حاضرنا المهدور والمستقبل المنظور!
أ. محمد الدبعي
أ. محمد الدبعي


شكل الدولة!
عرّف ماركس العلمانية فقال هي"فصل الدولة عن الدين"، وتحدث أنجلز فقال: "إن تمكين المجتمع وتحقيق المساواة بين طبقاته وفئاته والحد من سلطات الدول ونخبها سيجعل الدولة مكانها المتحف!
فالأساس هو المجتمع.. وبالتالي إذا فصلت الدولة عن الدين، فما المنهج أو الفكر الذي سيملأ الفراغ؟!"
من خلال النظر والمشاهدة نجد أن مبادئ مختلفة ورؤى متعددة ملأت دساتير العالم مثل حقوق الانسان، العدالة والمساوة، ومبادئ الحكم الرشيد، الاشتراكية، البعثية، واليوم ما يسمى التشاركية الجماهيرية أو المجتمعية، ما يعطينا أنماطا من الدول:
النمط الأول: النمط الاستبدادي أو القهري، وفيه نموذجان:
- الدولة المركزية: وهي غير تشاركية.
- أشباه دول: وهي التي تتبنى الدين أساسا..
هذان النموذجان يعانيان من مشاكل جمة كالتسلط، الاستفراد بالسلطة، عدم الاستقرار، الظلم، الفقر، الاستغلال والفساد المالي والإداري، والتخلف النهضوي...الخ
النمط الثاني: التشاركي أو التوافقي الديمقراطي:
- الدولة العلمانية: وهي التي فصلت الكهنوت عن الدولة، وفيها تجد الاستقرار والعدالة والنهوض.
التمييز وحقوق الإنسان!
التمييز معناه اعتبار بعض البشر أقل شأنا من البعض.
وهو عموماً شيء مرفوض في المجتمعات المتحضرة، سواءً التمييز على أساس الدين أو على أساس أي شيء آخر كالجنس واللون واللغة والنوع، وتقييد حرية من ينتمون إليها من التمتع بحقوقهم المدنية والثقافية والاقتصادية والسياسية والاجتماعية، ومن ثم فهم يعانون من التمييز حتى في الخدمات الصحية أو الوظائف العمومية، والترقي في السلم الوظيفي، والعسكري بالذات.
ولقد كانت الأمم المتحدة معنية بهذه القضية منذ تأسيسها، وحظر التمييز موجود في جميع المعاهدات الدولية الرئيسية لحقوق الإنسان.
علمانية الدولة!
الدولة العلمانية: هي دولة ذات نظام حكم علماني، وهي رسمياً تضمن كونها محايدة تجاه القضايا المتعلقة بالدين. كما أن الدولة العلمانية تعامل جميع مواطنيها بشكل متساوٍ بغض النظر عن انتماءاتهم أو تفسيراتهم أو أفكارهم الدينية.
فالعلمانية هي الديمقراطية، إلا أنها تضيف إليها قانون حماية حقوق الأقليات.
ولا تعتبر العلمانية شيئاً جامداً، بل هي قابلة للتحديث والتكييف حسب ظروف الدول التي تتبناها، وتختلف حدة تطبيقها ودعمها من قبل الأحزاب أو الجمعيات الداعمة لها بين مختلف مناطق العالم.. كما لا تعتبر العلمانية ذاتها ضد الدين، بل تقف على الحياد منه..
التراشقات التي نراها اليوم بين الإسلاميين والإسلاميين أو بين الإسلاميين وغيرهم تعود بذاكرتنا إلى بدايات الثورة الفرنسية 1789، حين وجد الثوار أنفسهم في مواجهة دموية عنيفة مع سلطة الكنيسة.
ومن هنا تجلّى الطابع المعادي للدين ورجاله بعد أن حملوا السلاح مباشرة إلى جانب الإقطاعيين والملكيين ضد الثورة والثوار (كما يحدث اليوم بين أدعياء التدين المستثمرين باسمه وبين والمنادين بالدولة المدنية الديمقراطية العلمانية - التأريخ يعيد نفسه، لكنه عربيا هذه المرة). لذلك نشأت فكرة الفصل بين السياسة والدولة وبين الدين.
وإذا نظرنا إلى العلمانية في الممارسة السياسية فهي نشاط اقتصادي إنتاجي، علمي، تنظيمي، حقوقي، إداري ومالي.
العلمانية هي كفالة الدولة لحرية التعبير والفكر، حرية الإيمان والتدين والاعتقاد.. كل ذلك من أركان الديمقراطية التي لا تستقيم إلا بها، ومن يرفضونها فإنما يرفضون الديمقراطية جملة وتفصيلا، ويعادونها بدعوى الخصوصية الثقافية والاجتماعية للشعوب.
أشكال العلمانية:
التجارب السياسية للعلمانية كثيرة في سياق بناء الدولة:
- فالعلمانية اعتمدت اشكالاً سلمية للعلاقة بين الدولة والدين مثل:
- بريطانيا: المؤسسة الملكية ممثلة بالملك تقف على رأس الكنيسة وهو رمزها، ومجلس اللوردات يضم بين أعضائه عدداً من القساوسة.
- أميركا: مكتوب على أوراق بنكنوتها الدولار عبارة: نحن نثق بالإله، كرمز للتدين، من جهة أخرى نجد أن العلمانية لم تقف يوما عائقا دون وصول المتدينين الأميركيين إلى الحكم كالرئيس بوش الأب وبوش الابن، وكونداليزا رايس مديرة الأمن القومي ووزيرة الخارجية الاميركية، وهي قسيسة وابنة قسيس.
- كندا: دولة متعددة الديانات والعرقيات واللغات، وهي دولة ملكية دستورية علمانية، والملكة هي رمز التدين.
- ألمانيا: للأحزاب الدينية فيها نصيب من ممارسة السياسة، حتى وصولها إلى قمة السلطة، على قاعدة اعترافها بالدستور الذي يحتوي القيم و المبادئ العليا للدولة والتسليم له، كحزب الإتحاد المسيحي الديمقراطي والاجتماعي وتتزعمه المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل.
- فرنسا العلمانية من كبار حراس المسيحية، وأكبر داعمي الحملات التبشيرية.
بعد كل ما تقدم في الجزأين السابقين وفي هذا الجزء من المقال نصل إلى نتيجة مهمة أن إدارة معركة استعادة الدولة على أساس وطني ينبغي أن يتلازم مع إدارة حركة تنوير وتثقيف تساعد في صياغة المقدمات، وتبصير المجتمع بمخاطر التفرد بالقرار، والمحاصصة السياسية، وعباءة الدين الكهنوتية، والاستعلاء السلالي، وتبيان فائدة تحديد وفصل السلطات عن بعضها، كل ذلك يعين على تهيئة الأجواء لتقبل التغيير خصوصا أن معانات المواطنين قد زادت وفاقت القدرة على الاحتمال.
لقد أضاعت الأمة عقودا كثيرة من عمرها، وأهدرت حاضرها، وظلمت أجيالا متعاقبة بعدم تمكينها من حقوقها في ممارسة حريتها، مما جر بلادنا إلى مجاهل الظلمات ومحارق الفتن والحروب. فهل حان وقت الانتفاض الفكري والإصلاح الجذري لكل ذلك الخراب؟ هل آن أوان إزاحة وشاحات السواد الكهنوتية الجاثمة على صدر الشعب باسم الدين والسلالية؟؟؟!
نعم نعم نعم! حان الوقت، وآن الأوان لغرس شتلات الحرية والديمقراطية، لتزهر دولة مدنية حديثة يستظل الجميع بظل شجرتها الوارفة، ويستمتع بحقه الدستوري والمكفول شرعا في العيش بحرية وكرامة وإباء!
مسودة دستور اليمن الاتحادي بحسب مخرجات الحوار الوطني وكما قرأناه يبشر بالخير، فقد اعتمد على منهجية تشاركية المجتمع بصيغة توافقية إلى حد بعيد، مع مراعاة خصوصية هوية الشعب ولو اسما على شكل إكليشة ترضية وتسكن عواطفه. فإذا تم ذلك فسيكون دستورا لدولة مدنية حديثة مستقرة إن شاء الله تعالى.


في الثلاثاء 25 سبتمبر-أيلول 2018 07:57:56 ص

تجد هذا المقال في صحيفة أخبار اليوم
https://akhbaralyom.net
رابط الصفحة
https://akhbaralyom.net/articles.php?id=81367