الشهيد فرزدق ابن الهندية إلهام
محمد علي محسن
محمد علي محسن

ما من مرة أستذكر فيها حرب 94م ؛ إلا وأرى صورة الشهيد النقيب فرزدق فؤاد قائد أو كما كان يحلو لنا مناداته بـ(ابن الهندية) حاضرة بابتسامته المشرقة التي لطالما ارتسمت محياه، لا أعلم كيف ولماذا علي استذكار وجه صديقي الضحوك والأنيق في كل مرة تأتي فيها سيرة الحرب اللعينة أو تطرق أذني مفردة شهيد ؟ فالحرب وقرابينها ارتبطتا في ذاكرتي البعيدة بذاك المحيا الجميل المتشح بشاشة ووسامة وطيبة وحلماًً وحباً وبراءة .
اسمه الفرزدق ؛ والفرزدق تعني همَّام، فربما عني به شاعر الهجاء الشهير (الفرزدق) الذي لا يأتي ذكره إلا قريناً بالشاعر جرير وهجائه المترف بالقذاعة والتهكم، كنت أحب جرير وشعره لكني وبعيد أول لقاء جمعني بالفرزدق الضابط الإنسان المحب صرت عاشقاً ونصيراً للفرزدق وهجائه إن لم أقل مشفقاً ومتوجعاً عليه .
صديقي الفرزدق مازال يلازمني وجهه ومحياه، ابتسامته ونظرته، عشقه للحياة والناس، روحه الطيبة، حبه ووفائه وصدقه،زهوه وفرحه بخاتم حبيبته يزين بنصر يده اليسرى، شوقه وسعادته بكونه سيتمم نصف دينه قريباً وحالماً يعود لأهله وصحبه في العيدروس والقطيع والشارع الطويل والزعفران والخساف وصيره وحقات وحافة حسين وغيرها من الأمكنة وذكرياتها وناسها، فما إن تُذكر مدينة عدن (كريتر) إلا ويقابلها بابتسامته الخجولة الملتاعة لكل شيء في المكان الحبيب والعائلة والخليل والبحر والموج والسمك والجبال والصهاريج والزحام والعطر والشاي والفل.
يا الله ما أقبح فعلكم أيها الحكام! ألم يقل برغسون بأن الحرب هي تسلية الزعماء الوحيدة التي يسمح لأفراد الشعب المشاركة فيها ؟ لا أدري كيف قُتل صديقي ؟ لا أعلم لماذا يؤرقني موته أكثر من سواه من زملائي وأصدقائي الذين فقدتهم في الحرب ذاتها ؟ لماذا ينتابني شعور بالذنب والأسى الكبيرين؟ ولماذا علي اليوم نكأ جراح أهله وذويه وبعد سنوات نيفت الثمانية عشرة لتلكم المأساة ؟ كيف لكارثة بحجم الحرب المدمرة والمهلكة للوحدة ودولتها وشعبها وجيشها وروحها وصيرورتها يمكن اختزالها بوجه صاحبي؟ كيف أن ذكرى النكبة تعني للكثير منا خسارة دولة ونظام أو قريب وحبيب أو وظيفة وترقية ومكانة وسلطة أو سيارة أو أرضية تجارية أو شقة وفيله أو مساحة وثروة وووالخ فيما لو أحد مثلي ليست إلا حرباً ضروساً التهمت ضابطاً كان قبيل مقتله في وغى المعركة يمتطى دبابته الروسية قائداً لسريته ومزهواً بكونه يحمي حياض وطنه وشعبه لا مصوباً فوهة مدفعه وداناته تجاه إخوته ورفاقه المحاربين ؟
بالنسبة لي الفرزدق ليس رفيقاً وصديقاً فحسب، إنه الإنسان الوحيد الذي وجدت فيه أروع صورة للجنوب، رأيت في بساطته وتأدبه وصدقه وضحكته وتأنقه وطيبته وحلمه ؛ مدينة عدن بكل ما تجسده من تعايش ومواطنة ومدنية وانتماء، في سلوكه وانضباطه واحترامه لواجبه وعمله ولزملائه ومرؤوسيه، ناهيك عن عفة ونزاهة يده ونقاء سريرته وذهنه لا متسع فيها لرواسب وأحقاد قبلية أو مناطقية أو طائفية .
قبل التوحد ببضعة أشهر كان حظي وزملائي الضباط الأربعة أننا توزعنا فور تخرجنا من الاتحاد السوفيتي - جمهورية أوكرانيا حالياً – على خمس مناطق نائية شديدة الحرارة والمعاناة بدءاً بصحراء ثمود شرقا مروراً بصحار وسهول شبوه وانتهاء بقفار ورمال وبطون منطقة خرز المتاخمة لباب المندب غرباً .
نعم مازلت أتذكر تلك الساعات الكئيبة التي أقلتني فيها شاحنة نقل وحيداً وبعيداً عن زملائي الأربعة الذين كل واحد منهم ذهب للوحدة العسكرية المعين بها دون ممانعة أو تأخر أو وساطة أو سخط وتندر، لكني وبرغم هذا المآل الحزين كنت محظوظاً أن أول وجه صافحته كان وجه صديقي النقيب فرزدق والذي حينها قابلته بصفته أركان كتيبة الدبابات لا قائد سرية مثلما عرفته لاحقاً وتحديداً في ظل وجود القائد والأركان .
استقبلني بابتسامة وحفاوة لن أنساها له ما حيت، لقد أناخت عني وعناء السفر وكربة الفراق والمكان، كان معي لطيفاً وبشوشاً وحميماً لحد خلتني أعرفه مذ سنوات خلت، إنه صنف من البشر الذين لا تجد بينك وبينهم أية مسافة أو حواجز أو حدود فاصلة، فرزدق واحد من هؤلاء القوم الذين ما إن تلتقي بهم لحظة حتى تشعر بألفة وقرابة كأن عمرها دهراً .
كيف لا أذكره دوماً ووجهه يصافحني صباحاً ومساء ؟ ابتسامته تلاحقني كظلي، رحيله يوقظني يؤنبني، كفاحه وصبره في سبيل ذاته وعائلته وحبيبته التي لم يتبق من زمن وصلها غير أشهر معدودة، لم يبق من يوم فرحة زفافه سوى وقت قصير، فبعد عناء وكفاح خاضه لأجل توفير مستلزمات الزوجية ؛ ها هو يقف على مسافة ساعات من إتمام الرحلة الطويلة واللذيذة .
لا أحتمل وجعك يا صديقي، حاولت مراراً أن لا أحزن ذويك،لكنك لم تتركن وشأني، لذا أجدني أكتب قصتك اليوم علها تخفف عني وطأة رحيلك المؤلم، لا عليك يا صاحبي إذا ما ذكركني أهلك وأحبابك البكاء، فالدموع راحة وهي مطافئ الحزن الكبير وفق تعبير أمين نخلة، سأكتب عنك شيئاً وليكن رثائي موجعاً ومحزناً لكني على أقل سأبكيك مثلهم ولن تظل تسكنني حرقة وندامة وحسرة ووجع ينتابني في كل الأوقات، ألم تقل يا صديقي بأن موطني الكتابة لا الدبابة ؟ ألم تخالجك السعادة حين قرأت اسمي يتسلل لصفحات الجريدة قبل رحيلك ؟.
سأكتب عنك إذن! سأقول لك وداعاً كي ترقد بسلام، أتذكر الآن كيف أنك استقبلتني بابتسامتك المنثورة من ثغرك بسخاء ودون تكلف، وكيف ودعتني بفرحة غامرة نابعة من وتين قلبك حين غادرت المعسكر نهائياً قبل سنة فقط من نبأ فاجعتك ؟ لطالما قلت مازحا : أولاد السوداء – يقصد الدبابة – جميعكم مدعوون في عرسي، فيرد زميل مشاغب وبصوت جهور قائلاً: ابن إلهام يدعونا للغداء، وأخيراً ابن الهندية سيودع العزوبية .
ختاماً ليس لي سوى التذكير بحديث المصطفى محمد بن عبدالله صلوات ربي وسلامه عليه القائل: إنَّ العين لتدمع، وإنَّ القلب ليحزن ُ، وإنَّا على فراقك يا إبراهيم لمحزونون، ولكن لا نقُول إلا ما يُرضي ربَّنا ) سأقول كذلك وأرددها تباعاً وإنا على فراقك يا فرزدق لمحزونون، نم قرير العين يا صديقي واعذرني إذا ما أوقظت حزنك ثانية وبعد سنون، فبحسب قول بولندي: "القلب المملؤ حزناً، كالكأس الطافحة، يصعب حمله" أظن نفسي هكذا فما من لحظة وذكرى إلا وأنت يا صاحبي غصة وحرقة في فؤادي أو أنك دمعة حرة في مقلتي، فسلام عليك وليسكنك الرب جنانه وليدخلك تحت رحمته ولينزلك منزلة الصديقين والشهداء وليلهم أهلك وذويك الصبر والسلوان وحسبنا الله ونعم الوكيل اللهم آمين .
في السبت 31 مارس - آذار 2012 03:47:10 م

تجد هذا المقال في صحيفة أخبار اليوم
https://akhbaralyom.net
رابط الصفحة
https://akhbaralyom.net/articles.php?id=67658