جريمة التهجير القسري من منظور شرعي
د. خالد البزايعة
د. خالد البزايعة

يعترف الإنسان بأن الحروب ظاهرة مصاحبة له منذ فجر التاريخ، ويعترف التاريخ كذلك أن الإنسان وراء هذه الحروب.. والحروب غالباً ما تخلف وراءها الكثير مما لا ينسى من الأعمال الوحشية، التي لا تمت للرحمة والإنسانية بصلة، فالقتل والتعذيب والاغتصاب والتدمير، كلها أعمال يحققها البشر، وهي ليست من رغباتهم في هذه الدنيا، والأصل أن يتمتع الإنسان بكامل حقوقه، أينما كان، فلا يجوز أن يحرم الإنسان من حقه، لأنه ينتمي لدين معين أو عرق معين أو جنسية معينة، فجميع الأديان السماوية عملت على المحافظة على حقوق الإنسان الأساسية، بينما تأتي الحرب اليوم بعمل وحشي، أخذ صفة العمل المنظم، هدفه نزع الإنسان من أرضه، وإبعاده خارج حدود وطنه، حيث تمثل هذا العمل بظاهرة غير إنسانية، كشفت عنها النزاعات المسلحة مؤخراً، تعتمد إجلاء أصحاب الأرض عن أرضهم، تحت التهديد والإكراه.

ويحتمل أن تكون الصورة عكسية أيضاً، بحيث تأتي الدولة المنتصرة ببعض رعاياها(مواطنيها) وتعمل على إفراغهم في الإقليم المحتل، طمعاً بالسيطرة على بعض المناطق اقتصادياً وجغرافياً، وقد تكون هذه الجريمة هي المقصد الأساسي والدافع الرئيس لقيام هذه الحرب.

يسمى هذا العمل الوحشي، بالإبعاد القسري أو التهجير الجبري، وما دام هذا العمل يخالف أبسط حقوق الإنسان، فإن الشرع الإسلامي الحنيف متفق مع باقي الديانات السماوية بأن الإبعاد القسري يشكل جريمة من الجرائم ضد الإنسانية، وكذا إن وقع الإبعاد القسري كأثر لنزاع مسلح دولي أو داخلي، فإنه يشكل جريمة حرب، وعلى كل الأحوال، يجب أن يقدم الآمر والمنفذ والمحرض للعقاب، كي تسود العدالة.

ومما يدمي القلوب بهذه الجريمة، أن سكان إقليم معين يجبرون أحياناً على مغادرة بلادهم وأراضيهم (مساكنهم) في أحوال جوية سيئة جداً، مما قد يؤدي (غالباً) إلى موت الكثير منهم خلال عملية الإبعاد، ناهيك عن الأطفال الصغار والشيوخ الكبار والمرضى، كيف تكون أحوالهم، فالإبعاد القسري مرفوض شرعاً وقانوناً.

الشريعة الإسلامية، تعتبر الإبعاد القسري للسكان المدنيين، جريمة عظمى بحق الإنسانية، لأن الإبعاد يمثل هدماً وتدميراً لأبسط الحقوق الطبيعية للإنسان في الحياة الدنيا، لذا جاءت النصوص الشرعية صريحة واضحة في اعتبار عملية الإبعاد القسري، التي تتم من قبل دولة الاحتلال، أو التي تحدث بصورة الفعل المتعمد أثناء اندلاع الحروب وسير العمليات العسكرية، فعلاً محظوراً شرعاً، وهو بذا يعتبر جريمة من الجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب، وهذه أهم النصوص التي تدل صراحة، على حرمة الإبعاد القسري: قوله سبحانه وتعالى: " لا يَنْهَاكُمُ الله عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ الله يُحِبُّ المقْسِطِينَ، إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ الله عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالمونَ".

فالله سبحانه وتعالى، في هذا النص الكريم، ينهى عن موالاة من أخرج المسلمين من ديارهم، أو ظاهر على إخراجهم (أعان على إخراجهم)، واعتبر توليهم ظلماً، بينما لم ينه عز وجل المسلمين عن بر الذين لم يخرجوهم ولم يعينوا على إخراجهم يهودا أو مسحيين.

فالإخراج هنا غير الخروج، إذ الإخراج يدل على مباشرة غير الخارج للإخراج، وهو بهذا فعل منهي عنه بنص صريح من القرآن، والنهي هنا يقتضي التحريم، لأنه أمر ولا صارف لهذا الأمر للكراهة.

بينما لم يمانع الشارع الحكيم من بر الذين لم يخرجونا من ديارنا، وإن كانوا من المشركين، والذين لا يقاتلوننا كذلك أن نبرهم، فالإخراج هو الإبعاد بعينه، فيكون الإبعاد محرماً.. يقول الله تعالى: "ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ".

فقوله تعالى :"وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ"، نص يفيد أن الإخراج محرم، وهذا وإن كان شرع من قبلنا، إلا أنه يعدّ شرعاً لنا، وذلك لأنه لم يرد في شرعنا ما يعارضه بل قد ورد في شرعنا ما يؤيده، كما ذكرت سابقاً، فالدليل هنا أن الإخراج والذي يمثل الإبعاد يعتبر فعلاً محرماً منهياً عنه، وهو بهذا جريمة من فعلها وجب عقابه.

وفي قصة بدء الوحي، يروي البخاري عن السيدة عائشة- رضي الله عنها- كيفية بدء الوحي، ومما قالت رضي الله عنها:".. فانطلقت به خديجة حتى أتت به ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى، وكان ابن عم خديجة، وكان امرأً قد تنصر في الجاهلية وكان يكتب الكتاب العبراني، فيكتب من الإنجيل بالعبرانية ما شاء الله أن يكتب، وكان شيخاً كبيراً قد عمي، فقالت له خديجة: يا ابن عم، اسمع من ابن أخيك، فقال له ورقة: يا ابن أخي ماذا ترى؟ فأخبره رسول الله خبر ما رأى، فقال له ورقة: هذا الناموس (أي جبريل أو الوحي) الذي نزل على موسى، يا ليتني فيها جذعاً (شاباً قوياً)، ليتني أكون حياً إذ يخرجك قومك، فقال رسول الله: أو مخرجي هم؟ قال ورقة: نعم ...". فقد ذكر عليه السلام "أو مخرجي هم"، على سبيل الإنكار، فلم يتصور حينها أن يخرجه قومه من بلده، والإنكار يدل على أن هذا الفعل غير معهود، فلأن ينزع الرجل من أرضه وأهله أمر غير معهود، يأتي على سبيل العقاب، فدل ذلك على أن الإخراج بذاته يعتبر فعلاً محرماً.

وفي الأثر قوله المشهور عليه السلام عند هجرته: "لولا أن قومك أخرجوني منك ما خرجت". ما كان يريد الخروج صلى الله عليه وسلم، لكنه أجبر على الخروج من مكة، فالإخراج له كان عقاباً.

بهذا يتبين أن الشريعة الإسلامية تحظر وتحرم سياسة وجريمة الإبعاد القسري للمدنيين، من سكان الأقاليم المحتلة، وذلك لأن أسس العدالة ومقاصد الشرع، ترى أن نزع المرء من أرضه فعل محظور منهي عنه، يمثل جريمة بذاته.

أكاديمي أردني

في الأربعاء 22 يناير-كانون الثاني 2014 06:19:16 م

تجد هذا المقال في صحيفة أخبار اليوم
https://akhbaralyom.net
رابط الصفحة
https://akhbaralyom.net/articles.php?id=74380