الصين في أفريقيا.. غزو مهذب (1ـ2)

2009-09-17 03:52:57

بدر حسن شافعي

(إذا كان البريطانيون أساتذتنا بالأمس، فإن الصينيين أخذوا مكانهم اليوم). . . بهذه الكلمات الموجزة عبّر تريفور نكوبي، أحد أكبر رجال الأعمال الصينيين في إفريقيا، عن رؤية بلاده للقارة السمراء، حيث إن الهدف بالنسبة لهم هو أن تكون لهم السيطرة الاقتصادية عليها تماما كما كانت الإمبراطورية البريطانية تهيمن عليها إبان الحقبة الاستعمارية، وهي نفس الفكرة المسيطرة على فكر حكام وقادة الصين الذين يرغبون في جعل إفريقيا ككل بمثابة دولة تابعة لبكين.

ويعود هذا التوجه الصيني لعدة أسباب من أهمها مواجهة مشكلة الزيادة السكانية من ناحية، ومواجهة مشكلة نقص الموارد الطبيعية من ناحية ثانية.

هذه الرؤية ترجمتها الحكومة الصينية عمليا خلال الآونة الأخيرة، حيث عملت على تكثيف حجم تبادلها التجاري مع إفريقيا ليرتفع من 11 بليون دولار عام 2000 إلى 73 بليون دولار عام 2007. ومع ارتفاع أسعار المواد الأولية قبل الأزمة المالية العالمية الأخيرة في نوفمبر 2008، أصبحت الصين أكبر مستثمر في إفريقيا وثالث شريك تجاري لها بعد الولايات المتحدة وفرنسا؛ ففي مطلع عام 2008، كانت هناك 800 شركة حكومية صينية تستثمر في القارة، وأنفقت هذه الشركات 6 بليون دولار في 900 مشروع خاصة في قطاع المواد الأولية.

ويبدو هذا التمدد الصيني المتسارع في إفريقيا واضحاً لمن يتجول في دول القارة ال 53 حيث يمكنه مشاهدة العلم الصيني الأحمر في أنحاء كثيرة من القارة، فضلا عن السفارات المنتشرة هنا وهناك (49 دولة)، كما صارت هناك نخبة صينية جديدة موجودة في عدة دول بالقارة تعتز بعاداتها وتقاليدها سواء من حيث المأكل أو الملبس، بل يكاد يكون هناك بعض المدن قاطنوها من الصينيين فحسب، ففي أنجولا على سبيل المثال، والتي تعد أكبر شريك تجاري للصين في القارة، هناك مدينة صينية كبيرة تعرف باسم المدينة الصينية China town، وأمثال هذه المدينة منتشرة في العديد من دول القارة، بل وتكاد تكون بعضها مقصورة على الصينيين حيث وجود بوابات خاصة، فضلا عن تقديم الأطعمة الصينية في المطاعم الموجودة بها، وغير مسموح لغير الصينيين الدخول إليها، كما يلاحظ أن الطرق الإفريقية تعج بالسيارات والحافلات الصينية رخيصة السعر، والتي تنقل المواطنين إلى المتاجر الصينية ذات الأسعار الزهيدة، كما أن خطوط السكك الحديدية التي تم إنشاؤها من قبل حكومة بكين تقطع مسافات كبيرة في مختلف أنحاء القارة، فضلا عن اتصالها بالموانئ على البحار لكي تحمل المواد الأولية إلى بكين، مقابل السلع المحملة من الصين إلى إفريقيا مثل لعب الأطفال.

ويطرح هذا التمدد الصيني الكثيف في إفريقيا عدة تساؤلات تحاول هذه الدراسة تناولها، وهي ما أسباب وأهداف الاهتمام الصيني بإفريقيا؟، وما المبادئ الصينية الحاكمة للعلاقة مع إفريقيا؟، وأي إستراتيجيات تتبعها الصين لتحقيق أهدافها بالقارة؟، وما أهم مناطق الانتشار الصيني في إفريقيا؟، وهل الدور الصيني بالقارة مكمل للدول الغربية أم منافس لها؟، ثم ما هي الفرص والتحديات أمام العلاقات الصينية الإفريقية؟.

أسباب الاهتمام الصيني بإفريقيا

لا يعد الاهتمام الصيني بإفريقيا وليد السنوات الأخيرة، وإنما يرجع لحقبة الخمسينات من القرن الماضي، وتحديدا مع بداية تدشين كتلة عدم الانحياز منذ مؤتمر باندونج عام 1956، والذي شاركت فيه مصر وست دول إفريقية أخرى، وكانت مصر من أوائل الدول التي اعترفت بالصين. وكان الاهتمام الصيني بإفريقيا في ذاك الوقت يرجع لاعتبار أساسي "سياسي" يتعلق بتأمين حصول بكين على تأييد الدول الإفريقية للاعتراف بها في مواجهة حكومة فرموزا "تايوان" واعتبار حكومة الصين الممثل الشرعي الوحيد للشعب.

ومنذ هذا الوقت تبلورت عدة اعتبارات حاكمة للتوجه الصيني صوب إفريقيا بعضها اقتصادي، والآخر سياسي، فضلا عن الاعتبارات السكانية والثقافية.

بالنسبة للاعتبارات السياسية، يلاحظ أن هناك اعتبارين أساسيين في هذا الشأن، الأول: سحب مزيد من التأييد الإفريقي لتايوان، واعتبار مبدأ الصين الواحدة هو الأساس الحاكم في هذا الشأن، بل هو معيار التعامل مع أو ضد الدول الإفريقية. ولقد ظهر هذا الاهتمام بوضوح منذ ستينات القرن الماضي بعدما أظهر تصويت الدول الإفريقية داخل الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1963 عن تأييد 17 دولة لتايوان مقابل 14 دولة للصين. لكن تعدلت هذه النسبة بعد ذلك كثيرا، ففي عام 1971 حصلت بكين على تأييد 26 دولة إفريقية بشأن أحقيتها في المقعد الدائم بمجلس الأمن. وفي عام 1975 اعترفت 37 دولة إفريقية بها مقابل 8 فقط لتايوان.

ومنذ التسعينات رفعت الصين مبدأ (الصين الواحدة) في التعامل مع الدول الإفريقية، وعملت على استخدام ورقة المساعدات الاقتصادية في هذا الشأن، ونجحت في سحب اعتراف ست دول بتايوان هي: إفريقيا الوسطى، وغينيا بيساو، والنيجر، وليسوتو، وجنوب إفريقيا، ثم ليبيريا في عام 2003 وذلك قبل نشر قوات الجيش الصيني للمساعدة في تنفيذ مشاريع المياه في البلاد ، والآن تراجع عدد الدول الإفريقية التي تعترف بتايوان إلى أربع دول فقط هي: بوركينا فاسو، وساوتومي وبرنسيب، وجامبيا، وسوازيلاند.

أما الاعتبار الثاني، فهو رغبة الصين في الحصول على الدعم الإفريقي في المحافل الدولية كالأمم المتحدة وغيرها لاسيما فيما يتعلق بملف حقوق الإنسان في الصين الذي يعد أحد القضايا الشائكة في العلاقات الصينية الأمريكية، خاصة داخل لجنة الأمم المتحدة لحقوق الإنسان، كما أنها ترغب في وجود حشد إفريقي يكون بمثابة دعم دبلوماسي كبير لها في أية مواجهة محتملة لها مع الدول الكبرى سواء داخل الأمم المتحدة أو مجلس الأمن.

وفيما يخص الاعتبارات الاقتصادية، فهي عديدة ويتمثل أبرزها فيما يلي:

1 الرغبة الصينية في الحصول على البترول والموارد الطبيعية الأخرى من إفريقيا خاصة الخشب والأقطان التي تستخدم في صناعة المنسوجات، لاسيما وأن الثورة الصناعية الكبيرة التي شهدتها الصين جعلتها -رغم إنتاجها للبترول -دولة مستوردة له منذ عام 1993، وبحلول عام 2004 أصبحت الصين ثاني أكبر مستهلك للبترول بعد الولايات المتحدة، ويتوقع أن يزداد هذا الاستهلاك سنويا بمقدار 10%. ومعنى هذا أن بكين إذا كانت تستورد ثلث احتياجاتها من البترول والغاز الآن، فإن هذه النسبة ستصل إلى 60% بحلول عام 2010. ونظراً لأن البترول الآسيوي لا يفي باحتياجاتها، كما أن بترول الشرق الأوسط تستحوذ عليه الولايات المتحدة والدول الأوربية؛ فإن الصين تبحث عن مصادر أخرى، ووجدت ضالتها المنشودة في البترول الإفريقي، فهي تحصل الآن على25% من احتياجاتها النفطية من القارة (6)، وهناك سبع دول إفريقية تمد بكين بهذه النسبة، وهي الجزائر، والسودان، وتشاد، والجابون، وغينيا الاستوائية، وأنجولا، ونيجيريا ، كما أنها تستورد 70% من احتياجاتها الخشبية من الغابات الإفريقية، فضلا عن استيرادها كميات كبيرة من الحديد والبلوتينيوم من زيمبابوي وجنوب إفريقيا.

2 كبر حجم السوق الإفريقية لتسويق المنتجات الصينية، إذ يبلغ حجم هذه السوق 900 مليون نسمة، ومن ثم صارت الصين الشريك التجاري الثالث لإفريقيا بعد الولايات المتحدة وفرنسا بالرغم من أن حجم التجارة الصينية مع إفريقيا لا يزال محدودا، إذ لا يشكل سوى 1% من إجمالي حجم التجارة الخارجية للصين.

لكن هذا التبادل يشهد تحسنا من عام لآخر، فوفقا لبيانات وزارة التجارة الصينية، ارتفع حجم التجارة من 40 مليار دولار في عام 2005 إلى 106. 8 مليار دولار في عام 2008 (8)، بزيادة بلغت أكثر من 250% ، في حين كان المعدل مليار دولار فقط في عام 1999. وبعبارة أخرى، فقد زاد حكم التبادل التجاري الصيني مع إفريقيا بأكثر من 50 ضعفا خلال تسع سنوات فقط ( 1999-2008).

أما بالنسبة للاعتبارات السكانية، فهي ترتبط بالزيادة الكبيرة في حجم السكان في الصين، حيث ارتفع عدد سكانها من 500 مليون نسمة إلى 1. 3 مليار نسمة خلال خمسين عاما فقط، ومن ثم كانت هناك حاجة لبحث توطين هؤلاء في أماكن متفرقة من العالم، ومن بينها إفريقيا التي اعتبرها العديد من القادة الصينيين دولة تابعة لبكين من خلال فكرة توطين الصينيين في هذه القارة، خاصة وأن هذه الفكرة قديمة، ومفادها توطين هؤلاء الصينيين في القارة وتزاوجهم من الأفارقة بحيث يكون هناك نسل صيني يحل محل الجنس الزنجي الإفريقي Negro race الرديء من وجهة نظرهم. ولذا تم وضع هدف إستراتيجي من قبل المسئولين في بكين مفاده الاحتياج لتوطين 300 مليون صيني في إفريقيا لحل مشكلة السكان والتلوث لاسيما وأن عدد المستوطنين الصينيين في القارة لا يتعدى الآن 750 ألف شخص.

ومن ناحية رابعة، تعد الاعتبارات الثقافية عاملا مهما، فثمة رغبة صينية في نشر الثقافة الكونفوشيوسية في العديد من الدول الإفريقية خاصة الدول الحبيسة مثل رواندا وبوروندي.

ويلاحظ أن بعض هذه الاعتبارات السابقة قد تكون أكثر أهمية في بعض الأحيان من بعضها الآخر مثل الاعتبارات السياسية في بداية العلاقة، ثم صارت الغلبة للاعتبارات الاقتصادية، مع عدم تجاهل الاعتبارات السكانية والثقافية.

مبادئ ومحددات العلاقة الصينية مع إفريقيا

عملت الصين على الاستفادة من التجربة المريرة التي مرت بها الدول الإفريقية مع الدول الاستعمارية والدول الكبرى مثل الولايات المتحدة، سواء أكان هذا قبل الاستقلال أو بعده، ومن ثم صاغت مجموعة من المبادئ المحددة لعلاقاتها مع إفريقيا، والتي قد تجعلها أكثر قبولا ليس لدى النخب الإفريقية فحسب، وإنما لدى الشعوب الإفريقية أيضا.

ومن أهم هذه المبادئ والمحددات ما يلي:

1 التأكيد على أن الصين تمثل نمطا مختلفا ومستقلا عن القوى الكبرى الأخرى في المحيط الدولي خاصة بالنظر لكونها دولة نامية تتفهم احتياجات إفريقيا التنموية، فضلا عن كونها مؤهلة للدفاع عن مصالح القارة في المحافل الدولية.

2 التركيز على التعاون والاستثمار الاقتصادي مع الدول الإفريقية التي لا تحظى بقبول الغرب مثل السودان وزيمبابوي وأنجولا.

3 عدم التدخل في الشئون الداخلية للدول الإفريقية حتى وإن كانت هذه الدول تنتهك حقوق الإنسان؛ فالمبدأ الصيني في هذا الشأن هو ما عبّر عنه نائب وزير الخارجية الصيني، زو وينونج، الذي أشار إلى أن "التعامل مع إفريقيا يتعلق بالجوانب العملية وليس حقوق الإنسان؛ فالتجارة تجارة، ولن تتدخل بكين في الشئون الداخلية حيث نحاول الفصل بين التجارة والسياسة"

4 التأكيد على أن العلاقات مع إفريقيا تستهدف تحقيق الربح والمنفعة المتبادلة للجانبين.

5 التأييد المتبادل والتنسيق داخل المنظمات متعددة الأطراف بما فيها الأمم المتحدة لتأييد المطالب العادلة للطرف الآخر.

6 تنوع العلاقات في كافة المجالات وعدم اقتصارها على الجانب الاقتصادي أو التجاري فحسب.

7 التأكيد على مبدأ الصين الواحدة.

ومن هنا يلاحظ أن الصين تحرص على عدم وجود شروط سياسية لعلاقاتها مع إفريقيا خاصة في مجال تقديم القروض والمنح، فضلا عن كونها ترفض الأسلوب الغربي القائم على الإفادة دون الاستفادة،علاوة على مبدأ عدم التدخل في الشئون الداخلية الذي كان أحد المشاكل الرئيسية في العلاقات الإفريقية الدولية حيث كانت الدول الإفريقية تتهم الدول الكبرى بالتدخل دون وجه حق في شئونها الداخلية. وربما هذا نوع من الذكاء الصيني الذي جعلها تفوز بعقود استثمارية في الدول التي لا تحظى بقبول دولي مثل السودان وأنجولا التي تعد أكبر شريك تجاري للصين في إفريقيا.

 

الأكثر قراءة

المقالات

تحقيقات

dailog-img
كيف تحوّلت مؤسسات صنعاء إلى “فقَّاسة صراع” الأجنحة داخل جماعة الحوثي؟ (تحقيق حصري)

حوّل خلاف موالين لجناحين (متشددين) متعارضين داخل جماعة الحوثي المسلحة “جلسة مقيّل” خاصة- بالعاصمة اليمنية صنعاء خلال عيد الأضحى المبارك- إلى توتر كاد يوصل إلى “اقتتال” في “مجلس” مليء بالأسلحة والقنابل ا مشاهدة المزيد

حوارات

dailog-img
وزير الدفاع يتحدث عن الحرب العسكرية ضد ميليشيا الحوثي ويكشف سر سقوط جبهة نهم والجوف ومحاولة اغتياله في تعز ولقائه بطارق صالح وتخادم الحوثيين والقاعدة وداعش

كشف وزير الدفاع الفريق ركن محسن محمد الداعري، ملف سقوط جبهتي نهم والجوف، بقبضة ميليشيا الحوثي، للمرة الأولى منذ تعيينه في منصبه. وأشاد الداعري، في حوار مع صحيفة "عكاظ" بالدعم بالدور المحوري والرئيسي الذي لعبته السعودية مشاهدة المزيد