ولكم في البشير وصالح تجربة وعبرة !!!
محمد علي محسن
محمد علي محسن

كان الصادق المهدي وحكومته قد قررا منح جنوب السودان حكماً ذاتياً بدءا من السنة التالية 1988م؛ لكن فعلة مثل هذه, التي أقدم عليها رئيس حزب الأمة بكل تأكيد لم يستطب لها الكثير من المزايدين المتطفلين على السياسة؛ إذ تم الانقلاب على أول حكومة مدنية تحظى بشرعية شعبية ومن خلال تحالف ألوية وكتائب الجيش بقيادة الجنرال/ عمر البشير، والمصحف والمسجد وجماعة الدعوة بزعامة الشيخ/ حسن الترابي.

نعم.. انقلاب عسكري أطاح بحكومة المهدي سنة 87 م وكان مبرره السياسي والأخلاقي إنقاذ السودان من شبح تجزئة قادمة، ومن حكومة منتخبة مسعاها منح الجنوب سلطة وصلاحية على أقليته الإثنية والطائفية, لكن القائد العسكري الغيور جدا على وطنه ما أن وصل لسدة الحكم إلا وولج السودان برمته في أتون أزمات لا تنتهي، فمن انتفاضة الجنوب، إلى الجماعات الإسلامية المتطرفة، إلى انتهاكات جنجاويد دارفور غربا، إلى مشكلات الاقتصاد والإرهاب والعلاقات الدولية، إلى حصاره وضربه عسكرياً، إلى ملاحقة رئيسه دوليا وجنائيا ووالخ.

أخذ عصاه في يده, مستهلاً مسيرته المظفرة من تلك اللحظة الفارقة التي أطفأ فيها انقلابه وهج أول بارقة أمل بنظام ديمقراطي تعددي أعقب حقبة ظلامية رزح فيها السودان لوطأة حكم الديكتاتور/ محمد النميري, الذي امتطى مجنزرته ساحقا أول تجربة ديمقراطية تعددية مازالت في طور تشكلها بعيد استقلال السودان.

بَشَّر الجنرال عمر بفتح جديد للإسلام، ولكن هذه المرة من السودان، ومن تحالف كوفية العسكري وعمامة الفقيه، ألوية الجيش وعتادهم وسلاحهم وكتائب أربطة الجهاد ونفير المساجد. في النهاية وبعيد قرابة ربع قرن يحصل جنوب السودان على استقلاله التام بدلاً عن الحكم الذاتي، وإذا ما ظل البشير يقود البلاد وعلى منواله العسكري المنهك فإنني لا استبعد بتصاعد أزمات هذا البلد الكبير بموارده وثرواته ومؤهلاته الكافية لتنمية قارة، ففي حال وظل السودان مختزلاً بكوفية وعصا البشير فلا أندهش من رؤية إقليم دارفور وقد صار دولة ذات سيادة.

في اليمن تبدو الصورة أقرب إلى السودان، فهذا الرئيس المخلوع قاد وطنه وشعبه إلى كارثة حقيقية مازلنا نكابد الخروج منها حتى يومنا.. فقبل عقدين من الزمن وتحديداً في 20فبراير 94م وقع في العاصمة الأردنية "عمَّان" على وثيقة أسماها الفرقاء السياسيون بـ" وثيقة العهد والاتفاق" وبمقياس ذينك الوقت مثلت وثيقة القوى السياسية حلاً ناجعاً وعادلاً للأزمة المتفاقمة الناتجة عن فقدان الدولة المؤسسية وهو الأمر الذي عكس نفسه سلباً على إدارة الدولة الموحدة بطريقة السلق لبيضة الدجاجة.

رئيس البلاد مهر توقيعه أسوة بغيره ممن تقاطرت مواكبهم على المملكة وملكها الراحل/ حسين بن طلال، وقتها وصفت المصفوفة بوثيقة "إنقاذ وتأسيس للدولة اليمنية الحديثة" لكنه وبمجرد عودته بسلامة الله وحفظه إلى صنعاء إلا وصار كائناً هلامياً لا يُعرف أين رجله وأين رأسه؟ ومتى صدقه ومتى كذبه؟.

ولأن وثيقة العهد بندها الأول مثَّل فتيلة بارود, أدى اشتعالها إلى الانفجار الكبير، فحينما طُلب من الرئيس صالح البدء بتنفيذ هذا البند رد على مطالبيه بقوله شهيرة تم بثها تليفزيونيا "لست عسكرياً مع البيض أو سواه كي أقوم بالقبض على الجناة مرتكبي الاغتيالات السياسية وكي أقدمهم للمحاكمة".

بالطبع, المواطن العادي كان وقتها يدرك بأن القبض على مرتكبي الجرائم السياسية التي طالت 156سياسياً وقيادياً في الحزب الاشتراكي, واحدة منها استهدفت حليفه التجمع الوحدوي وهي الحادثة التي أودت بحياة د حسن الجريبي وإصابة رفيقه المناضل والمشاكس دوما الفقيد/ عمر الجاوي – بمثابة اللغم الموقوت في طريق تنفيذ بقية بنود الوثيقة, ربما كان وضع هذا البند الشائك بمثابة اختبار لمصداقية الرئيس، لذا بقي البيض ورفاقه متمسكون بها إلى آخر لحظة.

اندلعت الحرب أولاً في عمران وحرف سفيان بعيد خطاب صالح الحربي في ميدان السبعين ومن تجليات المأساة أن الخطاب تزامن مع يوم الديمقراطية في اليمن 27أبريل 94م ومن ثم في سائر الجبهات وللتاريخ كان مسرحها محافظات الجنوب وحدودها الشطرية السابقة مع إب وتعز والبيضاء ومأرب.

قُدَّر لصالح حسم المعركة ونفي شركائه وابتلاع مقدرات وعتاد دولتهم وزد فوقها وثيقتهم وبنودها، كان لهذا الانتصار العسكري أن أخرج الرئيس عن طوره ليعلن على الملا ما سماها بـ" وثيقة العار والخيانة" وهنا عادة ما أسجل استغرابي ودهشتي حيال قوله مثل هذه فيما هو أول الموقعين وأول الناكثين بالعهد؟!.

ألغى مجلس الرئاسة بعد أكبر عملية تعديل دستور في العالم كما شرع في أكبر عملية نهب وتدمير وإقصاء وتوريث في التاريخ، تخلص من حلفاء الأزمة والحرب والسلطة, فبمجرد أول استحقاق ديمقراطي نيابي شكلي كان القربان خروج الإصلاح من السلطة واستفراد تنظيم الرئيس بغالبية مقاعد البرلمان وبكامل حقائب الحكومة.

وبمضي عامين أقام الرئيس انتخابات رئاسية صورية لم يفسح المجال فيها لمرشح آخر ذي وزن وثقل مثل المناضل والسياسي/ علي صالح عباد مقبل- أمين عام الحزب الاشتراكي, مقاطع لانتخابات البرلمان, فلأول مرة في تاريخ الديمقراطية أن يكون المرشح المنافس من حزب الرئيس ووفقاً واختيار الرئيس, ولأول مرة يكون رئيس الدولة والحزب مرشحاً لحزب معارض وقبل أن يعلن حزب الرئيس اسم مرشحه, نظم انتخابات نيابية وفاز حزب الرئيس بغالبية مريحة وكاسحة ضمنت له وفي جيب رئيسه كل مفاتيح القرار.

تشبث بالسلطة ولدرجة أفقدته شركاءه وحلفاؤه وأصدقاءه وحتى أقرب أقربائه، الوحدة قتلها شر قتلة وعبث في نسيجها المجتمعي أفظع العبث ولحد التمثيل المشوه لصورتها المتبقية في نفوس وعقول المتوحدين.. الجمهورية انتهك مبادئها وقيمها أيما انتهاك.. الثورة وأهدافها صلبها على قارعة كرسيه.. الديمقراطية والانتخابات والحزبية ذبحها من الوريد إلى الوريد.. الاتفاقات، والحوارات، والإصلاحات، والآمال، والتطلعات في يمن جديد وأفضل, كلها وعود تبخرت في السماء، وكلها أحلام مستحيلة التحقق في ظل رئاسة لم تكن يوماً رئاسة لشعب ووطن ودولة ووحدة.

لذا كانت ثورة الشباب ضرورة لإنقاذ اليمن وكان الحوار طريقة لاستعادة بلد ولتصويب مسيرته.. الآن وبعيد عشرين سنة كاملة على نكث المخلوع بشركائه الموقعين معه على وحدة سياسية وعلى وثيقة لبناء الدولة اليمنية وفق معايير جديدة تقوم على توزيع السلطة والثروة والقوة على كامل أقاليم الدولة السبعة في ذاك الوقت.

عشرون سنة ليست بقليل بمحدد الزمن؛ ومع كونها ذهبت هباء منثوراً إرضاء لشهوة حاكم مهووس بالسلطة، ها نحن نعود ربع قرن من الزمن كي نفعل ما كان ينبغي فعله قبل الوحدة وبعدها، وأرجو أن ننجح هذه المرة وألَّا نفوت الفرصة الماثلة كي لا نعود ثانية وثالثة وعلى منحى المراحل الفائتة.
في الأربعاء 29 يناير-كانون الثاني 2014 11:55:11 ص

تجد هذا المقال في صحيفة أخبار اليوم
https://akhbaralyom.net
رابط الصفحة
https://akhbaralyom.net/articles.php?id=74472