير، بل إلى التدمير..
لقد أُخذ النظام على حين غرة، وظن أنه مستتباً، فبيده أجهزة الأمن والجيش والسلطة والمال، والمعارضة بالكلام من خلال الصحف مجرد تسلية لا يأبه بها النظام، وفجأة وعلى غير موعد وقعت الواقعة، وظن أنه يستطيع بالعصي والهراوات الكهربائية والرصاص الحي وبالقناصة من فوق أسطح المنازل والغاز المسيل للدموع ومدافع المياه أنه قادر على السيطرة علي المتظاهرين وإجبارهم على مغادرة الساحات، وصٌعق بالصمود وتحول مئات الألوف إلى ملايين يصلون في الشوارع والساحات، وفي لحظة فارقة انضم الجيش للثوار، ورجحت الكفة، من الغضب إلى الصمود إلى التحدي، ويرتفع سقف مطالب الثوار في كل مرة يخطئ فيها النظام، حتى سقط الرأس، وبقي الجسد.
وفي نشوة النصرة والاستمرار في تحقيق مطالب الثورة بدأ الجسد يتحرك من جديد، وأفاق النظام من الصدمة، فمن كان بيده السلطة والمال والأمن لا ينهار بسهولة، وبدأت فلوله في تجميع قواها، من كل المستفيدين والتابعين له، ووضعوا خطة لتصفية الثورة واستعادة السلطة، تقوم على رفع شعارات الثورة من أجل إجهاضها، ورفع سقف المطالب من أجل استحالة تحقيقها، منها "ثورة حتى النصر" أي الثورة الدائمة التي لا تنتهي ولا تتوقف، ومنها "الشعب يريد محاكمة الرئيس وإسقاط النظام"، فالمطالب يتم تحقيقها جملة واحدة، والثورة تعم المؤسسات الحزبية والإعلامية والسياسية والتعليمية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، فلم يعد الصبر مقبولاً بعد ثلاثة وثلاثين عاماً ولو ليوم واحد.
 المطلوب هدم القديم بصرف النظر عن بناء الجديد، فلم يعد أحد يتحمل بقاء القديم، التدرج تنازل، والصبر خيانة، وطلب فسحة من الوقت إطفاء لنار الثورة، لا تحتاج الثورة إلى دولة، بل تخلق دولتها من داخلها في لحظات إبداعية فارقة.
وهنا يقع الخلاف بين فصائل الثوار، بين العاطفيين والعقلاء، بين الحالمين واليقظين، بين المثاليين والواقعيين، ويتسرب "البلطجية" داخل صفوفهم، ويعملون على زرع الفتنة والتحريض وإطالة بقائهم في الساحات ويتوق الناس تدريجياً إلى الماضي حتى يأتي وقت يضجرون فيه من الثورة والثوار، وقد ينقلبون عليها، فكثير من العمال يعملون بالأجر اليومي، وبلا عمل وبلا أجر، وتتعطل الجامعات والعام الدراسي على وشك الابتداء، وكل شيء له حد في الزمان حتى الثورة، فيصاب الثوار بالملل، لأن الثورة لم تتحول إلى دولة.
وقد يساعد على ذلك طبيعة النفس البشرية، والتحول من الثقة بالنفس إلى الغرور، ومن النصر المرحلي إلى نصر مستمر، ومن نجاح في خطوة إلى نجاحات في كل الخطوات، يرفض الثوار الجزء من أجل المطالبة بالكل، والمكاسب الوقتية إلى المكاسب الدائمة، ومن المرحلة الانتقالية للتحول من الاستبداد إلى الحرية، ومن التسلط إلى الديمقراطية إلى المرحلة الدائمة، حيث يسود الدستور الدائم، والمجلس النيابي المنتخب، وحرية الإعلام، العبد عندما يتحرر لا يرضى إلا بأن يكون سيداً، وأن يكون السيد القديم عبداً، وفي هذه الحموة الثورية وعدم تحولها إلى نظام قد يصعد فصيل ثوري أكثر تنظيماً من الفصائل الأخرى، ويقدم نفسه على أنه التنظيم الوحيد الموجود، وقد ساهم بنجاح في انطلاق الثورة واستمرارها.
والآن آن الأوان لحصد نتائجها، وقد تتحالف معه عناصر من النظام بعد أن كان عدوها للصعود عليه والعودة إلى السلطة ثم لفظه وتوجيه الاتهامات الشائعة له بالعنف والإرهاب.. والنقاء الثوري مؤقت، قد يقل تدريجياً كلما تقدم الزمن وخيّم السكون والهدوء على المجتمعات، وانتظم الناس في تدبير شؤون حياتهم.
تراهن الثورة المضادة على إمكانية عودة النظام القديم وجماعات المصالح، وعودة الشعب إلى طبيعته الراضية المستكينة، واستعداد بعض النخب للتعاون مع أي نظام جديد لعقلنته وتبريره وإعطاء شرعيته، وعلي هذا النحو تتحول الثورة إلى انتفاضة، والانتفاضة إلى تمرد، والتمرد إلى خروج علي القانون والنظام، وتنتهي الدورة الثورية الصغري التي تتم في نفس الجيل، وتصبح الثورة استثناء، والاستقرار هو الأساس.
هناك فرق بين الأسلوب الإنساني السلمي للتغيير والأسلوب العسكري المسلح العنيف، فالتغيير المسلح يعني عضلاً وليس عقلاً وما دام التغيير في ساحة من الأقوى على قاعدة لعبة عظ الأصابع وهي أن يضع إصبع كل خصم بين أسنان الطرف الآخر ومن يصرخ أولاً فهو الخاسر. أو لعبة من يرمش أولاً، حيث يفتح كل طرف عينه في عين الآخر ومن يرمش أولاً فهو الخاسر..! على هذه القاعدة تكون العضلات هي من تحدد الفائز؟ في حين أن التغيير في الأسلوب السلمي الإنساني يعني عقل وليس عضل وساحة العراك والحراك هي عقلية بامتياز والأقوى والبقاء لصاحب الفكرة الأقوى والمنهج الأصلح..!

هناك فرق بين الثورة الأخلاقية وبين ثورة العنف وهناك فرق بين الثورة الفكرية وثورة العضلات ..!
والأفكار لاتفرض بالعضلات، بل بالإقناع والصبر والثبات والتضحيات والسلمية "، وها قد ولدوا من جديد، ورأيناهم ، وهم يصنعون التاريخ ويناجزون الطغيان ويموتون بابتسامة دون أن يقتُلوا أو يمدوا أيديهم بالقتل بل مُعرِّضي صدورهم لاستقبال رصاص الطغيان، إنها ولادة الإنسان, الإنسان اليمني الجديد إنه الخروج من الرحم المظلم..! وهو بحق انفجار أخلاقي وفكري رائع يستحق الوقوف والتأمل عنده طويلاً.!
أما القتال فإنه ليس حلاً، بل أزمة أخرى تضاف إلى باقي الأزمات والعنف، لايحل المشاكل، بل يزيدها تعقيداً ولكن الضغط بالمقاومة السلمية لغرض تفكيك الاستبداد وتسجيل الاعتراض سلمياً ثم المقاومة بالفكرة والمنهج وبالأفكار والثبات عليه هو الحل، بل إن الذي يسعى إلى تغيير الاستبداد بالعنف المسلح لا يؤمن أن يمارس نفس الاستبداد إذا امتلك مفاتيح القوة واستلم السلطة وذاق طعم لذة السيطرة والتحكم، لأنه سيغير العنف بالعنف والقتل بالقتل، فالطغيان لا يغير بالطغيان، بل بالسلم ومنهج الإكراه والحرية والسلم.

 بلا ثورة أخلاقية و علمية لا يوجد أي معنى للثورة السياسية، و لن تعدوا أن تكون سوى مجرد فوضى ساهمت في نقل الحكم من يد دكتاتور إلى جماعة من الدكتاتوريين، لأن الشعب الذي لا يملك مستوى علمياً و أخلاقياً عالياً لا يمكن له بأي حال من الأحوال أن ينتج أفراداً فُضلاء، وهي حقيقة يجب أن لا تغطيها فرحة التخلص من الأنظمة الاستبدادية السابقة، لأن تغيير النظام السياسي دون تغيير جوهر الشعب المولد لتلك الأنظمة لا يمكن له أن يأتي بأي نتائج إيجابيه، و لن يكون هناك جديد سوى استبدال دكتاتورية بدكتاتورية أشد.

استبداد الأنظمة ماهو إلا انعكاس لاستبداد الشعوب ، و أن شعباً متحضراً لا يمكن له أن ينتج سوى دولة متحضرة، بينما لا يمكن لشعب متخلف سوى أن ينتج دولة متخلفة مهما كثرت المحاولات و التجارب، و هو ما قد يفسر ما نراه واقعاً مُعَاشاً في معظم الدول العربية اليوم، من حيث وجود أنظمة سياسية قمعية دكتاتورية تحكم شعوباً هي في حد ذاتها قمعية دكتاتورية حتى في معاملات أفرادها بين بعضهم البعض على المستوى اليومي، و هو نفس التفسير الذي يجعلني لا أستبشر خيرا لمستقبل ثورتنا اليمنية، إن لم تنجح في رفع مستوى الوعي لدينا وتغيير أخلاقنا إلى الأفضل، قبل الحديث عن نجاح آخر ..

يتسلل عشاق الموت في كل مرة في شوارع صنعاء المثكولة لكي ينفذوا جرائمهم الشنعاء وبجريمتهم الجديدة هذه المرة ؟ ليزرعوا الموت والدمار والخراب في حناياها الحبيبة المفجوعة بأبنائها؟ كيف عبوا أسلحتهم الثقيلة بذخائر الموت وقنابل الدمار وكيف تحركوا بحريتهم ليدموا قلب صنعاء الحنون ويوجهوا ضرباتهم القاتلة لأبنائها الأبرياء الذين صعدت أرواحهم إلى السماء لتشكو غدر ووحشية وظلم هذه الضباع السوداء لقطاع الشوارع.

لقد فاض الكيل وبلغ السيل الزبى واصطبغت صنعاء الجريحة بدماء أبنائها ولم تجف دماء ضحاياها الذين ضرجت الشوارع والأرصفة الحزينة منذ يوم أمس الدامي، لقد سرقت السكينة وأطفأ وحوش العصر المجرمون، تجار الدم والجريمة الوحوش الكاسرة البريق في عيون المتطلعين إلى حياة آمنة مطمئنة في وطنهم الذي أصبح وطناً للفجائع الكبرى وبحراً للدماء الطاهرة البريئة التي يسفكها قتلة البشر وعشاق الموت .
في الأربعاء 21 سبتمبر-أيلول 2011 03:52:54 ص

تجد هذا المقال في صحيفة أخبار اليوم
https://akhbaralyom.net
رابط الصفحة
https://akhbaralyom.net/articles.php?id=65687