إسرائيل وقوتها الناعمة في إفريقيا«2-2»

2009-12-26 04:13:50

د. حمدي عبد الرحمن حسن

يراجع هذا التقرير التغلغل الإسرائيلي في إفريقيا الذي يستخدم العديد من الوسائل لتحقيق أهدافه وعلى رأسها ما يسمى القوة الناعمة، ويلقي الضوء على الجهود الإسرائيلية خلال المراحل السابقة وما شهدته من مد وجزر وفقا لرؤية وأهداف صناع القرار الإسرائيليين، مع الوقوف على العلاقات العربية الإفريقية الآخذة بالتراجع بدلا من التقدم والتطور.

- ثانياً: تردي الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في إفريقيا ابتداء من نهاية السبعينيات. وقد دفع ذلك بالدول الإفريقية إلى تبني إعلان مونروفيا عام 1979 بشأن الاعتماد الإفريقي على الذات والمطالبة بإقامة نظام عالمي جديد. وسرعان ما تم تبني هذا الإعلان من قبل منظمة الوحدة الإفريقية وأطلق عليه "إستراتيجية مونروفيا" على أن المنظمة الإفريقية اجتمعت في أبريل/ نيسان عام 1980 في لاغوس وأقرت "خطة عمل لاغوس للتنمية الاقتصادية في إفريقيا 1980 -2000".

ويلاحظ أن نقطة التحول الكبرى في العلاقات الإسرائيلية الإفريقية خلال هذه المرحلة ارتبطت بأوائل الثمانينيات حينما تم تعيين ديفيد قمحي مديراً عاماً للخارجية الإسرائيلية الذي قاد حملة لا هوادة فيها من أجل العودة إلى إفريقيا مرة أخرى. فقد تم ترتيب سلسلة من زيارات كبار المسئولين الإسرائيليين للعواصم الإفريقية كتلك التي قام بها كل من إسحاق شامير وآرييل شارون، كما تم التوسع في مجال العلاقات العسكرية مع الدول الإفريقية وتفاوضت إسرائيل على مزيد من العقود والصفقات العسكرية في إفريقيا.

وعلى الرغم من استمرار العلاقات الاقتصادية والعسكرية الإسرائيلية مع الدول الإفريقية فإن عودة العلاقات الدبلوماسية كانت بطيئة وتدريجية. ففي مايو 1982 أعلن الرئيس موبوتو سيسي سيكو رئيس زائير (الكونغو الديمقراطية حالياً) عودة العلاقات الدبلوماسية مع إسرائيل ليصبح أول رئيس إفريقي يفعل ذلك.

وربما يمكن تفسير هذا التحرك من جانب موبوتو من خلال تفهم رغبته في الحصول على المساعدات العسكرية الإسرائيلية والتقرب إلى الولايات المتحدة الأمريكية لمواجهة أزماته الداخلية بعد محاولات انفصال إقليم شابا عام 1977، 1978.

وفي أغسطس عام 1982 أيضاً قام الرئيس الليبيري صمويل دو بخطوة مماثلة وأعاد علاقات بلاده مع إسرائيل سعياً في كسب ود الولايات المتحدة الأمريكية التي كان لها تحفظات على نظام حكمه. وفي منتصف الثمانينات قامت دول أخرى مهمة بإعادة علاقاتها مع إسرائيل مثل كوت ديفوار والكاميرون، وفي أوائل التسعينيات قامت أربعة دول أفريقية فقط بإعادة علاقاتها مع إسرائيل وهي أثيوبيا وكينيا وغينيا وجمهورية إفريقيا الوسطى.

ويبدو أن صانع القرار الإسرائيلي بدأ يعيد حساباته ويتبنى اقتراباً جديداً في تعامله مع إفريقيا من خلال توظيف أدوات الحركة التي يمتلكه، إذ لم يعد الهجوم الدبلوماسي وافتتاح سفارة إسرائيلية في كل عاصمة أفريقية هدفا في حد ذاته. فقد تم التركيز على بعض العواصم الإفريقية ذات الأهمية الإستراتيجية البالغة بالنسبة لإسرائيل.

كما استطاعت إسرائيل توظيف شبكة من التفاعلات غير الرسمية لخدمة مصالحها في إفريقيا حيث أصبح العديد من مواطنيها يعملون في مختلف أنحاء القارة الإفريقية، بل أن بعض هؤلاء أصبحوا مستشارين لرؤساء دول كما حدث في نيروبي وياوندي وبانغي وأديس أبابا وكينشاسا. كما أن بعض الضباط السابقين في المؤسسة العسكرية الإسرائيلية تورطوا في الصراعات التي شهدتها سيراليون وليبيريا وأنجولا ونيجيريا وروندا وزائير.

ويبدو أن قرار إسرائيل عام 1987 الانضمام إلى حملة المقاطعة الدولية لنظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا قد أسهم في فتح صفحة جديدة في علاقاتها مع الدول الإفريقية.

ويمكن أن نشير إلى عدد من الاعتبارات المهمة التي أفضت إلى عودة إفريقيا كأولوية مهمة في أجندة إسرائيل الخارجية ابتداء من عام 2000. وذلك على النحو التالي:

- الاعتبارات الأمنية:

فثمة مخاوف إسرائيلية من انتشار الجماعات الإسلامية المتطرفة في كثير من مناطق إفريقيا ولا سيما في بؤر التوتر والصراعات الكبرى، وفي ظل حالات ضعف الدولة أو انهيارها كما هو الحال في الخبرة الصومالية. ولا شك أن إسرائيل تنظر إلى هذه المخاوف الأمنية باعتبارها تهديداً مباشراً لأمنها القومي. ولعل الغارة الإسرائيلية علي شرق السودان أوائل العام الحالي تعد مثالا واضحا على أهمية هذا البعد في السياسة الإسرائيلية تجاه إفريقيا.

- التغلغل الإيراني المتزايد في إفريقيا:

واستخدام السياسة الإيرانية لنفس الأدوات التي استخدمتها إسرائيل لكسب عقول وقلوب الأفارقة وهي المساعدات التنموية. وعليه فإن إسرائيل رأت في إيران وسياستها الإفريقية تهديداً مباشراً لمصالحها الإستراتيجية في القارة السمراء.

ويلاحظ أن إيران بدأت منذ عدة سنوات في توسيع دائرة تحركها الإفريقية مستفيدة إلى أقصى حد من الفرص المتاحة. فإلى جانب السودان توجد علاقات إيرانية وثيقة مع كل من جنوب إفريقيا والسنغال وأوغندة. وعادة ما يتم ترويج النموذج الإيراني إفريقيا ولا سيما في مجالات الطاقة والتنقيب عن النفط وتنمية القطاعات الزراعية والصحية وما شاكل ذلك.

فقد افتتحت إيران مصنعاُ للجرارات الزراعية في أوغندة، كما أنها أقامت خط إنتاج لسيارات (ساماندا) الإيرانية في السنغال، ويلاحظ في هذا السياق أيضاً أن الفرق الطبية الإيرانية تجوب كثيراً من أنحاء القارة الإفريقية لتقديم خدماتها إلى المحتاجين.

- الاعتبارات الاقتصادية والتجارية:

إذ تحاول إسرائيل أن تبنى على تقاليد عصرها الذهبي في إفريقيا. وهي تستخدم هيئة التعاون الدولي (مشاف) التابعة لوزارة الخارجية الإسرائيلية باعتبارها الذراع الدبلوماسي الذي يسهم في تقوية علاقاتها مع الدول الإفريقية. وقد لوحظ خلال السنوات الماضية أن معظم النشاط الإسرائيلي في إفريقيا قد تركز في مجالين أساسيين هما تجارة الماس والأسلحة. ولذلك يطالب كثير من المحللين الإسرائيليين بضرورة إنقاذ سياسة إسرائيل الإفريقية في مرحلة ما بعد الحرب الباردة من خلال تطوير وتوسيع دوائر الحركة التجارية معها من خلال التركيز على القوى الاقتصادية الواعدة فيها مثل نيجيريا وغانا وجنوب إفريقيا.

- التوكيد على أهمية إفريقيا الإستراتيجية بالنسبة لإسرائيل:

حيث تحاول إسرائيل من خلال تبنيها مبدأ شد الأطراف إلى خلق بؤر للتوتر والصراع على أطراف النظام الإقليمي العربي في جواره الأفريقي. ويمكن أن نشير هنا إلى الدور الإسرائيلي في دعم حركات التمرد والعنف في جنوب السودان وغربه. ومن المعروف أن هذا المبدأ يعني خلق مناطق للتوتر تشمل الجماعات العرقية والإثنية في الدول العربية وتقديم كافة وسائل الدعم لها من أجل تقوية نزعاتها الانفصالية والقومية.

- التكالب الدولي الجديد على استغلال الموارد الطبيعية الإفريقية:

يفرض على إسرائيل أن تعيد حساباتها لتدافع عن مصالحها ويكون لها نصيب معلوم في عملية التنافس الدولي تلك التي تشهدها الساحة الإفريقية. ولذلك لا تتحرك إسرائيل صوب إفريقيا بدافع من مجابهة التمدد الإيراني فقط ولكن لمواجهة واحتواء النفوذ الصيني المتزايد كذلك.

وعليه فإنه يمكن النظر إلى زيارة وزير الخارجية الإسرائيلي أفيغدور ليبرمان إلى كل من أثيوبيا وكينيا وأوغندة ونيجيريا وغانا في بداية سبتمبر/ أيلول 2009 باعتبارها نقطة تحول فارقة في السياسة الخارجية الإسرائيلية تجاه إفريقيا ومحاولة لإعادة العصر الذهبي لإسرائيل في إفريقيا.

أدوات الاختراق وآلياته

يقول جون تيتيجه سكرتير عام الحركة العمالية في غانا في أعقاب زيارته لإسرائيل عام 1957: "لقد تعلمت في إسرائيل على مدى ثمانية أيام أكثر مما يمكن أن أتعلمه على مدى سنتين في جامعة بريطانية". كما عبر الزعيم العمالي الكيني توم موبيا عن إعجابه الشديد بتجربة إسرائيل في مجال زراعة وتنمية الأراضي القاحلة. يطرح ذلك كله أهمية الحديث عن أدوات إسرائيل في اختراق الفضاء الأفريقي:

1- إسرائيل ودبلوماسية القوة الناعمة

يقول ديفيد بن جوريون في كتابه عن إسرائيل وسنوات التحدي الذي صدر عام 1962:

"إن إسرائيل دولة صغيرة الحجم ومحدودة السكان، كما أنها لا تمتلك قوة عسكرية أو اقتصادية كبرى. بيد أنها تمثل على المدى البعيد قوة روحية خلاقة. ومعلوم أن العبرة في مملكة الروح للكيف وليس الكم... ولسوف يعود عليها إسهامها، أي إسرائيل، في تأسيس عالم جديد بالسلام والأمن واحترام العالم".

ولا شك أن هذا النص يعكس إدراك أول رئيس لوزراء إسرائيل بأن القوة العسكرية وإن حققت تأسيس كيان الدولة فإن تأمين شرعية الوجود يتطلب أدوات وسياسات أخرى غير الأداة العسكرية.

ومن هنا كان بحث صانع القرار الإسرائيلي عن خلق ما يمكن تسميته "النموذج الإسرائيلي" الذي يستطيع جذب اهتمام وتأييد المجتمع الدولي. ولعل سياسة المساعدات التنموية تعد أحد أبرز هذه الأدوات التي تستخدمها الدبلوماسية الإسرائيلية لتحقيق هذه الغاية وقد درج كثير من الكتاب الإسرائيليين على وصف هذه الإستراتيجية بأنها تمثل تطبيقاً لمبدأ القوة الناعمة "soft power" الذي صكه جوزيف ناي عام 1990.

وتحاول إسرائيل أن تستخدم برنامج التعاون الدولي لتحقيق أهداف سياستها الخارجية تجاه إفريقيا. يعني ذلك أن سياسة المساعدات التنموية التي تقدمها إسرائيل للدول الإفريقية تمثل تطبيقاً عملياً لمفهوم القوة الناعمة، ومما يزيد من فاعلية هذه السياسة أن إسرائيل تضفي عليه بعداً ثقافياً وأخلاقياً من خلال:

- التأكيد على أن إسرائيل، وهي دولة محدودة الموارد ترسل ما لديها من خبراء وفنيين بدلاً من الأموال التي تفتقر إليها من أجل مساعدة الدول الإفريقية في مجالات تنموية متعددة، مثل الري والزراعة والصحة العامة وتنمية المجتمعات المحلية وما إلى ذلك.

- طرح المفهوم الرسالي للشعب اليهودي وفكرة الخلاص، وهي ما تتضح في كتابات الجيل المؤسس للدولة العبرية. ولا شك أن هذا المفهوم يقدم إسرائيل باعتبارها "نموذجا" لبناء الدولة والقيم التي تقوم عليها.

- تقديم المساعدات التنموية باعتبارها تمثل منظومة القيم للشعب اليهودي في مختلف أنحاء العالم. ولعل استخدام برنامج "تيكون أولام" (Tikkun Olam) أو مساعدة اليهود في إصلاح العالم ضمن آليات التعاون الدولي الإسرائيلي، إنما يعكس ذلك التوجه لدى صانع القرار الإسرائيلي. وقد بدأت هذه المساعدات عام 1957 بناء على طلب من الرئيس الغاني كوامي نكروم، حيث قدمت إسرائيل المساعدة الفنية في عدد من المشروعات التنموية في غانا.

ويلاحظ أن إسرائيل قد استفادت من خبرتها في مجال الزراعة حيث قدمت المساعدة الفنية في مجالات الري والزراعة وتخطيط المدن والتعاونيات. ومع تطور العلاقات الإسرائيلية الإفريقية تم التوسع في هذه البرامج حتى أن إسرائيل أنشأت وحدة التعاون الدولي (مشاف) داخل وزارة الخارجية لإدارة وتنسيق برامج المساعدات تلك، ومن الملاحظ أن جميع الدول الإفريقية التي دخلت في علاقات دبلوماسية مع إسرائيل قد استفادت بشكل أو بآخر من هذه المساعدات الفنية.

وقد احتلت الزراعة الأهمية القصوى في مجالات المساعدات الإسرائيلية لإفريقيا حيث دأب الخبراء الإسرائيليون على:

* إنشاء مشروعات زراعية متخصصة تقوم على التكنولوجيا الملائمة وتبني محاصيل جديدة.

* إنشاء مزارع ومراكز تدريبية.

* تنظيم المؤسسات الريفية.

* تخطيط مشروعات التنمية الريفية الشاملة.

على أن إسرائيل قدمت الدعم الفني في مجالات أخرى مثل الصحة العامة والتعليم والإعمار والعمل الاجتماعي وتطوير المجتمع المحلي.

ومن جهة أخرى استقبلت إسرائيل العديد من الدارسين والطلاب الأفارقة للتدريب في مراكزها العلمية والتدريبية المختلفة. فقد أنشأت الهستدروت المعهد الأفروأسيوي للدراسات العمالية بهدف تقديم مسافات تدريبية متخصصة في مجالات التنمية والعمل والتعاونيات.

ولعل من أبرز المشروعات التي تقدمها إسرائيل لإفريقيا في مجال الزراعة والأمن الغذائي، مشروع "حديقة السوق الإفريقية" The African Market Garden. ويهدف هذا المشروع إلى تقليل المخاطر وزيادة الإنتاجية في المزارع العائلية الصغيرة التي تقع في نطاق الأراضي القاحلة وشبه القاحلة.

ويقوم هذا النظام على الجمع ما بين أفضل المحاصيل وفقاً للاختبارات العلمية واستخدام الوسائل ذات التكلفة المنخفضة جداً مثل الري بالتنقيط والتي تسمح بزراعة الأراضي طول العام. إذ يلاحظ أن صغار المزارعين في هذه المناطق يتقيدون في نشاطهم الزراعي بفترة موسم الأمطار.

ويمكن هذا النظام الزراعي أصحاب الحيازات الصغيرة من توفير الاحتياجات الغذائية لأسرهم مع الاحتفاظ بفائض صغير يمكن بيعه. ويقوم مركز "مشاف" بتطبيق هذه الإستراتيجية في إفريقيا بالتعاون مع شركاء التنمية المحليين والمنظمات الدولية مثل منظمة الأغذية والزراعة (الفاو) وهيئة التعاون الفنلندية.

2- المساعدات العسكرية وتجارة السلاح:

وقد اشتملت هذه المساعدات على تدريبات مباشرة للعسكريين الأفارقة أو إقامة وحدات عسكرية خاصة. وفي فترات زمنية متفاوتة كانت إسرائيل تقوم بتدريب جيوش أثيوبيا وغانا وكينيا وسيراليون وتنزانيا وأوغندة وزائير. ويلاحظ أن أول دفعة من طياري كينيا وأوغندة وتنزانيا وزائير قد تلقت تدريبها في إسرائيل.

ولا يخفى أن لإسرائيل وجهاً قبيحاً في القارة الإفريقية يتمثل في تجارة السلاح حيث يقوم بعض رجال الاستخبارات والعسكريين الإسرائيليين السابقين، وذلك نيابة عن المؤسسة الصناعية العسكرية في إسرائيل بتصدير الأسلحة والمعدات إلى كثير من المناطق في إفريقيا.

الأكثر قراءة

المقالات

تحقيقات

dailog-img
كيف تحوّلت مؤسسات صنعاء إلى “فقَّاسة صراع” الأجنحة داخل جماعة الحوثي؟ (تحقيق حصري)

حوّل خلاف موالين لجناحين (متشددين) متعارضين داخل جماعة الحوثي المسلحة “جلسة مقيّل” خاصة- بالعاصمة اليمنية صنعاء خلال عيد الأضحى المبارك- إلى توتر كاد يوصل إلى “اقتتال” في “مجلس” مليء بالأسلحة والقنابل ا مشاهدة المزيد

حوارات

dailog-img
وزير الدفاع يتحدث عن الحرب العسكرية ضد ميليشيا الحوثي ويكشف سر سقوط جبهة نهم والجوف ومحاولة اغتياله في تعز ولقائه بطارق صالح وتخادم الحوثيين والقاعدة وداعش

كشف وزير الدفاع الفريق ركن محسن محمد الداعري، ملف سقوط جبهتي نهم والجوف، بقبضة ميليشيا الحوثي، للمرة الأولى منذ تعيينه في منصبه. وأشاد الداعري، في حوار مع صحيفة "عكاظ" بالدعم بالدور المحوري والرئيسي الذي لعبته السعودية مشاهدة المزيد