أوهام عربية تبددها تفجيرات بغداد

2009-09-03 04:24:42


نقولا ناصر

إن التخبط الأمني الذي انعكس في إقالة قيادات أمنية بصورة متسرعة غطت حجة "الاختراق الأمني" الصحيحة التي اتخذت ذريعة لها على السبب السياسي الأقوى لها المتمثل في توجيه هذه القيادات الاتهام لإيران وأذرعها في العراق في المسؤولية عن تفجيرات بغداد في التاسع عشر من أغسطس، والتخبط السياسي فالدبلوماسي المتمثل في الانقلاب خلال أربع وعشرين ساعة على توقيع إعلان مشترك بالتعاون الاستراتيجي مع سوريا إلى اتهامها بأنها تحولت إلى "قاعدة خلفية لتدمير العراق"، والتخبط الإعلامي في توجيه الاتهامات المتناقضة عن تلك التفجيرات، هو تخبط فجر الوهم الأول الذي حاولت حكومة نوري المالكي تسويقه عربيا بأنها حكومة متوازنة قوية مؤهلة للاتفاق مع الدول العربية على ترتيبات ثنائية أو جماعية طويلة الأمد تمهد لتطبيع العلاقات العربية العراقية، خصوصا وأن حظوظ المالكي في الخروج منتصرا في انتخابات نهاية العام على شركائه السابقين في الائتلاف الشيعي الطائفي قد تضاءلت بعد أن وحدوا صفوفهم ضده، وبعد أن فشلت مناورته السورية في تعزيز رصيده الانتخابي.

كما بددت تفجيرات الأربعاء الدامي وهما عربيا ثانيا اشترى البضاعة الفاسدة التي يبيعها شركاء العملية السياسية الأميركية- الإيرانية في العراق للعرب بأن الأمن في العراق قد استتب لهم وأن على العرب أن يتعاملوا معهم كأمر واقع.

والوهم الثالث الذي كشفته تلك التفجيرات وينبغي له أن يدفن تحت ركام أنقاضها يوضحه المثال السوري، فالتوهم بأن وجود علاقات استراتيجية بين أي بلد عربي وبين إيران، وتعاطي مثل هذا البلد مع القوى والمليشيات الطائفية وقادتها في العراق المحسوبين بكل المقاييس على إيران، إنما يمثل حصانة سياسية كافية يمكنها أن تفتح أمام هذا البلد أبواب بغداد وهي ما زالت تحت الاحتلال الأميركي والهيمنة الإيرانية هو وهم بدده توقيت هذه التفجيرات بعد أربع وعشرين ساعة من توقيع "الإعلان المشترك" العراقي السوري على تأسيس مجلس لل"تعاون الاستراتيجي".

ثم الانقلاب العراقي خلال أيام قلائل على توقيع هذا الإعلان بتوجيه الاتهام العلني الصريح والمباشر لسوريا بالمسؤولية عن تلك التفجيرات لتنفجر أزمة دبلوماسية بتبادل استدعاء سفيري البلدين مما ينذر بتحويل التعاون الاستراتيجي إلى عداء استراتيجي، ليكتب ياسين مجيد المستشار الإعلامي لنوري المالكي، الذي وقع الإعلان مع نظيره رئيس الوزراء السوري محمد ناجي عطري، قائلا إن سوريا تحولت إلى "قاعدة خلفية لتدمير العراق" وإن "من المستبعد جدا أن تكون المخابرات السورية لا تعرف" بالتفجيرات ولترد عليه صحيفة تشرين السورية في افتتاحية لها بالقول إن العراق إنما يسعى إلى "تصدير الأزمات الداخلية إلى الآخرين" دون أن تفوتها الإشارة إلى أن "التوقيت والارتباط" بين الانفجارات وبين زيارة المالكي لدمشق "لم يكن عبثيا أو فرديا".

وإشارة تشرين هذه تقود إلى الوهم العربي الرابع الذي بددته التفجيرات، وهو أن العلاقات الاستراتيجية بين إيران وبين سوريا تستتبع أن تكون المصالح السورية والإيرانية متطابقة في العراق، وهي كما أثبتت مضاعفات التفجيرات غير متطابقة، فالخلاف الذي فجرته تفجيرات الأربعاء حول "البعث" بين بغداد وبين دمشق هو عنوان عراقي سوري مضلل للخلاف غير المعلن بين طهران التي ترى في البعث والمقاومة العراقية عدوا "إرهابيا" لها وللحكم الموالي لها في بغداد تحظى الحرب عليهما بالأولوية على مقاومة الاحتلال الأميركي وبين دمشق التي تدعو علنا إلى التراجع عن سياسة "اجتثاث" البعث وإلى ضمه والمقاومة العراقية إلى العملية السياسية لتحقيق مصالحة وطنية حقيقية في العراق لا غنى عنها لتسريع رحيل الاحتلال الأميركي.

لذلك توقفت تشرين دون تسمية إيران أو امتداداتها في العراق أو قيادة حكومة إقليم كردستان باعتبار هذه هي الجهات الوحيدة القادرة على تنفيذ تفجيرات "غير عبثية وغير فردية" بهذه الدقة والتنظيم والقدرة على اختيار التوقيت وهي الجهات التي لها مصلحة واضحة في عدم تحقيق مصالحة وفق الرؤية السورية، فإيران بالرغم من زيارة الرئيس السوري بشار الأسد لطهران في اليوم التالي لتوقيع إعلان "التعاون الاستراتيجي" مع المالكي لم يفتها أن هذا الإعلان قد وقع في إطار تفاهم أميركي - سوري يستهدف الوقيعة بينها وبين سوريا من جهة بقدر ما يستهدف من جهة ثانية تحجيم نفوذ إيران المهيمن على الحكومة المنبثقة عن الاحتلال في بغداد، وبالتالي فإن إيران هي المتضرر الأول من هكذا تطور في العلاقات السورية مع كل من واشنطن وبغداد وهي المستفيد الأول كذلك من تفجير أي تطور كهذا، وبالتالي أيضا فإن الولايات المتحدة مستفيدة من حدوث هذا التطور ومتضررة بالتأكيد من أي تفجير له.

أما قيادة إقليم كردستان التي أطار صوابها أن يوقع المالكي على إعادة تشغيل خط أنابيب نفط كركوك- بانياس وعلى "تأمين نقل النفط والغاز الطبيعي "العراقي" إلى الأسواق العالمية عبر سوريا" من كركوك، وهي القضية المتفجرة بين المالكي وبين هذه القيادة التي يحاول الاحتلال الأميركي احتواءها ويحذر من احتمال تسببها في "حرب عرقية" بين عرب العراق وبين أكراده، فإن الأضرار والفوائد لها غنية عن البيان. أما الاتهام الجاهز دائما للاحتلال الأميركي فإن أحدا لم يوجهه هذه المرة ولم يوجه أحد الاتهام أيضا ل"الموساد" الإسرائيلي بالرغم من أن هذا الاحتمال لا يمكن استبعاده كذلك.

وتبدد قراءة متأنية للرد السوري الرسمي على الاتهام العراقي وهما عربيا خامسا كانت الدبلوماسية السورية نفسها آخر ضحاياه، وهم ما زال يأمل عبثا في تطور نوعي ينقل النظام المنبثق عن الاحتلال الأميركي في بغداد إلى نظام سياسي يسوغ التطبيع العربي معه بينما ما زالت كل الشروط الموضوعية التي ولد فيها النظام وكذلك الأسباب السياسية لمقاطعته وعزله عربيا قائمة بل إنها تترسخ، وتأكد ذلك بما وصفته وكالة الأنباء السورية الرسمية "سانا" ب"تسرع الحكومة العراقية في إلقاء التهم جزافا" الذي كان مرده "خلافات داخلية" بين شركاء "العملية السياسية" من الوكلاء أو العملاء المزدوجين لشريكي الاحتلال الأميركي والإيراني، وهي العملية المستمرة برعاية الشريكين إياهما، أو كان "ربما "خلافات" خارجية" استنكفت "سانا" عن تحديدها لكن إشارتها كانت واضحة إلى الصراع الأميركي - الإيراني على النفوذ في العراق الذي كان العراقيون وقوده البريء منذ الغزو عام 2003 بقدر ما كانت العلاقات العربية- العراقية.

وكان التأكيد على "الحاجة الماسة أكثر من أي وقت مضى لتحقيق المصالحة الوطنية" العراقية في البيان الرسمي عن استدعاء السفير السوري من بغداد قد بدد وهما عربيا سادسا بأن النظام المنبثق عن الاحتلال مؤهل فعلا لإجراء مصالحة كهذه أصبحت مطلبا لكل الدول العربية كذريعة تضاف إلى حجة "الضغط الأميركي" لتسويغ الهرولة العربية نحو إضفاء شرعية عربية رسمية على الاحتلال والنظام المنبثق عنه.

فانقلاب المالكي السريع ضد "التعاون الاستراتيجي" مع سوريا لم يكن مفاجئا بل كان متوقعا، ليس فقط لأن المالكي كان قد أخل بوعود سابقة لتحقيق مثل هذا التعاون، وليس فقط لأنه توجه إلى دمشق مسايرة لضغوط أميركية في هذا الاتجاه تتعارض مع التزاماته الأصدق والأقوى تجاه إيران، وهو ما تأكد بالخلاف بين المالكي وبين رئيس مخابراته محمد عبد الله الشهواني الذي دربته المخابرات الأميركية والذي حمل إيران واذرعها المسؤولية عن التفجيرات والذي كان دفع المالكي لاستقالته شرطا مسبقا لما قالت دمشق إنه "فبركة" اتهامها بالتفجيرات.

بل كذلك لأن الاستحقاقات "الانتخابية" المقررة أواسط ديسمبر المقبل كانت ترجح غلبة ولاءات المالكي الإيرانية على اضطراره للخضوع للإملاءات الأميركية كون هذه الولاءات جاذبة أكثر للأصوات الطائفية، ليبدد انحياز المالكي وحزبه وقائمته الانتخابية للرؤية الإيرانية الطائفية للمصالحة العراقية، مثله مثل قائمة الائتلاف الشيعي الذي غير اسمه إلى الائتلاف "الوطني"، وهما عربيا سابعا توهم بأن تيار المالكي في "العملية السياسية" يمكن أن يؤسس لاستقلال عراقي عن الهيمنة الإيرانية، وقد نشا هذا الوهم تحت تأثير الاصطراع بين القائمتين على الحظوة في طهران باعتبار هذه الحظوة هي تذكرة المرور "الانتخابية" إلى الحكم في بغداد.

وكانت عودة التيار الصدري إلى حضن الائتلاف الطائفي الشيعي الذي ترعاه إيران بعد أيام من استقبال دمشق لزعيم هذا التيار مقتدى الصدر على أرفع مستوى وحثه على تبني الرؤية السورية لمصالحة وطنية حقيقية في العراق قد بددت وهما عربيا ثامنا،لأن هذه العودة مثلت انقلابا سريعا مماثلا لانقلاب المالكي على دمشق، وبالتالي على أي "شراكة" عربية مماثلة مع هذه القوى الطائفية، أكثر مما كان انقلابا على تحالف هذا التيار مع حزب الدعوة الذي وضع المالكي في رئاسة الوزراء. وقد تأكد الآن أن المالكي لم ينضم "حتى الآن في الأقل" إلى الائتلاف الطائفي الذي أعلن باسم "قائمة الائتلاف الوطني العراقي" الذي حشدت إيران فيه كل أذرعها العراقية استعدادا للانتخابات المقبلة ليس بسبب طائفيته بل لأنه يريد حصة "51%" لحزبه فيه، على ذمة الصدريين، مما يبدد أية أوهام عربية بان هذه القوى الطائفية التي ولدت في رحم إيرانية يمكن أن تخلع عنها جلدها الطائفي في أي وقت قريب.

وبالتالي فجرت تفجيرات بغداد وهما عربيا تاسعا-- يتجاوز أنقاض "الرموز السيادية" لحكومة الأمر الواقع الإيرانية- الأميركية في بغداد-- توهم بأن الحكومة المنبثقة عن الاحتلال يمكن أن تتخلى عن تبعيتها لقوة الاحتلال الأميركية وأن تنبذ ولاءاتها الإيرانية لكي تكون فعلا مؤهلة لإعادة العراق إلى حاضنته العربية الطبيعية، مما يؤكد حكمة الدبلوماسية العربية، والسعودية منها بخاصة، التي ما زالت ترى أنه من السابق لأوانه تطبيع العلاقات العربية مع بغداد.

خلال زيارته لبغداد في مارس الماضي "تفاخر" أمين عام جامعة الدول العربية عمرو موسى أنه "بعد ثلاثة أشهر من احتلال العراق كان له مقعد في الجامعة العربية" قبل أن يؤكد أيضا بأن هناك قرارا من القمة العربية بفتح السفارات في بغداد، وقد تأجل فتح هذه السفارات لأسباب "أمنية" لا "سياسية" بعد جريمة خطف السفير المصري واغتياله ونسف مقر الأمم المتحدة عام 2005، قبل أن يتحول "الضغط الأميركي" إلى حجة سياسية تسوغ التدفق الدبلوماسي العربي على بغدادمنذ عام 2008. <

الأكثر قراءة

المقالات

تحقيقات

dailog-img
كيف تحوّلت مؤسسات صنعاء إلى “فقَّاسة صراع” الأجنحة داخل جماعة الحوثي؟ (تحقيق حصري)

حوّل خلاف موالين لجناحين (متشددين) متعارضين داخل جماعة الحوثي المسلحة “جلسة مقيّل” خاصة- بالعاصمة اليمنية صنعاء خلال عيد الأضحى المبارك- إلى توتر كاد يوصل إلى “اقتتال” في “مجلس” مليء بالأسلحة والقنابل ا مشاهدة المزيد

حوارات

dailog-img
وزير الدفاع يتحدث عن الحرب العسكرية ضد ميليشيا الحوثي ويكشف سر سقوط جبهة نهم والجوف ومحاولة اغتياله في تعز ولقائه بطارق صالح وتخادم الحوثيين والقاعدة وداعش

كشف وزير الدفاع الفريق ركن محسن محمد الداعري، ملف سقوط جبهتي نهم والجوف، بقبضة ميليشيا الحوثي، للمرة الأولى منذ تعيينه في منصبه. وأشاد الداعري، في حوار مع صحيفة "عكاظ" بالدعم بالدور المحوري والرئيسي الذي لعبته السعودية مشاهدة المزيد