دولة المواطنة كغاية ثورية!!
محمد علي محسن
محمد علي محسن
 كل هذا النزيف والعنف والحروب والخراب، وكل هذه الثورات والانتفاضات والمطالبات السياسية المشاهدة اليوم وفي أكثر من بلد عربي، أعدها نتاج لغياب دولة المواطنة،فحين غابت الدولة الوطنية العادلة الجامعة لكل مواطنيها؛ كان ولأبد من بروز استحقاقات مجتمعية مختلفة، تجلت بمطالبات طائفية وإثنية وجهوية ولغوية وفئوية.
فالحال أننا إزاء أقليات عرقية ودينية ومذهبية ومجتمعية ظلت طوال عقود وقرون تعاني من التهميش والإقصاء والاغتراب الداخلي في بلدانها، ما أفرزت في النهاية الحالة الراهنة المشاهدة في العراق وسوريا واليمن ولبنان والسودان ومصر وليبيا وغيرها.
ولا تقتصر أزمة هوية الدولة على جمهوريات الربيع العربي، وإنما تشمل هذه الأزمة الدول الجمهورية أو الملكية الأخرى التي وإن نجت من تسونامي طال ولأول مرة رأس النظام السياسي، لكن ذلك لا يعني أنها ليست حاملة في احشائها لتلك الأزمات المجتمعية الطافحة الآن بقوة وحيثما توافرت لها اللحظة التاريخية كيما تعبر عن نفسها وبمختلف الوسائل المتاحة لها.
نعم، شيء محزن، ومفزع في ذات الوقت، فمهما بذلت من عناء الجهد والتفكير، فانك لا تعثر على دولة عربية واحدة تستحق أن تكون نموذجاً ديمقراطياً أو إنسانياً أو اقتصادياً أو عسكرياً.
فما من دولة عربية واحدة يمكن اعتبارها دولة مواطنة، فجميعها الجمهورية والملكية تماثل بعضها، من ناحية تخلف الدولة وأجهزتها التي مازالت تتفرد بالقمع والجبروت ومنطق الإخضاع والإذلال للأقليات المكونة لنسيج المجتمع، وكذا من جهة رفضها المطلق لأن تكون مجتمعاتها متساوية ومتشاركة في كامل الحقوق والواجبات السياسية والاقتصادية والدينية ودونما فروقات أو تمايز.
فسواء كانت أقليات إثنية أو جهوية أو مذهبية أو طائفية، فإن أنظمة الحكم السابقة أو الحالية لا يبدو أنها تحررت أو ستتحرر من هيمنة العقلية العصبية المسكونة بالتسلط والاستعباد ورفض قيم ومبادئ الدولة الحديثة.
فحيثما ذهبت ووليت وجهك في وطننا العربي الكبير في مساحته وكثافته وموارده، فلا تعثر إلا على مجتمعات ينهش بها الاستبداد والفساد والاضطهاد بكل أشكاله وصوره القبيحة.
 فهذه المجتمعات المتناثرة الممتدة من المغرب وموريتانيا على ضفاف المحيط الاطلنطي غربا وحتى سلطنة عمان واليمن الواقعتين على المحيط الهندي شرقاً، جميعها لم تبرح مرابع العشيرة والقرية والطائفة والقبيلة وحتى السلالة النقية،كما ولا تستحق أن نطلق عليها مجتمعات مدنية متحضرة منتمية للحضارة الإنسانية المعاصرة، شأنها شأن الشعوب الأخرى في أوروبا أو أمريكا أو آسيا.
دعكم من مقدمة ابن خلدون، ونظرته الفاحصة الثاقبة،عن جلافة وغلظة البدو العربي النازع في طباعه لحياة البداوة ورفضه للتمدن، بل ومقاومته الشديدة للنظام والتحضر، فالمشكلة لم تتبدل أو تتغير بتغير الأزمنة والأمكنة، إذ مازالت كامنة في عقلية التسلط والهيمنة الذكورية على كامل العشيرة والقوم، وان اتخذ الحكام القصور الفخمة بدلا من الخيمة والطائرة بدلا عن الحصان، والشعب بدلا من القبيلة والعشيرة، ففي المحصلة العقلية هي ذاتها الممانعة لكل أشكال التحديث والتطور.
أحدثكم هنا عن دول كاثرة معترف بها في الأمم المتحدة، ولدى كل واحدة منها علمها ونشيدها وجوازها وجنسيتها وحاكمها وجيشها وحكومتها ووالخ . لكنها، ويا للأسف، دولاً هشة ضعيفة، وقد أثبتت تجربة العقود المنصرمة، كم هي وهنة وغير محتملة لتظاهرة مجتمعية مطلبها الخبز والزيت والماء والدواء.
كما وبرهنت الأحداث حقيقة أن الدولة الهشة الضعيفة لا يمكن أن يعيش فيها غير مجتمع هش مفكك ومتناحر وغير مستقر، وإن ركب أحدث الصناعات اليابانية أو الكورية أو تملك جيشه لأحدث الأسلحة الأميركية أو الروسية أو الفرنسية.
وكل هذا الوهن ما كان سيظل صفة ملازمة لمجتمعاتنا لولا هيمنة العقلية البدوية المتسلطة التي تأبى التطور المتحرر من أغلال القرون الماضية، وكذا بسبب أن مجتمعاتها -وبرغم محاولاتها القليلة المتعثرة – لم ترتق بعد إلى مصاف المجتمعات الفاعلة والمؤثرة في صناعة قرارها الوطني والإنساني، فبرغم محاولاتها تلك إلا أنها في المحصلة أخفقت في إقامة دولة المواطنة، باعتبارها جوهر الأزمات السياسية المتفجرة طوال مسيرة الدولة الوطنية.
وحين أخفقت في أن تكون مجتمعات فاعلة، كان ولابد أن تفشل في أن تكون مجتمعات حاضرة ومساهمة في صناعة الحضارة الإنسانية.
السؤال القديم الجديد هو: هل ستكون الأحداث الدراماتيكية الحاصلة ستفضي لدولة مواطنة في نهاية المطاف أم أنها ستخلق واقعاً مغايراً أقل ما يوصف بأنه مكرساً لدولة الغلبة الطائفية والسلالية والجهوية والمذهبية؟.
فلا أخشى أكثر من الغدر بهذه الثورات الشعبية، فبدلا من تنال مبتغاها وتحقق دولة المواطنة المتساوية لجميع الفئات ودونما استثناء، تعيدنا جميعا إلى دولة الحاكم المطلق، والى سلطاته القمعية البوليسية، والى دولة الغلبة والجبروت.
أعتقد، بل أجزم، أنه وما لم تكن حصيلة هذه الثورات والحروب والمآسي، دولة مواطنة ولكل المواطنين وعلى اختلاف أعراقهم ومذاهبهم ولغاتهم وأديانهم وأفكارهم ومشاربهم السياسية؛ فإنه يستحيل إحلال السلام والتعايش والتنمية والتطور وسواها من مفردات الحضارة الإنسانية.


في الأربعاء 20 سبتمبر-أيلول 2017 06:56:49 م

تجد هذا المقال في صحيفة أخبار اليوم
https://akhbaralyom.net
رابط الصفحة
https://akhbaralyom.net/articles.php?id=80493