معارضة من عينة الرئيس يليتسن !!
محمد علي محسن
محمد علي محسن

الرئيس الروسي السابق بوريس يليتسن في اعترافاته التي تم نشرها قبيل وصوله إلى سدة الرئاسة بسنتين فقط ؛ كان قد قدم ذاته كمعارض للبيروقراطية السوفيتية ولنظامها الشمولي المتسلط الذي عانى منه صنوف القهر والمكر والغدر وغيرها .
 فخلال مسيرته من أجل الديمقراطية كان مهندس البناء قد تعرض لشتى الأساليب المخاتلة التي لم تكتف بتجريده من مناصبه الحزبية - عضو مرشح لأعلى هيئة حزبية (المكتب السياسي ) وسكرتير منظمة الحزب الشيوعي في موسكو – فيما هو في العناية المركزة يعاني من أزمة قلبية ؛ بل تمادى رفاقه إلى تشويه صورته وافتعال المشكلات كي لا يصل إلى البرلمان (الدوما) في أول انتخابات متحررة هامشياً من قبضة الحزب الواحد وفي آخر انتخابات شهدها الاتحاد السوفيتي قبل تفككه بعامين .
ولكن هذا النائب المشاكس والعنيد حين وصل لسدة الرئاسة بعد عامين كان أول شيء فعله هو حل الحزب الشيوعي وجمع كافة سلطات جمهوريته بيده وحده دون سواه مثلما أشارت مقدمة كتاب يليتسن الدكتورة سناء أبو شقراء التي كانت قد تساءلت قائلة: هل من تفسير يتجاوز القول البسيط بأن الصراع من أجل الديمقراطية هو دائماً قضية المعارضة، وما إن تصل إلى السلطة حتى تدوس ماضيها وتسقط الراية في أكف غيرها؟.
يليتسن المتمرد على الحزب، من ثم الناقم على قيادته والشاهد على ممارساته السلبية، ثم المدعي العام ضده، ثم صاحب قرار إزاحته من الحياة السياسية؛ أليس هو الحاكم المتسلط الذي رفض تسليم السلطة حتى بعد أن خضع لعملية القلب المفتوح وصار بدنه لا يقوى على الحركة؟.
مازلت أتذكر يوم الأحد 26 مارس 89م، ففي هذا اليوم انتخب بوريس يليتسن وبنسبة فاقت كل التوقعات، إذ كان قد فاز بـ86.9% من أصوات المقترعين، لم يحصد هذه الأصوات في موطنه وفي الإقليم الذي حكمه عشرة أعوام (الاورال)، بل حصدها في عقر دار الكرملين والنظام السوفيتي (موسكو)، ذات العشرة ملايين نسمة حينها وفيها مليون وثلاثمائة ألف شيوعي .
 فبرغم تلكم الحرب الشعواء التي مورست ضده ومن أرفع مسؤول في الإمبراطورية السوفيتية (غورباتشوف) وحتى أدنى حلقة في الحزب؛ إلا أن الموسكوفيين لم يخذلوا يليتسن أو يخونوه مثلما كان اعتقاد البعض حين نصحوه بالترشح في مسقط رأسه .
 في ذاك الوقت كان يليتسن قد اعترف صراحة بأن حصوله على أعلى نسبة تصويت لم يكن رغبة وحباً في شخصه، وإنما في الأغلب جاءت كردة فعل إزاء ما تعرض له من إساءة وتشهير من ماكينة إعلام النظام، ناهيك عن كونها عبرت عن كره ورفض الناخبين للنظام أكثر منها محبة وقبولاً به .
لماذا عليّ الآن تذكر الرئيس بوريس يليتسن؟ الواقع أنني وجدت في سيرته الذاتية مقاربة لحال الكثير من قادة المعارضة في الدول العربية ، فهؤلاء تجدهم يطنبون الكلام في مسائل حضارية وديمقراطية وحقوقية لكنهم وما إن يصلوا إلى السلطة فتراهم منقلبين على أفكارهم ومبادئهم الحداثية التي لطالما ظلت أيقونة المعارضة خلال نصف قرن من الزمن على أقل تقدير .
فالرئيس يليتسن قبل أن يتولى الرئاسة كان شديد الانتقاد لطريقة تصريف شؤون بلد كبير وضخم بطاقته وثروته وعلمه وبشره ، لطالما قال بأن من يحكم الاتحاد السوفيتي ليس إلا جماعة شخوص لا علاقة لهم بحياة الناس ، فهؤلاء كذبوا على شعبهم وزيفوا حقائق التاريخ لمنافعهم الشخصية .
 فالشيوعية في حقيقتها ليست سوى خدعة ووهم لا مكان لها ، فشعار "كل بحسب قدرته كل بحسب طاقته لا وجود له في الواقع"، لقد خلص لأن الشيوعية تعني رفاهية عشرين ألفاً من القيادات العليا والوسطى التي تعيش مع عائلاتها عيشة البذخ والترف، فيما غالبية الناس يعانون الفقر والرشوة والحرمان والفاقة لأبسط الرفاهية والخدمات التي يتمتع بها سكرتير لجنة مركزية عادي .
يليتسن قبل أن يصير رئيساً تساءل: لماذا الرئيس الأمريكي يأتي ويذهب مع كل حكومته وفي ظرفية لا تتعدى أربع أو ثمان، بينما زعماء الحزب يبقون حتى الموت ؟ أفضَّل وزير دفاع مدنياً لا عسكرياً، فالوزير العسكري يبقي فكره مشدوهاً بالخطط والهواجس العسكرية والمؤامرات والاحتمالات، بينما الوزير المدني يكون همه منصرفاً بمهامه وبرنامج حكومته .
ولكن الرئيس يليتسن كيف تصرف حين صار رئيساً؟ ظل في موقعه إلى أن تعطلت وظائف جسده، أبقى وزارة الدفاع تحت أمرة الجنرالات ، لم يثنه مرضه وسقمه عن ترك كرسيه ، لم يجد ثمة حرج أو غضاضة حين ظلت روسيا عاطلة متوقفة عند حافة الانهيار الاقتصادي والأخلاقي أو عندما غرق نظامه بالفساد حتى خيل لنا بأن روسيا ستموت خنقاً واكتئاباً وفساداً .
لا فرق بين معارضة يليتسن ومعارضة اليمن ومصر والعراق وليبيا وتونس والمغرب وغيرها ، لا يوجد ثمة فرق بين حكم الرئيس يليتسن وحكم المعارضة في هذه الدول ، لنؤخذ على سبيل التدليل معارضة الدكتور أنور المالكي في العراق أو معارضة مصر واليمن وليبيا وغيرها ممن ركبت الثورات الشعبية ووصلت للحكم .

لا أعتقد أن المسألة تقتصر على رئيس أو وزير، بل المسألة لها صلة بثقافة استبدادية كامنة بداخل كل واحد منا ، إنها نتاج حقبة طويلة من التسلط والخوف والاضطهاد المعنوي ، فالمعارض الذي أطنبنا ردحاً بخطبه وشعاراته عن الفساد والمحسوبية والتوريث والمواطنة سرعان ما يتبدل حاله وبمجرد أنه صار وزيراً .
 جميعهم من طينة التسلط ذاتها التي جاء منها الرئيس يليتسن إلا من رحم ربي، تجدهم ينقلبون سريعاً وبمجرد سلطة ما باتت لديهم، فحتى ذاك العسكري الغلبان الذي ما إن يحمل سلاحه أو يركب طقمه أثناء مهمة وواجب يتحول إلى كائن مختلف كأن لا علاقة له بذاك الجندي الأعزل البسيط غير المتجبر .
في الأربعاء 04 إبريل-نيسان 2012 08:55:21 ص

تجد هذا المقال في صحيفة أخبار اليوم
https://akhbaralyom.net
رابط الصفحة
https://akhbaralyom.net/articles.php?id=67716