رمضان حِكم وأسرار !
نجيب أحمد المظفر
نجيب أحمد المظفر

مما لاشك فيه عند كل من رضي بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد صلي الله عليه وسلم نبيا أن شريعة الله رحمة كلها وعدل كلها ومصلحة كلها فأي انصراف من الرحمة إلي ضدها ومن العدل إلي الجور ومن المصلحة إلي المفسدة فليس من دين الله في شئ , لأن الشريعة جاءت لإسعاد البشرية في العاجل والآجل , ولهذا فكل ما شٌرع أن نتعبد الله به له من الحِكم والأسرار مما علمناه وما لم يطلعنا الله علي علمه ما يكفي لإسعاد البشرية في الدنيا والآخرة , وإن مما فٌرض علينا من العبادات الصيام وذلك لما له من حِكم كبيرة تتجلي في واقعنا الفردي أو الجماعي من جملة هذه الحِكم التي يمكن أن نقف معها لندرك مدي رعاية الله لمصالح عباده في الدارين.
أول هذه الحِكم: أن الصائم لرمضان ولغير رمضان من الأيام يٌحصِل من الأجور ما لم يحصله من عبادة أخري وما لم قد يحصله في أشهر السنة الباقية لأن الصائم لا حد لأجره لان الصيام هو العبادة الوحيدة التي اختارها الله لنفسه فقال كما في الحديث القدسي : كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به ) وذلك لما يقترن بهذه العبادة من عبادات مهمة كالصبر الذي هو الأخر رٌتب له ما لا حد له من الأجر قال الله ( إنما يٌوفى الصابرون أجرهم بغير حساب ) وهذا لا يعني أن من صام وهو لا يصلي أو كان ممن لا يصلي إلا في رمضان محصل لهذه الأجور لأن الصلاة أعظم شعائر الدين وهي صلة للعبد بربه فمتى ما انقطعت صلة العبد بمولاه فأني له أن يصل لأجور الطريق إليها مقطوع ومعلوم أن فاقد الشئ لا يعطيه.
ثانيها: أن الصوم جنة أي حصن ووقاية للفرد والمجتمع من الشرور والشيطان ففيما صح عن النبي صلي الله عليه وسلم قوله :( الصوم جنة فإذا كان صوم يوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب فإن سابه أحد أو قاتله فليقل إني امرؤ صائم ) فالصوم يقي من الشرور والشيطان لان هناك تلازم بين الشيطان والشر ولا سبيل للوقاية منهما إلا بالصوم ,ولأنه قد وردت الأحاديث مصرحة بأن الشيطان يجري من ابن آدم مجري الدم , فدلتنا أحاديث أٌخر أن التضييق عليه يكون بقلة الطعام , وأما رمضان فله مزية زائدة في محاربة الشيطان واجتثاث شجرة الشر من النفوس ذلك لأنه في رمضان تسلسل ( تٌقيد ) مردة الشياطين وهذا من فضل الله علي هذه الأمة ولذا فإن الخير يفيض في رمضان ودائرة الخير تتسع في رمضان دون غيره من أشهر العام لذا وجب علينا أن نستغله في نشر الخير وتوجيه الناس نحوه , وجعله مدرسة لتعلم الأخلاق و القيم العليا النبيلة .
ثالثها: إن الصيام يقوي اليقين بالله عزوجل , فبالصوم يستشعر العبد مدي ذله وافتقاره لله عزوجل , فيستشعر بامتناعه عن الطعام والشراب سعة إنعام الله عليه بالليل والنهار بل وفي كل طرفة عين عندها يزداد يقينا أنه من له في صنع الحبة التي يتكون منها طعامه ومن له في إيجاد الماء الذي لا قيام للحياة بدونه , فيزداد إيمانا بالغيب المستور وما أحوجنا اليوم إلي تعميق هذا الإيمان لأننا في عصر الماديات وفينا اليوم من لا يؤمن إلا بالمشاهد الملموس المحسوس مع أن هؤلاء يؤمنون أن لهم عقولا لكنهم لا يرونها ولا يحسونها ولا يشمون لها ريحا , إن اليقين بالله عزوجل إذا تمكن في النفوس أثمر عزة وقوة وشجاعة وصبر وتضحية وإخلاص ورضاً وتوكل وحسن ظن بالله عزوجل .
رابعها: أن الصوم كفارة للذنوب وحط للخطايا , كم نحن بحاجة إلي تكفير ذنوبنا وحط خطايانا ذلك لما للذنوب من آثار مدمرة علي الفرد والمجتمع فهل حٌبس غيث إلا بذنب وهل مٌنع رزق إلا بذنب وهل جَلبت المصائب إلا الذنوب ,لكن مع هذا فلا يأس فالصيام كفارة للذنوب فقد صح عن رسول الله صلي الله عليه وسلم قوله )من صام رمضان إيمانا واحتسابا غٌفر له ما تقدم من ذنبه ) وإن من علامات تكفير الله للذنوب في رمضان أن من كفرت ذنوبه يكون بعد رمضان أحسن حالا منه قبل رمضان فتجده محافظا علي الصلاة جماعة ذاكرا تاليا للقرآن لان من علامات تكفير الذنب وقبول الطاعة أن يوفق العبد للطاعات بعد الطاعات ويصبح بعيدا عن المعاصي كارها لها.
خامسها: أنه في شهر الصيام رمضان تفتح أبواب الجنة ويٌكرم الصائمون بباب في الجنة اسمه باب الريان لا يدخل منه غيرهم , وتوصد أبواب النار ولله في رمضان عتقاء من النار وذلك كل ليلة فإذا كان أخر ليلة أعتق بقدر ما أعتق في الليالي كلها, قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم :« إِذَا كَانَ أَوَّلُ لَيْلَةٍ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ صُفِّدَتْ الشَّيَاطِينُ وَمَرَدَةُ الْجِنِّ وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُ النَّارِ فَلَمْ يُفْتَحْ مِنْهَا بَابٌ وَفُتِّحَتْ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ فَلَمْ يُغْلَقْ مِنْهَا بَابٌ وَيُنَادِي مُنَادٍ يَا بَاغِيَ الْخَيْرِ أَقْبِلْ وَيَا بَاغِيَ الشَّرِّ أَقْصِرْ وَلِلَّهِ عُتَقَاءُ مِنْ النَّارِ وَذَلكَ كُلُّ لَيْلَةٍ» وعند النسائي وهو صحيح قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : (من صام يوما في سبيل الله باعد الله بينه وبين النار بذلك اليوم سبعين خريفا) لهذا كان من رحمة الله بنا أن شرع لنا الصيام كي نفوز بالجنة ونزحزح عن النار.
سادسها: الصيام صحة للأبدان ، فمما يتردد علي الألسن صوموا تصحوا فمع كون هذا القول لا يصح عن رسول الله إلا أن معناه صحيح فبالصوم تصح الأبدان وتحقيقا لهذا فقد ثبت طبيا أن الصيام يعمل علي إحراق مخزون الطعام الزائد المكدس في جوف الإنسان والذي إن لم يحترق فإنه سيتعفن ومن ثم يحدث له تسمم فيصبح الإنسان علي إثره عرضة لأمراض وعلل خطيرة ولهذا فإن من أطباء الغرب اليوم من يعالجون بعض مرضاهم بإرشادهم للصوم علاجا لا تدينا, بينما نحن وجب علينا أن نصوم تدينا فنؤجر ونصح بإذن الله تعالي .
سابعها:بالصوم تقوي روابط الأخوة في المجتمع وذلك من خلال الإحساس الذي يتركه الصوم في النفوس أن في الناس مَنْ السنة عندهم كلها رمضان لا نهم ما وجدوا غِنيً يٌغنيهم وما تفطن الناس لهم فيتصدقون عليهم , من هنا نجد أن الصائم الذي هذب الصوم نفسه يعيش مصاب المسلمين فتجده مسارعا في مساعدة المحتاج فتقوي بينه وبين الناس روابط الحب والإخاء لأن النفوس جبلت علي حب من أحسن إليها .
ثامنها: الصيام في رمضان يربي النفس علي الفضائل ويكفها عن الرذائل , لأن الصوم ليس امتناعا عن الطعام والشراب والجماع فحسب بل الصوم الحقيقي المقبول ما كان فيه حفظا للسان والعين والأذن والبطن وسائر الجوارح عن الوقوع في المحرمات , وما كان فيه إخلاصا ورقابة لله وتعلما للصدق والأمانة وغيرها من الفضائل , لهذا كان رمضان بالنسبة لمن عرف هذه المعاني محطة يتزود منها بفضائل الأعمال ومكارم الأخلاق , ليكون في زيادة دائمة لان المؤمن مطلوب منه أن يكون يومه خير من أمسه .
تاسعا:الصائم مجاب الدعوة , لان الشعور بالجوع والعطش يولد عند الشخص خشوعا وانكسارا وذلا بين يدي الله , فإذا أطلق هذا الصنف من الناس دعوة فتحت لها أبواب السماء وتحققت لهم الإجابة , لان الله عند المنكسرة والخاشعة والذليلة قلوبهم له .
عاشرها:أن رمضان اختصه الله بليلة هي خير من ألف شهر قال تعالي : (لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ ) وليلة القدر قد أٌجمِع علي أنها أفضل ليالي العام كما أن يوم عرفة أفضل أيام العام فهذه الليلة من أصاب خيرها فقد أصاب الخير كله ومن حرمها فهو المحروم حقا فعند البخاري قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- :« مَنْ يَقُمْ لَيْلَةَ الْقَدْرِ فَيُوَافِقِهَا إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا يُغْفَرْ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ » وهي في ليالي العشر الأواخر من رمضان واشتهرت روايات أنها في ليلة السابع والعشرين منه .
هذه جملة الحِكم والأسرار التي اختص الله بها شهر رمضان وعبادة الصيام , فنسأل الله أن يبلغنا رمضان وأن يجعلنا في عداد من يصوم نهاره ويقوم ليله إيمان واحتسابا فنكون من شملتهم الرحمة وعمتهم المغفرة وأعتقهم الله من النار وأختار لهم الفردوس دار قرار ,آمين اللهم آمين .

في الجمعة 20 يوليو-تموز 2012 05:05:30 ص

تجد هذا المقال في صحيفة أخبار اليوم
https://akhbaralyom.net
رابط الصفحة
https://akhbaralyom.net/articles.php?id=68857