26 سبتمبر.. الثورة الخالدة في وجدان اليمنيين..

2019-09-25 08:42:27 أخبار اليوم/ تقرير


لكل ثورةٍ أبطالها، لا يختلف الأمر في كون أسمائهم قد ملأت الدنيا وشغلت الناس، أو جنودٌ مجهولون لا يعنيهم غير قضيتهم والتضحية في سبيلها، دون اكتراث لمجدٍ لامع أو طمعٍ في سيرة تنقلها الألسن ويسير بها الزمان، لكن تبقى تضحياتهم قبسًا يلهب حماس الأجيال ويلهم الهمم المتطلعة للانعتاق من بؤس الدكتاتوريات المزمنة القابضة على مصائر الشعوب بالنار والحديد.
في هذا التقرير نحاول أن نستعرض- بما يتسع له المقام- سيرة موجزة لثلاثة من أبرز القيادات المؤثرة في مسار ثورة 26 سبتمبر 1962م، التي كانت بؤرة التحوُّل في التاريخ اليمن الحديد.
علي عبد المغني.. هندَّس للثورة وصاغ بنودها وأهدافها الستة، وكان أول شهيدٍ سقاها بدمه..
الحديث هنا عن المناضل الجسور اللواء/ علي عبد المغني- أحد أبرز قيادات ثورة 26 سبتمبر 1962 وأول شهدائها- كان هو نفسه نواة تنظيم الضباط الأحرار الذي شكّله مع مجموعة من رفاقه الأحرار، وكان محور الارتكاز الذي قام عليه التنظيم حينها.
ولد اللواء/ علي محمد عبد المغني بمديرية السدة محافظة إب عام 1935م، تلقّى تعليمه بمدرسة الأيتام بصنعاء، وكان واحدًا من كثيرين من أترابه، ممن يرون ضرورة القيام بتغيير للوضع السياسي في اليمن الذي يهيمن عليه أرستقراطية سلالية أذاقت البلاد ويلات التخلف والجهل والمرض..
ومن منطلق هذا الدافع كانت مشاركاته الأولى في الأنشطة الطلابية السياسية في حدود المتاح في تلك الفترة، وبعد تخرجه من مدرسة الأيتام التحق بالكلية الحربية وفيها برز دوره المحوري في المشاركة في تأسيس نواة عسكرية تأخذ على عاتقها الترتيب للإطاحة بالنظام الثيوقراطي القائم، أطلق على تلك المجموعة من العسكريين "تنظيم الضباط الأحرار" ويضم طيفًا من خلفيات مختلفة من شركاء النضال الثوري.
وتولّى علي عبد المغني مسؤولية إحدى خلايا هذا التنظيم، وتضم عشرة أعضاء، وكان له دور بارز في التنسيق مع زملائه، في تحديد ساعة الصفر، وإعلان قيام الثورة، وعيّن عضوًا فيما عرف بـمجلس القيادة، وهو مجلس قيادة الثورة، الذي شكّل من خمسة أعضاء؛ هم: المشير عبد الله السلال، وعبد الله جزيلان، والأستاذ/ عبد السلام صبرة، ومحمد إسماعيل المنصور، وغيرهم.
بعد أيام من قيام الثورة والجمهورية، كلّف بقيادة حملة عسكرية إلى منطقة "حريب" في مأرب لمواجهة الحشود الملكية، التي بدأت تستعد لإعلان الحسن بن يحيى حميد الدين، إمامًا بمساعدة خارجية، وقد استشهد علي عبد المغني في هذه المعركة وكان ذلك في أكتوبر 1962م.
وقد كان استشهاده صدمة كبيرة لكل الثوار ومؤيدي الثورة في الداخل والخارج، وحافزًا لرفاقه على مواصلة الدرب الذي رسمه لنفسه في سبيل الجمهورية والانعتاق من أغلال الحكم السلالي الجهول.
الآن بعد أكثر من نصف قرن من استشهاد بطل الثورة علي عبد المغني، ما يزال اسمه حاضرًا في الأذهان، حيث لا تكاد تُذكر ثورة 26 سبتمبر إلا ويُذكرُ معها علي عبد المغني، وظل اسمه أيقونة ثورية خالدة تلهم الثوار اليمنيين حتى يوم الناس هذا.
عبد الله السلال


المشير/ عبد الله السلال.. فارس الثورة الأكثر حضورًا في واجهة الأحداث التي رافقت ثورة 26 سبتمبر، وأول رئيس للجمهورية العربية اليمنية، فترة امتدت خمس سنوات انتهت بانقلاب عسكري.
ولد عبد الله السلال بمديرية سنحان عام 1917م، وكان هو الآخر ممن ألتحقوا بمدرسة الأيتام في صنعاء، حين تخرج منها تم ابتعاثه إلى العراق ضمن بعثة عسكرية أرسلها الإمام يحيى، وتلقّى تعلمية في الكلية العسكرية العراق وتخرّج منها برتبة ملازم ثانٍ.
أما عن بداية مشواره الثوري كان بانخراطه في ثورة 48 التي أطاحت بالإمام يحيى، وكان ضمن الثوار الذين سجنهم الإمام أحمد بعد نجاحه في استرجاع الحكم والقضاء على قيادات الثورة الدستورية، ولبث في السجن حتى أفرج عنه البدر- نجل الإمام أحمد وولي عهده- ثم ما لبث أن عينه رئيسًا لحرسه بعد أن نجح السلال في كسب ثقة البدر، الذي لم يكن يعلم أن رئيس حرسه (السلال) على صلةٍ سرية بتنظيم الضباط الأحرار.
وفي 26 سبتمبر،بعد أسبوع واحد من وفاة الإمام أحمد وتسلّم الإمام البدر الحكم قامت ثورة 26 سبتمبر على النظام الإمامي الملكي في اليمن من قبل مجموعة من الضباط في الجيش، حيث أيّدها بعض من مشائخ بعض القبائل ودعمت دعمًا عسكريًا واسعًا من الجانب المصري ليصبح أول رئيس للجمهورية العربية اليمنية شمال اليمن.
شهرة السلال كقائد عسكري ثوري وأول رئيس للجمهورية العربية اليمنية، لم تشفع له من أن ينقلب عليه خاصته، من الضباط والعسكريين، حيث طويت صفحة رئاسته بعد انقلاب ضباط الصاعقة والمظلات في نوفمبر 1967م، في أثناء زيارته للعراق، انتقل بعد للإقامة في القاهرة، قبل أن يعود إلى صنعاء عام 81، توفي بعدها بـ 13 سنة في منزله بصنعاء.
محمّد عبد الله العُلُفي


الفدائي المناضل/ محمد عبد الله العلفي.. سيرته أشهر من أن تُخفى، ولد في صنعاء، وتحديدًا في بلدة "دار سلم" وكان ثالث ثلاثة ممن خططوا ونفذوا عملية اغتيال الإمام أحمد بـ"مستشفى الأحمدي" الذي تحوّل اسمه بعد تلك المأثرة إلى "مستشفى العلفي" بالحديدة، في مارس عام 1961م.
ولد محمد عبد الله العُلُفي في قرية "دار سلم بصنعاء"، وكان أحد الثلاثة المشتركين في محاولة اغتيال الإمام أحمد حميد الدين، أثناء زيارته للحديدة، مع زميليه محسن الهندوانة، وعبد الله اللقية.
وتقول الرواية المتداولة إن العلفي كان يُضمر في داخله فكرة اغتيال الإمام أحمد، وقد أتت فرصته هذه حين بلغه نِيَّة الإمام بزيارة "مستشفى الأحمدي" الذي كان يرقد فيه بعض حرسه، فأعد خطة اغتياله مع رفيقيه عبد الله اللقية، ومحسن الهندوانة حول استراتيجية التنفيذ. حيث استقر رأي الثلاثة على إطفاء أنوار المستشفى ثم الشروع بتصفية الإمام بالرصاص، وهو ما تم بالفعل، حين بدأ المناضلون الثلاثة بتنفيذ خطتهم حسب الاتفاق في تمام الساعة الثامنة والنصف من مساء الأحد، 27 مارس 1961، بإطلاق وابل من الرصاص على شخص الإمام الذي بدأ ينزف وتظاهر بالموت، بينما لم يكن قد مات في حقيقة الأمر، وكانت هذه حيلة ذكية منه، لئلا يُجهز عليه الثوار وقد تمكنوا منه.
في ذات الآن اندفع حرس الإمام الذين كان العلفي قد أقنعهم بالمكوث خارج المستشفى في بادئ الأمر، وقبضوا على رفيقيه الهندوانة واللقية، بينما فرّ العلفي إلى منزلٍ قريب ما لبث أن أحاط به حرس الإمام والغوغاء من رعيته في محاولة لإجباره على تسليم نفسه، وهو ما قابله بالرفض وشرع في مقاومتهم بما تبقى له من ذخيرة، وقد تضاربت الروايات كثيرًا حول الطريقة التي مات بها، بين مشككٍ ومؤيد.
لكن مهما يكن، يبقى العلفي ورفاقه ظاهرة شجاعة في مقاومة الإمامة مهما كانت المخاطر جسامًا، لأنهم تجرأوا على فعل ما كان يبدو مستحيلًا وعصي المنال.
جنود مجهولون
بلا أدني شك، ليس هؤلاء كل الذين قام على سواعدهم بنيان الثورة، فثمة آلاف لا يقلُّون عنهم بأسًا من جنود الثورة المجهولين يقبعون في الظل، تفرض علينا تضحياتهم التي بذلوها في سبيل الوطن بأرضه وإنسانه، أن نشيد برموز تلك الثورة (26 سبتمبر) واستلهام مأثرهم التي نحن أحوج ما نكون لها اليوم.
تاريخ من الدم والعنصرية
في الجدول الزمني لسبتمبر (2019) تتزاحم ذاكرة الجمهورية وذكرى الإنقلاب عليها، حيث حمل مجمل التناقضات التي تكتنف مستقبل اليمن السياسي، بصورة تختزل تحولات الدفع والشدّ بين عهد الإمامة الآفل، ومخاضات الجمهورية المنهكة، التي تُقادُ إلى بئس المصير.
يشدُّ خطامها عبد الملك الحوثي وأتباعه إلى هاوية الإمامة، في محاولةٌ لترويض الواقع السياسي والشعبي في اليمن للقبول به إماماً تجنح البلاد لصولجان "ولايته"، وتقدم له فروض الطاعة وقرابين الولاء، حسب مفاهيم سلالية تُقَسِّم الناس إلى ثنائية طبقية: عبيد وسادة.
ولاية البطنين!!
الولاية هي نظرية سياسية أخذت بعداً عقدياً يتكيف مع الطموح السياسي للنزعة السلالية التي تدعي أحقيتها الحصرية في الحكم، ويدعي المؤمنون بهذه النظرية أن الرسول محمد (ص) أوصى بالخلافة لابن عمه علي (رضي الله عنه) من بعد وفاته إلا أن الخلفاء الراشدين "غيروا وبدّلوا" حسب الدعوى التي لا أساس يعضدها.
هذا الادعاء- الذي يجري تسويقه _في جزئياته الضيقة- ليس أكثر من أساسٍ أوليٍ تستند عليه منظومة دستورية عقدية تجعل الحق في الحكم في سلالة "بني هاشم" حصراً وقصراً، ذلك أن الإيمان بــ"الولاية" يقتضي الأيمان بعدم أحقية أي شخص من غير ما يعرف في أبجديات الجماعة بــ"البطنين" في إشارة إلى ذرية الحسن والحسين سبطي الرسول محمد (ص) وأن خلاف هذا يعد مخالفة شرعية وكفراً بواحاً.
جدير بالإيضاح أن تشييد هذه النظرية السياسية القائمة على تأثيرات المفعول العقدي، تتكئ في تخريجاتها التشريعية، التي تنبثق من تأولات مقصودة لحدث وقع في السنة العاشرة للهجرة النبوية، خلاصةُ زعمها أن الرسول محمد (ص)، أثناء عودته إلى المدينة المنورة، بعد جحه الوداع- توقّف في مكان بين مكة والمدينة ثم أمسك بيد الصحابي الجليل علي ابن أبي طالب، وأمر المسلمين بـ"موالاته" كــ"وصي" عليهم بعد وفاته (ص)، ومنه اشتق الطامحون لـ"السيادة" مصطلح "الولاية" حسب التخريجات الفقهية لمسوغات حكم السلالة، مع التأكيد أن جانبًا من هذه القصة جرى تلفيقه لتمرير الفكرة المشار إليها آنفًا.
12 قرناً من الظلام
بناءً على هذه الوصفة السياسية العقدية _ظل اليمن تحت حكم سلالة واحدة تنسب نفسها إلى سلالة "آل البيت" مدة ألف ومئتي عام، أي منذ القرن الثاني الهجري _بعد أن تشربت معظم المناطق الشمالية في اليمن أفكار الفقه السياسي للإمام الهادي_ إلى ما قبل 57 سنة من القرن الحالي، عقب اندلاع ثورة 26 سبتمبر 1962 التي أطاحت بآخر أئمة الدولة المتوكلية وأعلنت قيام النظام الجمهوري في اليمن.
وفي الفقرة التالية من هذا التقرير سوف نتطرق باقتضاب إلى نماذج بسيطة من ذلك التاريخ المظلم في ومضات من سجل الإمامة الحافل بالدمار والبؤس الذي جعل اليمن لعدة قرون تعيسًا بعد أن كان سعيدًا في سابق عهده.
تاريخ من الدم والحروب


ليس ما يقوم به الحوثيون اليوم بحق اليمنيين حادثًا عَرضيًا، نشأ عن ظروف معينة لا علاقة لها بماضٍ شديد القتامة لا يختلف كثيرًا عما يقوم به عبد الملك الحوثي وجماعته بحق اليمنيين اليوم، بل هو انعكاس طبيعي من حيث الفكر والممارسة لما كان عليه واقع الحال في اليمن الذي هيمنت على حكمه عصبة سلالية واحدة بالتنكيل والبطش والإقصاء طيلة ألف ومئتي عام.
البداية كانت مع دخول الإمام الهادي بن حسين الرسي، الذي دخل إلى صعدة ثم فرض سلطانَ حُكمه على البلاد بحد السيف عام 284 هـ، وكرس الرؤية المذهبية للفقه الهادوي التي لا تعترف بشرعية أي حاكم لا ينتمي للسلالة الهاشمية، وترى ذلك فريضة شرعية لا يملك المسلم عنها محيصًا.
وقد نجح الرجل في بسط سلطته على البلاد وإزاحة منافسيه، الأمر الذي مكَّن للفقه الهادوي بالتغلغل في نخاع المجتمع اليمني، وأصبح هو المنهج الذي يُدرّس في الحواضر الخاضعة لحكمه الذي امتد لأربعة عشر عامًا، أدخلت البلاد إلى متوالية الفوضى من باب المذهبية الواسع.
حيث دخل الرجل في معارك مع خصومة من شيوخ القبائل المعارضة له، أريق خلالها كثير من الدم وراح ضحيتها الآلاف من البشر، وتؤكده بعض المراجع التاريخية أن الإمام الهادي استعان وقتذاك بجنود من طبرستان (شمال بلاد فارس "إيران حاليًا") تمامًا كما هو واقع الحال مع مليشيا الحوثي المدعومة من إيران، على نحو يثير الاستغراب من تلك الوشائج التاريخية في علاقة الفرس بالصناعة المذهبية المتصلة بالفوضى والانقسامات في اليمن.
ثم آل الأمر بعد ذلك إلى الإمام الناصر أحمد بن الهادي وأبنائه، ولم يكن عهده بأحسن من عهد سلفه، حيث كان الحروب والصراعات على الاستفراد بالحكم سِمَةً ذلك العصر.
وصولًا إلى الداعي يوسف بن المنصور الذي خاض حروبًا مع خصومه من أجل نيل الإمامة على اليمن، خلفت دمارًا وخرابًا في البلاد، نجح خلالها في نهاية المطاف من إخضاع صنعاء ببأس أتباعه، لكنه نجاحه هذا لم يدم حتى اهتز سلطانه على يد القاسم بن عبد الله الذي دخل معه في حروب كثيرة انتهت بكسر شوكته، وأعلن الأخير نفسه إمامًا.
رغم كل ذلك الدمار وعدم الاستقرار، لم يكن ذلك كافيًا لإيقاف الجنوح السلالي لأئمة الذي سيطروا على رقاب اليمنيين، حيث تلا تلك الفترة عقود من الاحتراب والتنافس بين مدعي الإمامة من بيوتات السلالة، حتى آل الأمر إلى الإمام عبد الله بن حمزة، الذي لم يعرف تاريخ اليمن _في العهد الإسلامي إلى ذلك التاريخ_ لحكمه مثيلًا في إراقة الدم، حيث كانت فترة حكمه إرهابًا عنصريًا بكل ما تحمل الكلمة من دلالة، والطريف في سيرته أن كان يتطلع إلى حكم العالم الإسلامي وإخضاعه لمفاهيمه العنصرية، إلا أن طموحه كان مستحيلًا فعمد إلى التنكيل بمخالفيه ورعيته من اليمنيين واستئصال مخالفيه بأكثر الطرق وحشية وشططًا.
إلا أن أكثر من نالهم بطشه كان "المطرفيون" و"المطرفية" وهي إحدى الفرق الزيدية التي ظهرت في شمال اليمن، وتعود تسميتها إلى "مطرف بن شهاب" المتوفي سنة 457 للهجرة.
حيث تعرضت إلى الإبادة الممنهجة ونالها الاجتثاث والتكفير بفتوى من أعلى مرجعية دينية وسياسية في البلاد التي يمثلها الأمام عبد الله بن حمزة، الذي أباح دماء اتباع الفكرة المطرفية، بعد أن رأى في تصاعد تأثيرها الفكري ما يهدد مشروعية القداسة السياسية التي يستمدها من حتمية أن يكون الحاكم من "آل البيت" أو ما يسمى في الفقه الهاودي بــ"البطنين"، وهو الشرط الذي كانت المطرفيه تسقطه من أدبياتها في شروط أهلية الحاكم، مقدمة على ذلك معيار الجدارة بصرف النظر عن النسب الهاشمي.
الأمر الذي حدا بالإمام عبد الله بن حمزة _حسب ما أوردته مراجع تاريخية_ إلى استحضار حكم الصحابي الجليل معاذ بن جبل في حق يهود بني قريضة في المدينة المنورة في العهد النبوي، الذي قضى بقتل مقاتليهم وسبي نسائهم وأبنائهم، وهو ما حدث بالفعل بحق "المطرفية" من قبل الإمام ابن حمزة، الذي أمر بسبي ذراريهم ونساءهم وقتل رجالهم، ووزعهم جوارٍ وغلمان لجنوده. وزاد على ذلك إحراق مساجدهم ومزارعهم، وبلغ به الشطط الطائفي إلى قتل كل من انخرط بهذه الطائفة وعدم قبول "توبته" حتى وإن تبرأ من تبعيته لفكر "مطرف بن شهاب"!
ما جعل فترة حكمة تلك مخاضة دمٍ كبرى إلى درجة أن بعض المصادر تقول إنه قتل من صنعاء وحدها من أتباع "مطرف بن شهاب" قرابة مائة ألف "مطرفي" وهو رقم صادم بالنسبة لذلك الزمان حيث يعادل تقريبًا ثلث سكان المدينة في تلك الحقبة الدموية.
لم تقف جرائم الإمامة عند حرمة الدم عند ذلك لحد من الوحشية القاتمة، حيت حمام الدم استمر لقرون متعاقبة هيمنت عليها الفوضى والاقتتال والتنكيل بالمخالفين للأئمة الذين صعدوا إلى الحكم بالأفكار ذاتها، حاملين جينة الحق الإلهي في الحكم والسيادة، إلى الحد الذي بلغت مع الحال إلى الاقتتال والصراع بين أبناء السلالة نفسها، حيث نشب صراعٌ ظل عقودًا بين ذرية الإمام المتوفي عبد الله بن حمزة، وذرية الإمام الهادي، على أحقية أي منهما بالحكم، الأمر الذي قوَّض الاستقرار في البلاد، حيث لم تنعم اليمن- خلال تلك الحقبة المظلمة- بأي سكينة في دوامة لا تنتهي من الصراعات بين أبناء السلالة التي كانت تأكل بعضها بعضًا بدماء اليمنيين من الأتباع وأبناء القبائل الذين كانوا وقود تلك الحرب، تمامًا كما يفعل عبد الملك الحوثي اليوم في محرقة الحرب التي أشعلها في البلاد في سبيل ما يراه استعادة ارث أسلافه الذي نالوه بتفويض من الله، وفق قناعاته العنصرية المسوَّسة.
واستمرت الانقسامات التي خلقتها العُصبة السلالية تفتت البلاد، حتى مع أيلولة الحكم إلى الإمام شرف الدين الذي تحالف مع الدولة المملوكية لإخضاع خصومه للاعتراف به إمامًا، وقد كان له ما أراد بعد سيرة طويلة من الصراعات، لكن المثير أن نهايته كانت على يد ابنه المطهر الذي قيل إنه قتل والده (شرف الدين) بعد أن حالف العثمانيين مقابل تنصيبه إمامًا، حيث أن والده قاد حروبًا استمرت بضع سنين مع العثمانيين، الذين قدموا إلى اليمن سنة 945هــ.
لم يكن ذلك إلا بداية النهاية لاضطراباتٍ احتدمت من جديد استمرت أكثر من قرن من الزمان، تشظى فيها اليمن إلى ممالك ودويلات متناحرة، كانت خلالها اليمن لا تلبث أن تهدأ وتستقر حتى ينشب صراع جديد سواءً بين أتباع السلالة الطامحين إلى الإمامة أم بين الأئمة والعثمانيين.
الصعود والانحدار
بقي الحال على هذه الوتيرة حتى صعود الإمام المنصور محمد بن يحيى بن حميد الدين (والد الإمام يحيى بن حميد الدين) الذي بعث مزاعم الحق الإلهي من هجعتها، فدخل في حروب مع العثمانيين والزعامات المحلية من شيوخ القبائل.
وبعد وفاته، سار ابنه الإمام يحيى حميد الدين على نهجه في قتال العثمانيين وقمع القبائل المتمردة على سلطانه، حتى استقر له الأمر بعد خروج العثمانيين من اليمن بعد هزيمتهم في الحرب العالمية الأولى، وأصبح بعدها الحاكم المطلق لشمال اليمن.
وفي الوقت الذي كان فيه العالم يتفتح ويتسابق على ميادين العلم والحياة، مع الطفرة الصناعية والثقافية التي غزت العالم، كانت اليمن معزولة تمامًا عن كل ما يجري تعيش بنفس الكيفية التي كانت سائدة في عهد دولة المماليك، يسودها الجهل الضارب في نخاع المجتمع بكل فئاته، والفقر المدقع والبؤس الشديد... كل شيء في البلاد كان ينتمي إلى زمن آخر، غير الزمن الذي يعيشه العالم القريب والبعيد.
وحين قرر الثوار اليمنيين الإطاحة بالإمام يحيى في ثورة عام 1948، كان سوء الطالع حليفهم، حيث ما لبثت الأمور أن عادت إلى أسوأ مما كانت عليه بعد نجاح نجله وولي عهده الإمام أحمد في استمالة القبائل في حجة وغيرها، لإجهاض الثورة الوليدة حتى أحكم قبضته عليها بعد أن استباح صنعاء وفرض سطوته على البلاد.
وقتئذٍ أصبح اليمنيون تحت حكمه محنطين بعزلتهم تتخطَّفُهم الأمراض والأوبئة، دون وجود مستشفيات أو رعاية صحية من أي نوع، عدا ما كان سائدًا من الأساليب البدائية باستخدام الأعشاب والكي، وقبل ذلك وبعده "القطران" الذي كان الأيقونة الأثيرة لذلك العهد المظلم.
حتى أشرق فجر ثورة 26 سبتمبر 1962، التي زلزلت أركان الإمامة _أو هكذا أريد لها أن تكون_ وأطاحت بحكم الأقلية السلالية، وكانت إيذانًا بقيام دولة جمهورية يقوم عِمَادُها على أساسٍ دستوري ديمقراطي لا على الفرز الطبقي، أطلق عليها الجمهورية العربية اليمنية.
بعث الإمامة ومخاضات الثورة
بصرف النظر عن السلبيات التي رافقت العهد الجمهوري نتيجة للتعاطي الخاطئ للسلطة خلال فترة ما بعد استشهاد الرئيس الحمدي، كانت ثورة 26 سبتمبر تحولًا وجوديًا لكل اليمنيين نحو الانعتاق من رق التسلط الإمامي والعبودية الطبقية التي كرسها خلال اثني عشر قرنًا.
وحين حاولت ثورة 11 فبراير الشبابية السلمية، تصحيح ذلك الخلل الناتئ في الجسم السياسي للدولة الجمهورية الديموقراطية، لكنها ما لبثت أن استوت على سوقها حتى وجدت نفسها في نضال جديد مع نسخةٍ منقحة من الإمامة التي بُعثت من تابوتها _بفعل فاعلٍ لئيم_ حمل لواءها عبد الملك الحوثي بعد شقيقه الهالك، خلال أحداثٍ غنية عن الذكر.
المثير للشجن أن مجيء الإماميين الجدد في عصر العلم والفضاء الحُر، لم يكن ليجعل عبد الملك الحوثي وجماعته أقل قبحًا ممن سبقوه، إذا عادت كثير من ملامح ما كانت عليه اليمن قبل أكثر من نصف قرن، وعاد معه مقت التعليم والطبقية العنصرية والتمايز المذهبي والقمع واستئصال الأخر المخالف والتنكيل بالخصوم و.....
وبموازاة ذلك أعاد الحوثي أيضًا الجهل وتعطيل المدارس وفرض الجبايات وسلب قوت الشعب ونهب المِلك العام واختزاله في عصبة بعينها، ومنع المرتبات، وتفشي الأوبئة التي تخلَّص منها العالم قبل مائة عام من اليوم.... إلخ.
كل هذا يعيد إلى الأذهان صورةً حية لِما كان عليه اليمن إبَّان الحكم السلالي الطبقي قبل ثورة 26 سبتمبر، ولا أدلَّ على ذلك من أكوام الحطب التي تملأ شوارع العاصمة صنعاء، بعد أن تحولت مهمة السلطة مقصورة على ابتزاز الشعب ومصادرة قوته وإرهابه، في سابقة لم تتكرر منذ إعلان الجمهورية، حيث كل شيء ينحدر إلى الماضي، غير أن الماضي لن يعود وقد خرج المارد من قُمقمه، كما يقول اليمنيون في ذكرى ثورتهم.

نكبة أيلول
أحمد عوضه
في ذكرى مشؤومة في إحدى عشيات أيلول، ثمة جرح غائر في تلافيف ذاكرة الوطن المغلوب. يوم بصق التأريخ في صنعاء أكثر العصابات طيشاً وقَذَرَاً.. حين أُخِذَتْ دولةٌ بأكملها غنيمة حرب طارئة!
على طريقة الغزو البدائية، في عصور التاريخ الغابرة، دأب الحوثيون على اغتصاب الدولة خمس سنواتٍ عجاف. لقد عاث رجل الكهف الطازج وزمرته المخلصون نكالاً بحق هذه البلدة المغلوبة من أرض الله. دون أن يتمعروا من نهش ذلك الجسد الناحل بشراهة المفترس.. لقد فعلوا ذلك دون ناموسٍ ولا نكير!!.
في الواحد والعشرين من أيلول، خطَّ الغزاة الجُدد لصنعاء تاريخاً جديداً بمقاس "السيد" القادم من كهف الشمال، فتقبلته بخنوعٍ مثير للشفقة!! صارت الجمهوريةُ جدثاً مسجى. لوثته يدُ الأشقياء. حين جاء أولئك المسكنون بميثولوجيا الحق الإلهي، من أكثر عصور التأريخ عتمةً وقرفاً. رأتهم صنعاء عشية ذلك اليوم المشؤوم يجوسون خلال الديارِ. شعثاً غبراً كأنما خرجوا من أحد الأسفار المقدسة القديمة.
في ذلك المساء المشؤوم، انتشرت نقاط التفتيش، في كل أحياء صنعاء. بين عشية وضحاها صارت البلاد شيئاً آخر. لقد تذوق الناس نكهة الإمامة لأول مرة منذ نصف قرن أو يزيد. صارت الجمهورية تذوي رويداً.
أسقط الحوثيون الدولة، وأهانوا الرئيس الشرعي للبلاد، وسيرت الكتائب المدججة بسلاح الدولة المنهوب، لضم ما تبقى من محافظات إلى سلطة الحاكم الجديد.!
لم يكن الحوثيون بحاجة ليفعلوا ذلك، ليثبتوا وقاحة غزوهم الصارخ، ولكن للتاريخ.. وللتاريخ فقط. سوف يأتي مؤرخ بعد مائة عام، سيروي للأجيال، ما اقترفته يد الكهنوت، سيخبرهم عن ثأر الامامة من شعبٍ أراد أن يعيش كخلق الله. سيدرس الطلاب في مدارسهم، أن سلالة واحدة حكمت البلاد باسم الإله، ألفاً ومائتي عامٍ. وما فتئت تقول هل من مزيد!!
في قانون الحروب عبر التاريخ، يأتي الغازي بسلاحه وعتاده إلا في اليمن فقط، كان ثمة شيئٌ مختلفٌ تماماً، فقد شاهد جميع الناس، بالعين المجردة، جنود "المسيرة القرآنية"، في صنعاء وغيرها، يخرجون السلاح من معسكرات الجيش، التي اشتراها الشعب من قوته، إلى أوكارهم البعيدة، كان الحوثيون يسلبون كل شيء، في وضح النهار، كمن يتصرف في ملك أبيه، أو شيءٍ اكتسبه بكدِّ اليمين، وعرق الجبين!
لقد أراد عبد الملك الحوثي أن يقول لليمنيين ها قد رجعنا.. نحن وحدنا "السادة"..! ونحن أحق بالملك منكم. يومئذٍ كان قد اطمأن أن السماء تؤازره وتشد ساعده، في حربه المظفرة. لقد أطل يتبجح بـ"انتصاراته العظيمة" ويرفع سبابته في وجوه اليمنيين مليون مرة. كان واثقاً أنه مخول من قوة لا تقهر، في استعاده حقه القدري!!.
في ذلك المساء البغيض، كانت صنعاء خاوية موحشة، ترزح تحت طبقاتٍ متراكبة من صمتٍ جنائزي مريع. لم يعد فيها إلا عويل الريح، ورغاء الأوباش، وزاملٌ مقيت، ومسوخ مسلحون يجوبون الشوارع. معهم صكوك مفتوحة لقتل من شاءوا...!! أليس من حقهم أن يفعلوا كل ذلك وقد انتصروا باسم الشعب على الشعب نفسه؟!
إنها النشوة التي تتخلق في اللاوعي، بنيل ما لم يكن في الحسبان. إنه الجنون بعينه...!! لا ريب أنه لم يدر بخلد "هولاكو الحوثي" أن تكون صنعاء بهذا القدر من البساطة، فضلاً عن أن تفتح أبوابها لسيد الكهف وتقول "هيت لك".
لقد حقق عبد الملك الحوثي حلم شقيقه الهالك. في أن يجعل الشعب كله يصرخ.. ها قد صرخ يا "غراندير".. صرخ الشعب كله. ولكن من وطأة الألم هذه المرة، لقد سُحق حتى تداخلت أضلاعه، وانقطع نفسًه، صرخ من الحسرة والضياع، ومن تفرعن الحثالة على رقاب خلق الله، لم يبقَ له إلا أن يثور كالفيضان الهادر، فلا يبقى ولا يذر!!
سرق الحوثيون الدولة في رابعة النهار، وفرضوا الإتاوات والجبايات. أكلوا أرواح البشر على طريقتهم. ابتكروا كل مالم يكن مألوفاً لدى قطاع الطرق! أفرغوا خزينة البلاد إلى جيوبهم، حتى أُتخمت أرصدة "أبناء الحسين"، بينما صارت الملايين من الشعب تتلوى جوعاً ومسغبة!!.
لقد تتداعى "أبناء الحسين" من كل صوب على مؤسسات البلاد، كما تتداعى الضباع على الثور الهالك. لقد رقص السيد "هولاكو" على أشلاء الدولة. صارت البلاد جسداً مسرطناً بأخبث الأدواء فتكاً.
طفق عبد الملك الحوثي يقول إنه "ثار" من أجل الجوعى!! كان يستثمر في أوجاع الناس بلا خجل. ثم دأب هو _ومن ورائه مسيرة الدم_ على تبديد خزينة الدولة، دون أي ضابطٍ قانوني أو أخلاقي، يأخذ في اعتباره المآلات الاقتصادية الكارثية، التي دفعت بالبلاد وأهلها إلى درك الحضيض الأدنى. لقد انهار الاقتصاد وهوى كسيحاً يتخبط.
نخر الحوثيون مؤسسات الدولة وأفرغوها من ميزانيتها، بعد أن أعطبوا دورها، في موجة تجريف شاملة أفرزت مؤسسات مشلولة شملت كل القطاعات، وسُرّح موظفوها واستبدلوا بآخرين من أبناء سلالة السماء!
رأى الأوباش أخير أنهم في فسحة من حرمٍ آمن لتوزيع غنيمة معركتهم ضد كل القيم. لقد فرك "أبناء النبي" أيديهم سروراً بعد أن صارت معيارية التعيين والعزل، تتم على أساسٍ سلالي. يوزعها الحوثي وفق معايير الــDNA !.
لم يكن غريباً البتة، أن يأتي كل ذلك الهول من تلقاء جماعة عبد الملك الحوثي! وهل يتوقع اللبيب شيئاً حسناً من عصابةٍ ساديّة، الموت جزء من صميم فكرها؟! يهتفون به بكرة وعشية.
أما الحمقى من الأتباع والرعاع، ممن لا يملكون الشيفرة المقدسة في دمائهم، فأقصى ما يمكن أن ينالوه هو صكوك الشهادة التي يمنحها صاحب القداسة لمن هو دونه. سوف يقاتلون لينالوا بركات السيد... الحمقى يقاتلون وحسب! يُضَحى بهم لينالوا الجنة. التي يتصرف فيها سيد الكهف نيابة عن الله.
سوف يستمر عبد الملك الحوثي في حروبه المقدسة، سوف يحرق الغابة كلها لينتقم من شوكة أصابته. سوف يشهر "ولاعته" في وجه العالم وهو يهدد ويشتم ويجأر ويعوي مثل جرو...! سوف يطل من مكان ما في هذا العالم، من استيديو مكيَّف، ليقول لنا وللناس بلا ذرة خجل إنه سيواصلُ حتى النهاية..!! تُرى أي نهايةٍ يريد الرجل؟!
ماذا بقي في هذه البلدة الصغيرة من أرض الله لم يمسه الشيطان بأذاه وجنونه ورجسه؟!

الأكثر قراءة

المقالات

تحقيقات

dailog-img
كيف تحوّلت مؤسسات صنعاء إلى “فقَّاسة صراع” الأجنحة داخل جماعة الحوثي؟ (تحقيق حصري)

حوّل خلاف موالين لجناحين (متشددين) متعارضين داخل جماعة الحوثي المسلحة “جلسة مقيّل” خاصة- بالعاصمة اليمنية صنعاء خلال عيد الأضحى المبارك- إلى توتر كاد يوصل إلى “اقتتال” في “مجلس” مليء بالأسلحة والقنابل ا مشاهدة المزيد

حوارات

dailog-img
وزير الدفاع يتحدث عن الحرب العسكرية ضد ميليشيا الحوثي ويكشف سر سقوط جبهة نهم والجوف ومحاولة اغتياله في تعز ولقائه بطارق صالح وتخادم الحوثيين والقاعدة وداعش

كشف وزير الدفاع الفريق ركن محسن محمد الداعري، ملف سقوط جبهتي نهم والجوف، بقبضة ميليشيا الحوثي، للمرة الأولى منذ تعيينه في منصبه. وأشاد الداعري، في حوار مع صحيفة "عكاظ" بالدعم بالدور المحوري والرئيسي الذي لعبته السعودية مشاهدة المزيد