الصمت بين الرذيلتين فضيلة!
محمد علي محسن
محمد علي محسن

ذات يوم عاصف بالاحتجاجات الشعبية في الشارع والرقص والبرع والمزمار في ذكرى شطرية، وجدتني عقب التظاهرتين أسمع جدلاً عقيماً ومشحوناً بالانفعالات والنعرات الجهوية المقيتة، ومن اثنين، أحدهما أفرغ شحنة من غضبه على الشمال الحاكم، والآخر أخرج ما في كوامنه وخوالجه نحو الجنوب الخارج عن طاعة الحكم..
لأول مرة أستجير بالصمت وأفضل عدم الكلام، فبعد أن استنفد كل واحد منهما حديثه طلباً من العبد الفقير رأيه في المعركة الواقعة بين الطرفين، التي من فرط ما استخدم فيها من مفردات بذيئة ووقحة وغير لائقة بدعاة الحق الجنوبي المهدد والمفقود أو الوحدة وطريقة فرضها من الشمال المنتصر والحاكم، لم أجد حينئذ ما أقوله سوى هذه الحكمة (السكوت بين الرذيلتين فضيلة).
نعم على المرء أن يسكت إذا ما خير بين الرذيلتين، فلا الجنوب وانفصاله شرفاً يستوجب الدفاع عنه في مثل هذه الحالة، ولا الشمال ووحدته فخراً يستلزم الحفاظ أو التباهي به، وإلى درجة الإسفاف والابتذال، إن لم نقل الاستفزاز المثير للاشمئزاز..
تصوروا مثلاً مسئولا عاث في البلد فساداً ونهباً وفتكاً لعرى اللحمة الوطنية الواحدة وهو أكثر خلق الله خوفاً وحرصاً وحديثاً عن فضائل ونعم الوحدة القائمة، ولكم بالمقابل تصور ماهية الحق الجنوبي إذا ما كان صاحبه تائهاً وغائباً كفكرة ومشروع وخطاب، وإن قدر له التعبير عن ذاته فوسيلته وأداته لم ترتق بعد لمصاف الحق المنشود سوى بعفوية الاصطفاف الشعبي، أما الخطاب والممارسة والغاية فمازالت جميعها محكومة بالفوضى والنزق والطيش والانفعالات والشتائم والإساءات التي هي في المحصلة حجج على خطأ أصحابها.
في الحالتين يعد الصمت حكمة وليس خوفاً أو هروباً أو انهزامية، فإن يندم الإنسان على سكوته لهو خير له من الندم على القول، وفق المثل العربي، والحال أننا نعيش واقعاً مأساوياً وعبثياً كارثياً إذا ما تركت الساحة لهؤلاء الجهلة والمنافقين والمتسلطين والمراهقين في أن يعبروا عن الوحدة أو يحملوا رآية القضية الجنوبية.. فإن «أقبح أنواع الاستبداد استبداد الجهل على العلم والنفس على العقل»، بحسب قول ولي الدين يكن.
 المشهد على ما يبدو يتخذ منحى آخر غير الذي ننشده أو نطمح إليه، فحين تكون النفس الأمارة بالسوء هي الوجه المجسد لدولة الوحدة، فحتماً ستكون النهاية كارثية لا محالة، وعندما يصير الجهل وجها مستبداً بالقضية الجنوبية ودون سواه من الأوجه المعروفة بحنكتها واعتدالها ورؤيتها للحق الجنوبي، فذلك يعني تنحية العلم والمعرفة والخبرة جانباً، والسير نحو المجهول، وخلف من قال في أخلاقهم جعفر بن محمد «الإجابة قبل أن يسمعوا، والمعارضة قبل أن يفهموا، والحكم بما لا يعلمون".
لا عليك أيها الفنان القامة محمد محسن عطروش إذا ما فضلت الصمت باعتباره أخف الضررين في مثل هذه الأوضاع الاستثنائية المطلوب فيها الجهر بالكلمة الصادقة المعبرة عن آمال وآلام شعب لا الاستكانة والانهزامية، مثلما قد يصورها البعض.
لا عليك إن اعتبر توظيف أغنيتك (برع يا استعمار) من المتظاهرين بمثابة حق يراد به باطل، ودليل على العجز في الجديد المناسب للتعبير عن الحالة الراهنة التي هي نتاج لمخلفات أنظمة سياسية، ولا ينبغي مماثلتها بزمن الاحتلال الأجنبي الذي مثلت الأغنية فيه آنذاك نشيداً وطنياً لمقاومته، وفي سبيل قضية جديرة بتضحيات ونضال الشعب اليمني شمالاً وجنوباً.
 لم يكن العطروش وحده من يلوذ بالصمت، فهنالك من هم على شاكلته من الفنانين والسياسيين والمثقفين والناشطين والمفكرين وغيرهم ممن وجدوا في الصمت ضرراً أقل من الحديث عن الوحدة أو التجزئة.
الوحدة كقيمة عصرية وجمعية لكل الناس المتواجدين للأسف تم اختزالها بجماعات جهوية قتلت فيها روح الانتماء والشعور بالمواطنة المتساوية، وبالمقابل القضية الجنوبية التي على الرغم من كونها مطلباً شعبياً لمعظم أبناء الجنوب، بمن فيهم المحسوبون على الحكم، إلا أن حبل القضية أفلت من عقال المعاناة والمعالجة السياسية المطلوبة لإزالة آثار الحرب الأهلية، إلى شبق المراهقة الباحثة عن زعامة أو خطاب لا يستقيم أبداً مع مشروعية وعدالة الغاية.
الوحدة بهذه الممارسة والتجسيد المختل لا يمكن البناء عليها، والحق الجنوبي بهذا الفهم والتشوه الحاصل لا يؤدي إلا إلى الخسران، وبين الاثنين ثمة شعب رهن أطماع النفس وبلادة الحجة.
                                 
في الأحد 20 مايو 2012 03:08:54 ص

تجد هذا المقال في صحيفة أخبار اليوم
https://akhbaralyom.net
رابط الصفحة
https://akhbaralyom.net/articles.php?id=68198