إشكالية الحوار الوطني
حافظ الشجيفي
حافظ الشجيفي

 لا ادري كمواطن عربي متعجرف شأني في ذلك شأن كل أبناء الأمة أو معظمهم..لأيهما نحتاج أن نبدأ به أولاً قبل الآخر لإدارة خلافاتنا؟..أبالحوار كي يقودنا للعنف والحروب أم بالعنف والحرب كي تنتهي بالحوار؟...ولئن كنا في هذه الأمة على وجه الخصوص دون سائر الأمم الأخرى لا ندرك أين تكمن مصالحنا كأفراد وطوائف وقبائل وأحزاب وشعوب ودول أو بتعبير أعمق: لا نبالي بها حتى وإن أدركناها ولا نعيرها من الأهمية والعناية إلا بقدر ما تستوعبه مصالحنا الشخصية والذاتية والأنانية والأسرية وإن اقتضى الحال منا التفريط في مصالح الآخرين مهما كان عددهم أو كبر حجم الضرر الذي سيلحق بهم...
فلا عجب علينا إذن إن لم نفرق بين البداية والنهاية..أو بين أن نبدأ من حيث يجب أن ننتهي أو ننتهي من حيث يجب أن نبدأ, ولا عجب أن استعضنا بالعنف والقوة ولغة القتل والسلاح عن كل البدائل والخيارات التي تغنينا عنها وتكفينا شرها وتنجينا من جحيم حريقها وتجنبنا خسائرها الباهضة مادمنا لا نؤمن بالحوار كمبدأ حضاري وأخلاقي وقيمة إنسانية راقية للتفاهم وإدارة الخلافات والصراعات التي تنشب بيننا على مختلف المستويات والعلاقات، إلا إذا كان كل واحد منا يسعى من وراء ذلك لأن يفرض رؤيته ومنطقه على الآخرين دون أن ينصت ويستمع إليهم أو يقبل حجتهم حتى وإن كان مقتنعاً بصوابها...كما أن الحوار لا يكون مجديا ولا يفضي إلى أي مخارج ايجابية حين نضع مصالحنا الشخصية والخاصة في مقدمة الغايات التي نرمي إلى تحقيقها عن طريقه ونجعلها في أولويات سلم الأهداف التي نسعى إليها وإن على حساب المصالح والغايات والأهداف الوطنية والشعبية التي نتكلم باسمها أو نتذرع بها ولو لم نظهر ذلك أو نعبر عنه ونبديه أمام بعضنا البعض, فإن لم يكن في واقع الحال الذي تعيشه بلداننا العربية منذ وقت طويل ما يكفي لكشف وتفسير هذه الحقيقة فإننا لن نجد تفسيراً آخر لظاهرة العنف والحروب وحالة التمزق والإرهاب والنزاعات التي مازالت نشهدها سياسياً ومذهبياً وقبلياً وطائفياً ووطنياً حتى الآن..
أقول رأيي هذا واحسبني مقتنعا بان التعميم فيه من الخطأ ما يحملني للإعتذار لبعض الساسة وقادة الرأي والفكر في بلادنا ممن يتمتعون بثقافة الحوار ويمارسون سلوك التسامح مع الآخر ومن الإنصاف الإشارة إلى جهودهم التي تمثل استثناءً يؤكد على أهمية الحوار كمبدأ عام يجب أن يطبق على كل المستويات الاجتماعية والسياسية والثقافية..والحوار على هذا الأساس ليس غريباً على المعجم السياسي في الشأن الداخلي لليمن..فلو أعدنا النظر إلى تاريخنا الحديث لوجدنا الأحداث الكبرى والمنعطفات الحاسمة التي مرت بها بلادنا ـ كالوحدة مثلاً باعتبارها أهم منجز حققناه حتى الآن ـ كانت ثمرة حوارات وطنية جادة تمت بين الفاعلين السياسيين في الجنوب والشمال...فضلاً عن منعطفات تاريخية كثيرة تجاوزناها قبل ذلك سواء في الجنوب أو في الشمال بفضل لغة التفاهم والحوار منذ قيام الثورتين في كلا الشطرين...وكلنا نعرف تلك المنعطفات التي تشهد عليها كتب التاريخ السياسي لليمن حتى الآن..
الحوار معناه الإصغاء الواعي والمتعقل للأقوال والآراء والأفكار مع عقد النية على اتباع الأحسن منهما عملاً بقول الله تعالى في محكم تنزيله((الذين يستمعون القول ويتبعون أحسنه))وهو نقيض للجدال الذي يعتبر من باب التهكم والمماحكة واللغو..فالحوار فهم وإدراك وروية واتزان وتفاهم واشتراك وتوافق في صنع الصواب وتحقيق مصلحة الجميع وتتشكل الحاجة للحوار بحكم مستوى التعقيد الذي تصل إليه القضية التي يدور الحوار حولها وبحكم المنافع والأضرار العامة والخاصة التي ترتبط بها أو تترتب عليها حاضراً ومستقبلاً وفقا لما تقتضيه مصلحة أكبر عدد من الجماهير المستفيدة والمتضررة منها..
بالنسبة للوحدة اليمنية فقد كانت كما أشرنا ثمرة لحوارات عديدة تمت في فترات أو محطات تاريخية متباعدة زمنياً ترافقت بحالات توتر عسكري بين الجانبين ولعل ذلك كان ناتجاً عن طبيعة النظام السياسي الذي كان يحكم كل شطر من الشطرين وتبعيته للقوى الخارجية التي تتبناه ولكن وبعد أن سقطت تلك القوى وأصبح العالم ذا قطب سياسي واحد يقوده ويحركه، استطعنا أن نتوج تلك الحوارات بحوار شفاف وجاد بدأ في العام 89م بين الطرفين وانتهى في العام التالي بإعلان تحقيق الوحدة في عدن..غير أنه لم يمر عليها وقت طويل حتى أخذت قواعدها تهتز وتترنح أمام الرياح التي بدأت تعصف بها عندما اصطدمت المصالح الوطنية العامة بالمصالح الشخصية الخاصة في الدولة الجديدة الوليدة وبدأت قوى الفساد والظلام تنشط وتتحرك على حساب القوى الوحدوية التي تمثل مشروع النهضة والتحديث فيها وتعمل على إقصائها وإلغائها من الساحة السياسية والوطنية...ولهذا السبب فقد أخفقت كل الحوارات التي تمت أو جرت معها في ذات المرحلة لتنتهي بكارثة الحرب التي أسفرت عن إجهاض مشروع النهضة والتحديث وتعطيله وانتصار قوى الظلام والفساد التي قوضت أسس الشراكة الوطنية ودمرت دعائم ومداميك الوحدة الاندماجية بعد أن قامت على أواصر الثقة والألفة ووشائج الإخاء والمحبة بين الشعبين، لتتحول بقدرة قادر إلى سبب للعداوة والبغضاء بينهم، حين وجد الجنوبيون أنفسهم وحقوقهم وممتلكاتهم وثرواتهم عرضة للسلب والنهب والسطو المسلح والعبث على أيدي إخوانهم...ومنذ ذلك اليوم والوطن كل الوطن الواحد من أقصاه إلى أقصاه في حالة حرب وسلب وفوضى وتفكك، لأن الجهة التي انفردت بمقاليد الحكم فيه بعد ذلك لم تسعى إلا لبناء وتشييد (مشاريعها الفردية الصغيرة)لذلك فلم يكن لأي حوار أن ينجح معها أو يجدي.
ولكوني واحداً من أبناء هذا اليمن ومتابعاً للشأن الداخلي العام فيه بعد أن اندلعت ثورة التغيير وأسقطت ما أسقطته من ركائز النظام الفاسد حتى الآن ورغم حساسية الوضع الذي تمر به البلاد في الوقت الراهن ودقته وبدأ الشعب بكل تشكيلاته الوطنية والسياسية والاجتماعية والثورية يتهيأ للانتقال من دائرة الإكراه المغلقة إلى فضاءات الإقناع الرحبة فقد حز في نفسي غياب ثقافتي الحوار والتسامح اللتين ينبغي أن نتسلح بهما عوضاً عن أي سلاح آخر كمنهج حضاري لحل مشاكلنا وإدارة خلافاتنا وتحقيق مصالحنا وغاياتنا أو لم تقم هذه الثورة بفعل غياب هذا المنهج وتغييبه؟ أو لم تقم الثورة من أجل التأسيس لهذه الثقافة وترسيخها كسلوك عام بيننا على كل المستويات وفي مختلف المجالات والأصعدة؟ أو لم تقم هذه الثورة ضد النظام الإفسادي السابق لأنه تمادى في غيه وعجرفته علينا ولم يصغِ أو ينصت إلينا ولم يشنف مسامعنا خلال أكثر من ثلاثة عقود أمضيناها في التخاطب معه ولم يأبه بنا, فما بالنا إذن نتبنى ما تبناه معنا ونقتفي أثره ونتبع خطواته على طريق الإقصاء والاستعداء الذي سار فيه قبلنا..وما ححاجتنا للثورة أن لم تختزل فينا هذه المعاني والقيم على أرض الواقع قولاً وعملاً ونوايا؟..
المشكلة العظمى في ثقافة الحوار عندنا هي أننا لا ندرك كيف نتدبر خلافاتنا...كيف نتفق على بعضها ونختلف على بعضها الآخر.. كل واحد منا يتشبث برأيه ومنطقه دون أن يصغي لما يقوله الآخر, وأنه وحده يعرف الحقيقة وغيره لا يعرفها, كل واحد منا يدعو للحوار إن دعا إليه فعلاً فإنما يدعو كي يفرض نفسه ورؤيته على البقية وكفى ويأتي ليقنعهم بوجهة نظره لا ليقتنع بوجهة نظرهم، يأتي ليسمعوه وحده لا ليستمع إليهم...يأتي وهو محمل بأحكام مسبقة وجاهزة وقطعية عنهم وعن آرائهم ويجب أن يقتنعوا بآراءه ورؤاه وإلا فلا حوار أو أن الحوار فاشل وعقيم..ثم يعتكف في البيت ويرفض التواصل معهم ويناصبهم العداوة ويأبى كل محاولة للتفاهم معه، هذا إذا كان البقية يؤمنون بالحوار ويخلصون للقضايا التي يبحثون عن حلول ناجعة لها..وعند هذا الحد يتوقف الحوار ويتحول إلى مشكلة تحتاج إلى حل, وهكذا لا نعرف كيف نختلف ولا كيف نتفق ولا كيف نعمل كفريق واحد ومتجانس..فما إن تبدأ مجموعة عملاً جاداً حتى يدب بين أفرادها الشقاق، لأن كل واحد منهم يصر على رأية ولا يقبل رأي الآخرين دونه فضلاً عن أن يناقشهم أو يفكر فيهم..
وهنا أعود لأقول إن الصورة ليست كلها معتمة إلى هذا الحد، ففي أوقات نادرة وبالذات الثلل الصغيرة يستمع المتحاورون لبعضهم البعض ولا يقاطعون بعضهم البعض ولا يتسرعون في الرد عليهم قبل أن يستوعبوا الفكرة ولا يتهورون بإصدار أحكام ظالمة على بعضهم البعض ولكن وبكل أمانة كم نصادف مثل هذه الحالات؟..أليست نادرة وعزيزة الوقوع.
ليتنا ننمي مهارات الاعتراف بالآخر المختلف وقيم احترامه ونمد جسور الألفة والتفاهم والأنس بيننا وبينه...وعلاوة على ذلك فنحن بحاجة إلى مبادرات ومشاريع وورش وطنية واجتماعية متكاملة تهدف إلى دعم وتشجيع ثقافة الحوار الوطني بسياسات تعرف الأطياف والكيانات الوطنية ببعضها البعض دون أن نسقط في تفاصيل الفرقة والعداوة وكل ذلك لن تنضج ثماره إلا بالوعي السياسي والثقافي والعملي في الخطاب والممارسة وسعة الصدر للمشاركة وامتلاك الحجج والرؤى الثاقبة والاستعداد للاستماع والاقتناع برؤى الآخرين مهما كانوا ومقترحاتهم.. وللحديث بقية.
في الخميس 14 يونيو-حزيران 2012 02:50:23 ص

تجد هذا المقال في صحيفة أخبار اليوم
https://akhbaralyom.net
رابط الصفحة
https://akhbaralyom.net/articles.php?id=68462