العيد و"حاكمية الأمل"
مصطفى راجح
مصطفى راجح

نحن محكومون بالأمل كما قال الأديب السوري الراحل سعد الله ونوس, وهي مقولة تكرر نفسها بصيغ مختلفة، وموجودة كواقع مادي ملموس, حيث تقتضي الحياة واستمراريتها تجدد الأمل والإحساس بالحياة؛ أكان ذلك للغبطة والاستمتاع بالوجود والوعي بأبعاده المختلفة، أو كان ذلك الأمل ضرورة لمقاومة ظروف عيش قاسية أو مأساة ذاتية أو مرض السرطان كما في حالة سعد الله ونوس.
الأديب السوري أُبلغ من قبل طبيبه الخاص في باريس باقتراب أجله وقرب أيامه, قال له لن تعيش أكثر من شهرين ـ هذا طبعا بحسب قانون الطب ومعطياته الإكلينيكية خرج الرجل ليرى المصعد تابوتاً والسيارة تابوتا والبيت تابوتا, غير أنه عاش ثمان سنوات, كان ذلك بقوة الأمل والإرادة المختزنة في ذاته وعزيمته القوية ووعيه المتجاوز للشرط الإنساني الذاتي وكوابحه من مرض وموقع اجتماعي ومقدرة مادية.
نتذكر سعد الله ونوس لنستدعي معه "الأمل" الذي بشر به وتمثله في حياته ومقاومته للمرض والاستبداد والصهيونية والقبح بكافة أشكاله، مقاومة مزدوجة في أدبه ومنتجه الابداعي ككاتب مسرحي وفي حياته العملية ومرضه.
إذا كانت قوة الأمل والإحساس الحي بالحياة تتضمنان سراً يشبه المعجزة في الانتصار على المرض والسرطان فإن قوتهما الكامنة في أعماق النفس البشرية ملاذ الإنسان الباحث عن مصدر قوة وإلهام يمكنه من الإحساس العالي بالحياة وعيشها كما ينبغي لها ان تعاش.
أن تستمتع بالعيد يعني ذلك ان تكون متمكنا من "فن الحياة " لتنجو ب"عيدك" من المحيط الكابح والمحبط الذي اصبح سياجا كابيا يحيط بظلاله الداكنة اليمن كلها وليس فقط فردا او مجموعة أفراد.
في كل الأحوال يبقى الأمل هو الملاذ؛ غير أنه يكون مطلوبا وواجب الاستدعاء في المناسبة الجامعة لكل الناس كما في أعياد الفطر والأضحى التي يحتفل بها المسلمون في كافة بقاع الأرض.
ابتداء يمكن للإنسان أن "يُعَيِدْ" في اي يوم في السنة طالما توفرت له المتطلبات المادية واقترنت مع إحساس قوي بالحياة وتراكم ذاتي "لفن الحياة", غير انه يبقى حالة ذاتية لا تقارن بالمناسبة الطقسية الجماعية كما في الأعياد والمناسبات الدينية التي تمثل المناسبات الرئيسية لدى العرب والمسلمين عموما.
المغزى هنا ان الفرح الذاتي والاغتباط والاستمتاع بالحياة على المستوى الفردي لا يخفف من المرور التعيس للمناسبة العامة على الفرد.. ذلك أنها تعتبر فألا سيئا للعام كله أو أن هذا ما تمتلئ به البيوت التي خذلتها الحياة وقلة اليد والغابة التي تسمى مجتمع والناس الذين غدو أقرب إلى الوحوش منهم إلى الآدمية.
الفرح المفتعل في العيد يكشف عن افتقار حياة الناس في هذا البلد للفرح أكثر من كونه علامة على سعادتهم أو أنهم لازالوا يمتلكون القدرة على التدفق والفرح والبهجة والتماهي التلقائي مع اللحظات السعيدة أو التي يفترض ان تكون سعيدة.
عيد... ولا يوجد أي فعالية فنية أو حفل غنائي أو مسرحية تعرض أو سينما مفتوحة في كل المدن الرئيسية بما فيها العاصمة.. المجتمع مفردة تشكلت من الاجتماع العام ومناطق التماس العامة التي يتشارك فيها الجميع ويلتقون على أرضيتها.
ومن هذه الملتقيات العامة المهرجانات الفنية والاحتفالات الجماعية والاحتشادات الوطنية والأعياد الدينية والحدائق والمتنزهات والمسارح الغنائية المفتوحة وغيرها من الفضاءات المشتركة.
هذه كلها غابت وتقلص القليل منها الذي كان متوفرا في السبعينات. وبدلا من بناء الفضاءات العامة المشتركة قضت النخبة المهيمنة في السلطة والثروة، قضت على الفضاءات العامة وذهبت لبناء عالمها الخاص : الحديقة الخاصة ، ملعب التنس الخاص، المسبح الخاص،.. خصخصت كل ما يقع عليه يدها وأولها الثروة والسلطة ووسائل الرفاهية والعيش الرغيد وتركت لأغلبية اليمنيين الغبار وزحمة الباصات والقات المدعس في الأسواق الكالحة ونفايات الملابس الصينية درجة عاشرة التي تبدو وكأنها اهترائها صنع خصيصا للبشر المهترئين اللذين أنهكت أرواحهم وأجسادهم سلطات متوحشة ونخبة مهيمنة لا تشبع إلا من التراب.
يرى الحفار الأكبر في دهاليز النفس البشرية وعلاقات البشر فريدريك نيتشه أن حرية الاختيار محصورة فقط في المهيمنين على المجتمع. معنى استنتاج نيتشه أن الضجيج حول الحرية للجميع في ظل الهيمنة لا معنى له ومجرد كذبة كبرى.
وإذا كانت حرية الاختيار مشروطة بالهيمنة في مجتمع العبودية المقنعة حتى تتحقق الحرية بزوالها " الهيمنة " فإن الفرح متاح للجميع لأن إمكانية تجاوز الشرط الإنساني قائمة حتى لدى الإفراد المجردين من أدوات العيش ومتطلباته.
بإمكانهم تجاوز شرطهم الإنساني بواسطة الوعي الذي يرتفع بهم فوق كوابح الواقع. وبواسطة تصعيد الحاكمية الجديدة؛ حاكمية الأمل؛ على تفكيرهم وحياتهم.
 والأهم بواسطة التحرر من ثقالات الامتلاك والهيمنة التي تحول أرواح القادرين والمهيمنين الى أشباح فقيرة من كل معنى إنساني إذا اقتصر بعدها الإنساني على جمع المال والنفوذ والهيمنة وافتقدت الأبعاد الذاتية التي تعطي الإنسان معناه وجوهره ومغزى وجوده وجوهر إنسانيته.


في السبت 10 أغسطس-آب 2013 05:30:16 ص

تجد هذا المقال في صحيفة أخبار اليوم
https://akhbaralyom.net
رابط الصفحة
https://akhbaralyom.net/articles.php?id=72647