تركيا وخلافاتها مع دول الجوار
د.علي الفقيه
د.علي الفقيه

عندما تسوء علاقات أي دولة مع جيرانها يسمى ذلك اشتباك، وتركيا تشتبك مالياً مع كل جوارها أو مع فئات فيه.. بعض هذه الاشتباكات قديمة تعود إلى مراحل تاريخية سابقة وبعضها مستجد تتعلق بالظروف الحالية التي تمر بها منطقة الشرق الأوسط.
هذا الاشتباك التركي اتخذ طابعه العام منذ فترة قريبة، وربما مع بداية الحركة الاحتجاجية السورية التي اعتبرتها أنقرة أنها جزء من الوضع الداخلي التركي.. أي بدأ هذا الاشتباك منذ أن أدركت تركيا أنها جزء من تعقيدات المنطقة ومشاكلها التي قالت يوماً إنها ترغب في تصغيرها.
إلى جانب النزاع التقليدي مع اليونان في بحر إيجة ومضاعفاته في قبرص، تواجه أنقرة نزاعاً مع جزيرة أفروديت على ثروات الطاقة في المتوسط، وصولاً إلى التهديد بإرسال قوات بحرية إلى المنطقة التي تقول إنها تتنازع عليها مع الجزيرة الجارة التي لا تعترف إلا بالجمهورية التي أقامتها في جزئها الشمالي.
وقبل أزمة الغاز مع قبرص، هددت أنقرة بالانسحاب من المحادثات مع الاتحاد الأوروبي، إذ تولت قبرص الرئاسة الدورية للاتحاد سنة 2012 وذلك على الرغم من توقها إلى الدخول في هذا الاتحاد.
أمام في بر الشرق الأوسط، فالقوات التركية مشتبكة مع حزب العمال الكردستاني، وإلى الشرق انفجرت أزمة مع طهران تتعلق بموافقة أنقرة على استضافة رادار الحلف الأطلسي المضاد للصواريخ الإيرانية، مع تبعات هذه الموافقة على الجار الروسي الذي نشر مثل هذه الصواريخ ويعتبرها إخلالاً بالتوازن معه.
وتجد أنقرة نفسها تنغمس أكثر فأكثر في صراع ساحة الطرق، وعلى الحدود الجنوبية تتأزم العلاقة مع سورية أكثر فأكثر، وهناك اتهامات في دمشق لأنقرة، أو اشتباه على الأقل، بأنها قد تلعب دور القاعدة الخلفية في عمليات خارجية محتملة ضد نظام الحكم السوري، بما ينقل التوتر السياسي إلى صعيد عسكري.
وعلى الرغم من مشاكلها مع دول الجوار، إلا أن ثمة بلداً هو تركيا يعيش واحدة من أكثر لحظات تاريخه الحديث صفاء في الرؤية، ووضوحاً في الأهداف وثقة بالمستقبل.. لقد حققت تركيا الازدهار الاقتصادي، حيث واصل معدل النمو تزايده ليصل في النصف الأول من عام 2011 إلى 11%، وهو أعلى معدل نمو عالمي لم تبلغه قط سوى الصين، تجاوز معه نصيب الفرد من الدخل القومي حاجز العشرة آلاف دولار، وهو الحاجز الذي يفصل الدول المتقدمة عن الدول النامية، الأمر الذي يعكس في المجمل دخول تركيا قائمة الاقتصادات العشرين الأفضل والأقوى في العالم.
النظام التركي الحالي دخل إلى التوجه الديمقراطي، وهو معتدل، نجح في حل معضلة تمثيل المرجعية الإسلامية سياسياً في سياق ديمقراطي تعددي، من دون إقصاء له، وفي الوقت نفسه من دون السماح له باحتكار السلطة.
وكذلك في ضبط دور الجيش في الحياة السياسية، بصفته حامي الدستور والشرعية الشعبية لا حاكماً مباشراً، ولا حتى معارضاً انقلابياً عليها ومن ثم يبدو فعالاً وديناميكياً، لا ينتظر حدوث انقلابات جذرية فيه، الأمر الذي يؤكد جدوى الاستثمار السياسي في تركيا بأي قدر أو ثقل.
الحديث عن النموذج التركي هو أنه لم يسعى لتقنين الفصل بين الدين والدولة وإنما إلى إلحاق الدين بالدولة، وإلى إناطة ضبط وتقنين الحقل الديني بالدولة.
إنه النموذج الذي تعود جذوره البعيدة إلى النظام القيصري-البابوي القديم - الذي حافظت عليه الإمبراطورية العثمانية وأضفت عليه مسحة إسلامية، لكن ما لا يدركه الكثيرون هو أن العلمانية التركية استطاعت منذ الخمسينيات تأمين التعايش بين النزعة القومية "اليسارية" الموروثة عن الأب المؤسس ونزعة دينية محافظة تحد قوة دفعها في الطرق الصوفية "من الحزب الديمقراطي لعدنان مندريس"، مروراً بالأحزاب المتعددة التي شكلها أربكان.. وانتهاءً بحزب العدالة والتنمية.
الصراع السياسي القائم في تركيا ليس بين كتلتين علمانية وإسلامية، وإنما بين نزعتين ثقافيتين واجتماعيتين تتقاسمان نفس المدونة المرجعية "العقدية الجمهورية والدولتية".. ومن هذا المنظور يدخل الإسلام في تحديد القومية التركية نفسها، ويشكل رصيداً قيمياً في تسيير الأزمات الاجتماعية.
الإسلام التركي الجديد ليس إسلاماً حركياً أو إيديولوجياً، وإنما هو مظهر من مظاهر نجاح العلمانية في سماتها المعروفة في ذاتية وفردية ونزوع استهلاكي.
الكاتب التركي "محمد زاهد جول" أشار إلى أن مبعث الإشكال في الطرح الأردوغاني هو أن معنى مصطلح العلمانية في الفكر الإسلامي العربي بقي لأكثر من ثمانية عقود لا يعني إلا فصل الدين عن الدولة، أو فصل الدين عن السياسة، وأن الدولة العلمانية هي الدولة اللادينية، أو الدولة التي تبعد الدين في كل مجالات الحياة فيها، وتجعله في أضيق نطاق فردي، وسبب ذلك الترجمة الخاطئة للكلمة من أصلها الانجليزي "السيكيولارية".. 
المشكلة الأولى التي تواجه العلمانية في التفكير العربي هي حصرها بالمعنى الغربي الضيق، الذي إما لم يطبق إطلاقاً، أو طبق في بعض الدول العلمانية المتشددة مثل فرنسا، وهذا المعنى ليس معنى ثابتاً ولا ملزماً لكل من يأخذ بالعلمانية حلاً لمشاكله الداخلية.
المشكلة الثانية هي أن الدول العربية الاستبدادية ادعت جميعها أنها دول علمانية ولم تمارس إلا الاستبداد والفساد معاً، واضطهدت القوى السياسية، سواء كانت إسلامية أو ليبرالية، فاقترن اسم العلمانية في الناحية الواقعية في العقود الأخيرة بالأنظمة العربية والتركية الديكتاتورية والمستبدة، فكان سلوكها سيئاً في كراهية الناس لها، وعدم قبولهم فكرة العلمانية أن تحكم مرة أخرى.. 
وآخرون لا يرون الدولة العلمانية إلا الدولة التي تبيح المحرمات وترخص الفواحش باسم الحريات، هذا المعنى مما يروج له من يحصرون معنى العلماني بالمعنى الغربي فقط، والحريات الشخصية بالمفهوم الغربي أيضاً.
عرف الدستور التركي العلمانية بأنها: "تتعامل مع أفراد الشعب وعلى مسافة متساوية من جميع الأديان"، أي أن الدولة لا تنشر اللادينية، ولا يحارب التدين، بل إن عليها أن تحترم الدين وتحميه من الاعتداء، كما أن العلمانية التركية غير العلمانية الأنجلوسكسونية، وغير العلمانية الفرنسية وغير العلمانية الأميركية وغير العلمانية في العديد من الدول الأوروبية.


هامش:
1.الاتحاد العدد "13231" 26/9/2011.
2.الحياة العدد "17700" 20/9/2011.
3.الاتحاد العدد "13236" 5/10/2011.
4.الاتحاد العدد "13340" 5/10/2011.
5.الحياة العدد "17718" 8/10/2011.

في الأحد 18 ديسمبر-كانون الأول 2011 04:25:41 ص

تجد هذا المقال في صحيفة أخبار اليوم
https://akhbaralyom.net
رابط الصفحة
https://akhbaralyom.net/articles.php?id=66565