بين الثورة والإرهاب
د. عصام العريان
د. عصام العريان

عوَّل الانقلابيون على فعل الصدمة، وقرأوا رد فعل الإخوان المسلمين والقوى الإسلامية المتحالفة معهم قراءة خاطئة على عزل الرئيس المنتخب وتعطيل الدستور الذي أقرته الأمة. فقد توقعوا أن يصيب الانقلاب الإخوان بصدمة تفقدهم القدرة على مواجهة أخطر أزمة تواجه مصر منذ انقلابات "يوليو" المتتالية، بدءا بحركة الجيش في 23 يوليو 1952، مرورا بالانقلابات التي قام بها "عبد الحكيم عامر" ضد "عبد الناصر" وامتصها "ناصر" حتى نحر "عامر" في أعقاب الكارثة الكبرى التي حلت بالوطن بسبب قلة كفاءتهم وانعدام خبرتهم في إدارة شئون مصر والجيش والحياة السياسية والاقتصادية، حتى أضاعوا نصف الوطن في السودان، ثم أضاعوا "سيناء" في حرب يونيو 1967، ومعه هيبة مصر التي فقدتها أمام المقاتلين اليمنيين المدعومين من "السعودية" في حرب اليمن 1962، وقبلها في الانفصال الذي قام به القوميون البعثيون وشركاؤهم في سوريا عقب الوحدة التي كانت مفخرة عبد الناصر عام 1961. كانت خطة الانقلاب العسكري الدموي تعتمد على أحد بديلين: الأول: أن يقبل الإخوان المسلمون وحزب الحرية والعدالة بالانقلاب، ويعملوا في إطار خطة الطريق التي لم تختلف عن تلك التي أعلنها الرئيس الشرعي المنتخب "د. محمد مرسي" إلا في نقطتين: 1) عزل الرئيس وتعيين رئيس المحكمة الدستورية مكانه. 2) تعطيل الدستور تمهيدا لتعديلات ترضي القوى العلمانية وتزيل عنه الهوية الإسلامية. لذلك دعوا الدكتور/ محمد سعد الكتاتني لحضور الاجتماع الذي تم فيه إقرار الجميع دون مناقشة تذكر، وعندما رفض تم اعتقاله فجر اليوم التالي مباشرة، ومعه نائبا المرشد العام: أ.د. رشاد بيومي، والمهندس/ خيرت الشاطر، وكان مقرراً اعتقالي، وذهبوا إلى بيت أصهاري فلم يجدوني، ووجدوا د. حلمي الجزار، فتم اعتقاله مع الوجبة الأولى. وبدأت اتصالات جديدة بالدكتور/ محمد علي بشر ـ وزير التنمية المحلية ـ مباشرة من مساعد قائد الانقلاب اللواء/ محمد العصار، وبواسطة عن طريق آخرين لإقناعه بلقاء قائد الانقلاب "الفريق السيسي" للوصول إلى تفاهم يسمح ببقاء الحزب والجماعة في إطار جديد هو الحكم العسكري.. فشلت تلك الخطة التي كانت مفروضة من أمريكا والاتحاد الأوربي الذي بذل مندوبوه "بيرنز" و"ليون برناردينو"، والبارونة "أشتون" جهودا مضنية لإقناع الإخوان بقبول الأمر الواقع وفض اعتصام رابعة العدوية بصورة متدرجة، أو منع خروج مظاهرات من الميدان إلى أماكن أخرى... إلخ. وكان رد فعل الإخوان هو تقوية "التحالف الوطني لدعم الشرعية ورفض الانقلاب" وضم أطراف جديدة إلى الحراك الشعبي والثوري الرافض للانقلاب الفاشي العسكري، وتشكيل لجنة من التحالف للقاء كل الوسطاء القادمين من الخارج، والذين كانوا من وزراء خارجية دول أوربية مثل النرويج والإمارات العربية المتحدة وقطر وهولندا وغيرهم، مشارك فيها ممثلون عن أحزاب "الوسط" و"البناء والتنمية" و"الحرية والعدالة" و"الأصالة". وكان المنطق العقلي الذين يؤكد عليه وفد التحالف الوطني دائما هو: إذا كان المطلوب هو العودة إلى المسار الديمقراطي وتصحيح أي أخطاء حدثت مثل عدم استيعاب قوى عديدة في المرحلة الحالية، فإنه لا يمكن إقناع المواطنين المصريين بالذهاب مجددا لصناديق الانتخابات بصورة ديمقراطية إذا تم إهدار كل النتائج التي كانت في خمسة استحقاقات ديمقراطية حرة نزيهة بشهادة الجميع، وتحت حماية القوات المسلحة، وأثمرت انتخاب مجلس شعب تم حله، ثم رئيس جمهورية تم عزله، ثم مجلس شورى تم حله أيضا، وفي النهاية دستور تم تعطيله. وقال المهندس/ خيرت الشاطر للوفد رفيع المستوى الذي زاره ليلا في سجن "العقرب" "شديد الحراسة": إن هناك عنوانا وحيدا للتفاهم معه، هو رئيس الجمهورية المختطف، وهو رئيس مصر لأول مرة بإرادة حرة، وأنه من الخطورة بمكان إرسال رسالة إلى مصر والعالم العربي والإسلامي تفيد أن أية انتخابات حرة لا تقبل أوربا وأمريكا وقوى إقليمية بنتائجها سيتم دوما إلغاؤها. وصل الحراك الشعبي السلمي إلى مستوى غير مسبوق في اعتصامي "رابعة العدوية" و"النهضة"، مع تواصل المظاهرات والمسيرات التي تجوب شوارع القاهرة الرئيسية بمئات الآلاف، ووصلت إلى أسوار "وزارة الدفاع" و"المخابرات الحربية" و"قصر الاتحادية" و"السفارة الأمريكية"... إلخ.
فكان اللجوء إلى الخطة (ب) التي كانت معدة سلفا، وتم التمهيد لها بقصف إعلامي يتهم القوى الإسلامية والإخوان المسلمين بالذات بـ "الإرهاب". الثاني: قام قائد الانقلاب الفريق "السيسي" بمخاطبة المصريين مرة أخرى بعد ثلاثة أسابيع تقريبا في 26 يوليو 2013 يطلب منهم النزول لميدان التحرير مرة أخرى، ولكن هذه المرة لتفويضه تفويضا مطلقا شعبيا للتصدي للإرهاب، فتم الحشد كما تم في المرة الأولى في 30 يونيو. إذاً كان هذا هو الخطأ القاتل الذي وقع فيه الانقلابيون الذين فشلوا في فرض الأمر الواقع على القوى المعارضة للانقلاب العسكري. فقد شن الإعلام المصري الحكومي والمستقل والذي غاب عنه كل صوت أو وسيلة للمعارضة حربا على كل من يعارض الانقلاب ويصوره على أنه إرهابي حتى وصل الأمر إلى خلق استقطاب رهيب ينذر بتصدع مجتمعي خطير ونذر وصلت إلى داخل البيوت والأسر وأماكن العمل قسمت المصريين، ليس على أساس سياسي وخلاف طبيعي، ولكن على أساس ما قام به أحد المطربين "لكم دين ولنا دين، أنتم شعب ونحن شعب". ووصلت السخرية إلى مقدسات المسلمين، وبذلك كان من الطبيعي حرق المصاحف والمساجد وتدنيس أي مقدس، فلم يعد هناك مقدس بعد وصف الإسلام بالإرهاب. ووسط هذا الصخب الإعلامي والتحريض السافل ضد معارضي الانقلاب تم "فض اعتصامي رابعة والنهضة" بصورة وحشية، وارتكاب مذبحة لم يكن لها سابقة في تاريخ مصر أبدا قديما وحديثا. فتم بدم بارد ووحشية رهيبة قتل الآلاف من الأحياء والمصابين وداخل المساجد وفي المستشفيات الميدانية وغيرها، برصاص الجيش والشرطة وليس عبر البلطجية كما كان يتم خلال المرحلة الأولى، واعترف رئيس حكومة الانقلاب بأن تلك الوحشية تماثل ما فعلته "أمريكا" في "فيتنام" والاعتراف هو سيد الأدلة. وقد حذرت بنفسي من قبل، إن فض الاعتصامات سيؤدي إلى نتيجة مباشرة وهي أن تتحول مصر كلها إلى ساحة اعتصام، وهو ما تم بالفعل كرد فعل طبيعي لتلك المجزرة الرهيبة.. لم يتصور هؤلاء الانقلابيون أن تصوير المعارضة السلمية على أنها إرهاب لن يمكنهم من وأدها أو حصارها، وسيكون له آثار سلبية كبيرة على مصر وحكومتها الانقلابية. لقد تم انتهاك أبسط حقوق الإنسان، وهو الحق في الحياة، وسلامة الجسد، والحصول على الرعاية الصحية للمصابين، وحماية الأسرى حتى في الحروب بين الأعداء في ساحات القتال، وهذا ما لم يمكن تسويقه خارجيا، خاصة في أوربا، وينذر - طال الوقت أم قصر - بتقديم كل من ساهم وحرَّض وشارك في المذابح الرهيبة بالمحاكمة أمام المحكمة الجنائية الدولية، وهو ما دفع الدكتور البرادعي الذي يعرف القانون الدولي جيدا بالقفز من السفينة الغارقة في لجة العنف والعنف المضاد، فقرر الاستقالة والسفر خارج البلاد. والنتيجة الثانية التي لم يحسب لها الانقلابيون حسابا هي أنهم زرعوا في نفس كل مصري ومصرية، وكل قرية ونجع، وكل محافظة ومدينة ثأرا لن يندمل حتى يتم القصاص لهؤلاء الشهداء الأبرار الذين توزعوا على كل مدن مصر وقراها، وأصبح لكل طالب زميل استشهد، ولكل مواطن عزيز فقده بين الشهداء أو المصابين أو المفقودين أو السجناء. وقد نجح التحالف الوطني والقوى المعارضة جميعا بضبط سلوك المصريين في إطار السلمية، فلم يلجأ أحد إلى عنف مضاد، وظل سلوك المتظاهرين سلميا حضاريا، واضطرت السلطة الانقلابية إلى تقليل العنف الذي قامت به تدريجيا بحيث اتسع نطاق التظاهر خاصة مع بدء العام الدراسي الذي يمثل الوقود الطبيعي لكل الثورات، خاصة إذا تم انضمام العمال إلى الحراك الثوري بعد فشل السلطة الانقلابية في تحقيق الحد الأدنى من مطالبهم. كان من آثار وصف الحراك الثوري السلمي بالإرهاب تدمير الاقتصاد المصري الذي أصبح يعتمد على الهبات والمنح التي قدمتها الحكومات المتآمرة على إرادة الشعب المصري، والمذعورة من وصول نسائم الربيع العربي إلى بلدانها، مما يهدد نفوذهم ومصالح الأسر الحاكمة التي تسيطر على ثروات تلك البلاد الهائلة وتفقدها في أسواق المال العالمية، كما حدث في الأزمة العالمية الرهيبة في 2008، مما يقدره البعض بـ 70% من ثرواتهم. كان أبرز القطاعات التي تأثرت هو "قطاع السياحة" الذي خسر 80% من حصيلته، ومعه قطاع الطيران والنقل، خاصة السكك الحديدية؛ لأنه في خضم الحرب الوهمية على الإرهاب تم فرض الطوارئ وحظر التجول وتعطيل مرفق السكة الحديد، فارتفعت الأسعار، وحذرت معظم الدول مواطنيها من السفر إلى مصر، وألغت شركات السياحة العالمية أفواجها، فتم تدمير الموسم الصيفي وغالبا الشتوي. هي بالفعل حرب وهمية، فقد انتهى الإرهاب في مصر بمراجعات أهم الجماعات الإسلامية مثل "الجماعة الإسلامية" و "طلائع الفتح"، و "الجهاد" وأيضا مجموعات من "السلفية الجهادية" وقد قارب الإرهاب في العالم على الأفول، وخفتت طبول "الحرب على الإرهاب" بإعلان الرئيس الأمريكي "باراك أوباما" أن أمريكا قد سحبت جنودها من العراق، وفي الطريق إلى الخروج من أفغانستان، وكان كلامه صريحا في محاولة إغلاق سجن "جوانتانامو". كان أخطر نتائج وصف الثورة السلمية الرافضة للانقلاب العسكري الدموي الفاشي بالإرهاب هو اعتماد الحل الأمني، وإطلاق يد الشرطة والقضاء والنيابة العامة في القمع الوحشي واعتقال الآلاف، وإبقائهم في السجون والمعتقلات وتقديم الجميع إلى محاكمات ظالمة أمام قضاة منحازين تم شحنهم ضد الثورة. وكان من نتيجة ذلك هو إغلاق الطريق تماما أمام أي حوار، واعتماد سياسة الإقصاء السياسي والعزل التام لكل صوت معارض، وبذلك لا يوجد حل سلمي للأزمة الطاحنة التي تدمر حاضر الوطن ومستقبله في المنظور القريب، ففرض الانقلابيون معركة "صفرية" شعارها كما كان يقول "بوش الابن" :"إما أنتم معنا أو ضدنا". تصور قادة الانقلاب أنهم سيجلبون عطف العالم الغربي والشرقي وتأييده عندما يرفعون شعار "مصر تحارب الإرهاب" ولكنهم نسوا أن العالم كله عانى من الآثار الكارثية لتلك الحرب على الاقتصاد العالمي وما ترتب عليها من انتهاك بشع لحقوق الإنسان، حتى في أوربا وأمريكا نفسها. لقد بدأ كلينتون حربه على طالبان والقاعدة في أفغانستان من البحر، ثم كانت أحداث سبتمبر 2001 الكارثية الإجرامية التي بدأ مهندسون أمريكيون يتساءلون عن الحقائق العلمية المتعلقة بها، حيث انهار "برج ثالث" بجوار البرجين اللذين اصطدمت بهما طائرتان دون سبب واضح، ومن الناحية العلمية لا يكن تفسير انهيار البرجين بسبب الاصطدام بالطائرات والحرارة المنبعثة عن ذلك. انطلاقا من هذا العمل الإجرامي الغامض بدأت حرب "بوش الابن" واحتلال بلدين "أفغانستان" و"العراق" وتم إزهاق أرواح الملايين وتدمير الدولتين، وإنفاق تريليونات الدولارات، وجر العالم إلى مواجهة مع شبح غير محدد المعالم من "بالي" بإندونيسيا إلى "مدريد" بإسبانيا، ووصلت شرارة الحرب إلى أفريقيا وأوروبا والعالم العربي. شارك في تلك الحرب: سياسيون دمويون فاشيون، ورجال مخابرات من كل بلاد الدنيا، وقوات أمنية هائلة لضبط سلوك المواطنين في معظم بلاد العالم، ورجال أعمال يصنعون المزيد من أسلحة الدمار والأسلحة التقليدية "اليورانيوم المنضب"، والأخطر هم رجال الإعلام وملاك القنوات الفضائية والصحف والمجلات العالمية التي روجت لتلك الحرب، وأشاعت الخوف في نفوس مليارات البشر في كل العالم. انطفأ وهج الحرب على الإرهاب بوصول "أوباما" إلى البيت الأبيض، وبدأ التركيز على القضايا الداخلية في أمريكا، كالصحة وإصلاح الميزانية وتقييد حرية استخدام السلاح... إلخ. وفجأة وخلال العام الماضي تقريبا عادت المخاطر تطل برأسها من جديد في "مالي" و"جنوب الجزائر" ثم في "العراق" و"نيجيريا"، وأخيرا وليس آخرا في "نيروبي" بكينيا!! والسؤال: من يمول تلك الحرب على الإرهاب؟ ومن أين يأتي السلاح والرجال؟ وما دور المخابرات ورجالها في السعودية وغيرها؟ وبحساب الربح والخسارة سوف نجد أن أهم الدول التي كسبت بسبب استمرار الحرب على الإرهاب: 1- إسرائيل، التي خلطت الأوراق، واتهمت حركة المقاومة الفلسطينية وكل الشعب الفلسطيني بأنه يمارس الإرهاب، بينما هي دولة قامت في حقيقتها على يد إرهابيين مثل "بيجين" و"شامير" و"شارون"، ومارست ولا تزال تمارس الإرهاب ضد الشعب الفلسطيني. 2- إيران، التي تخلصت خلال تلك الحرب من أخطر عدوين مجاورين لها، وهما "صدام حسين" والعراق القوي الذي أصبحت هي صاحبة النفوذ الأعلى فيه، و"طالبان" الحركة الفتية السنية المتشددة التي حكمت أفغانستان حوالي 4 سنوات نشرت فيها بعض الطمأنينة. 3- السعودية، التي تحولت من دولة متهمة برعاية "السلفية الجهادية" والتيار السلفي كله الذي تعتبره أمريكا وأوروبا البيئة التي يتخرج منها الإرهابيون، وكان معظم المتهمين في أحداث سبتمبر من رعايا السعودية، وبدأت بعد ذلك تشجع شبابها المتحمس للذهاب إلى كل مناطق التوتر مثل "أفغانستان"، "العراق"، "اليمن"، وأخيرا "سوريا" للتخلص منهم بعيدا عن الوطن الذي لا يتحمل أية توترات بسبب "النفط"، والمشاكل الكامنة التي تنذر بانفجار اجتماعي شديد. والآن لن تستمر تلك الموجة العنيفة إلا إذا أدركت أجهزة المخابرات التي تقف وراءها خطورة تلك المواجهة التي لن تنتهي ولن يضر الإسلام شيئا استمرار تلك الحملات العنيفة؛ لأنه أقوى من أي تشويه، وقد انتصر الإسلام الوسطي المعتدل الذي يؤمن بالسلمية والعمل السياسي من أجل دولة وطنية دستورية ديمقراطية حديثة، رغم تلك الحرب على الإرهاب، وانتصر بتأييد شعبي هائل في "المغرب"، "تونس"، "مصر"، وستتوالى انتصاراته وعودته من جديد رغم التحديات الكبيرة؛ لأن الذين كسبوا الحرب على الإرهاب سيخسرون بإذن الله الحرب على الإسلام السلمي الديمقراطي المعتدل. (والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون) والله أكبر وتحيا مصر والمجد للشهداء الأبرار
في السبت 12 أكتوبر-تشرين الأول 2013 07:32:11 ص

تجد هذا المقال في صحيفة أخبار اليوم
https://akhbaralyom.net
رابط الصفحة
https://akhbaralyom.net/articles.php?id=73328