عن الصادق الذي رحل !
طارق فؤاد البنا
طارق فؤاد البنا

تعز لم تنم, ولن تنام, فكوابيس الاغتيال باتت تحاصرها, وأضحت تخنقها, وصارت تلف يدها حول عنقها, وعنق أحلامها بالبقاء بعيداً عن فوضى طالت غيرها.

صادق منصور, هذا الاسم بالتحديد والذي بقي يعمل بصمت من خلف ستار جُلَّ حياته كان حديث الناس طيلة أسبوعٍ مليءٍ بالقهر والمرارة والوجع والألم, ومتخم بالحزن والأسى, وغارق في محيط من الدموع, وسيظل كذلك حتى أمدٍ بعيد!

بعبوة ناسفة نسفت بقايا الطمأنينة من قلوبنا رحل صادق منصور, رحل الرجل الذي لم يكن منحازا إلا لعملية السلم والتعايش, ولم يكن متطرفا إلا في وجه العنف, ولم يكن ميالا إلا إلى الحق, والإنسان, والضمير الصادق.

رحل الرجل الذي لم يتلوث بأيدلوجيات الأحزاب رغم أنه كان أميناً عاماً لحزب, و "غثاء" السياسة رغم أنه خاض معتركها منذ زمنٍ طويل, وعالم "الكذب" الذي تنمو فيه رِقاب الساسة وحبال كذبهم التي لم تعد قصيرة, فرحل لأنه صادق!

 رحل الرجل الذي كان ينتمي للمواطن البسيط, لحركة الشارع الطبيعية, لمظاهر الحياة العادية, لرائحة تراب هذا الوطن.

رغم الزي الشعبي التقليدي "الثوب والجنبية" الذي لا يفارقه, إلا أنني أجزم أن صادق هو أكثر رجال الإصلاح مدنية وسلمية وانفتاحا.

ورغم سمة الوقار التي تكسو وجهه, إلا أنه كان يحمل قلباً شاباً, مبتسما, بعمر الزهور, ينشر البهجة وينثر أريجه على الأرجاء.

حين حدد القتلة اسم "صادق منصور" كهدف قادم, فإنهم لم يكونوا حينها يستهدفون حزب الإصلاح وحده, بل استهدفوا عملية السلم والتعايش, ومنظومة الثقافة والمدنية, وأشياء أخرى.

كانوا يستهدفون تعز, التي لم تعبث بها أيادي الشيطان كما فعلت بغيرها.

كانوا يستهدفون أحلامنا, والأمنيات!

كانوا يستهدفون قلبي, و" كبدي" الذي تعب ومرض قبل أن يأتي الانفجار, وحين تأتي النتيجة قبل السبب, فاعلم حينها أنك أمام حالة استثنائية, تماماً كهذا الرجل الاستثنائي!

ستجد في الإصلاح وغيره شخصيات وزنها أدنى بكثير من وزن الشهيد صادق, وعطاؤها أقل بلا حدود من ابن منصور, لكنها تسير بسيارات مكدسة بالمرافقين, ومعبئة بالمسلحين, فيما كان الشهيد الفقيد يمشي وحيداً, وفي أحسن الأحوال مع ولده "خليل" الذي لم يحمل في يده حتى عصا, وكثيراً ما تعرض للانتقاد من عاشقي البهرجة ومحبي "الهنجمة", لكنه كان يرد بابتسامة, ويمضي للعمل, فلا وقت لديه للاستعراض الزائف!

أتذكر ذات يوم, في بدايات الثورة, وبالتحديد بعد المشكلة التي حدثت بيني وبين بشرى المقطري, كان كثيرون يطلبون مني مواصلة الرد والهجوم على بشرى, فيما كان الشهيد يتابع عن كثب, ثم أرسل لي" رجاءً خاصاً " بأن أتوقف, وأنه مهما اختلفنا مع بشرى, فإنها تظل رفيقة ثورة وشريكة نضال, وتوقفت فعلاً!

صادق منصور لم يكن مجرد قيادي في الإصلاح, بل كان نموذجاً حقيقياً وصورة مصغرة للإصلاح الذي نحب ونريد.

إصلاح العلم والسلم والثقافة والفكر والانفتاح والتعايش والفن والإبداع, والتمسك بالأصول أيضاً.

واليوم يرحل" صادق", يرحل لأن الزمن أصبح متخما بـ "الكذب" والكاذبين..

يرحل ابن "منصور" لأن الوقت صار مكتظا بـ "الانهزاميين", والهزيمة في قاموس الرجل كانت مفقودة ومعدومة!

اليوم يرحل الرجل جسداً, فيما أفكار الرجال تبقى حية, عصية على الرحيل!

رحل ساجدا لله, بعد أن كان قياديا فاعلاً في ثورة قامت على مستبد عمل بكل جد لتركيع الناس, وإجبارهم على السجود له, وهذا ما لا يقبله الرجال!

الرجال الذين كان يقف في مقدمتهم صادق, ولا زال طابورهم طويل جداً, طويل بحيث أنه سيجبر عبوات القاتل الناسفة على الملل, وسيشعر رصاصاته بالضيق والكآبة, لترتد وقتها إلى صدره, ليبقى صادق وأمثاله أحياء في صدورنا, إلى الأبد!

 

بقهر الرجال نودع رجلاً يستحق أن نبكيه بمرارة, وبدموع الشامخين نُخرج فزع أرواحنا وهلع نفوسنا لنُخفف شيئاً من هذا الوجع, وبهمة متعاظمة وإرادةٍ تكبر بمرور كل دقيقة أكتب الآن, وأخفي الدمعة وأحيلها حبراً يجدد العهد بالسير على مبادئ الشهيد, حيث الدولة المدنية هناك تنتظرنا, وهي هدفنا المنشود, رغم التضحيات, ورغم الآلام.

نم يا صادق, فروحك لا زالت فينا مستيقظة على الدوام!

في الإثنين 24 نوفمبر-تشرين الثاني 2014 05:20:40 م

تجد هذا المقال في صحيفة أخبار اليوم
https://akhbaralyom.net
رابط الصفحة
https://akhbaralyom.net/articles.php?id=77579