حول سيادة الشعب والحاكمية

2012-07-25 01:40:52 عبد الفتاح ماضي


إن فهم فكرة "سيادة الشعب" وعلاقتها بالحاكمية وإدراك "طبيعة السلطة في العهدين النبوي والراشدي" من الأمور التي قد تساعد على تقريب وجهات النظر بين الإسلاميين وغيرهم وعلى بناء نظم حكم حديثة في عواصمنا العربية التي تشهد كتابة دساتير جديدة.

معنى سيادة الشعب
في نظم الحكم الديمقراطية الحديثة هناك مبدأ أساسي يهتم في الأساس بمن يحكم؟ وكيف يحكم؟ هو "السيادة الشعبية" أو "الشعب هو مصدر السلطة". وجاء المبدأ نتيجة تطور تاريخي ممتد بدأ ربما بالقرن الثاني عشر الميلادي ولم ينته حتى وقتنا هذا، وامتد جغرافيا من شمال وغرب أوروبا إلى شمال أميركا. وبعيدا عن الاختلافات بين الفلاسفة والمفكرين بين عبارتي "سيادة الأمة" و"سيادة الشعب"، يجب علينا فهم جوهر المبدأ وعدم الوقوف عند التسميات.
فبدلا من شخصنة الحكم وتحكم فرد أو مجموعة أفراد في مقاليد الحكم، وبدلا من نظرية الحق الإلهي أو استناد السلطة إلى مبدأ الاستخلاف أو الوراثة، تفصل الديمقراطية بين المجالين العام والخاص، وتحول الحكم إلى وظيفة لها مبادئ وأسس وقواعد وضوابط. ولهذا السلطة يتولاها من يرى في نفسه القدرة على الحكم ويمتلك المعارف والمهارات اللازمة وتختاره جموع المواطنين.
واقترن مبدأ السيادة الشعبية في التطبيق بمبدأ الحكم النيابي، إذ صار الناس ينتخبون هيئة تمثيلية للقيام بصنع القرارات نيابة عنهم نظرا لأنه لم يعد من الممكن، مع تزايد عدد السكان واتساع مساحة الدول، أن يجتمع كل الناس في مكان واحد لممارسة شؤون الحكم كما كانت الحال في الديمقراطية المباشرة في أثينا.

كما اقترن المبدآن معا، في الغالبية العظمى من الدول المعاصرة، بقاعدة حكم الأغلبية مع صيانة حقوق الأقليات، أي صنع القرارات العامة استنادا إلى قاعدة أغلبية الأصوات في المجالس النيابية، مع وجود ضمانات دستورية وقانونية لحماية حريات وحقوق الأقليات التي قد تُضار من هذه القاعدة، ومع ضمان عدم اختراق دستور الدولة ومرجعية النظام العليا. وهناك دول ديمقراطية معاصرة لا تطبق قاعدة حكم الأغلبية تلك إذ إنها تعتمد الشكل الديمقراطي التوافقي كسويسرا.
ولتطبيق هذه المبادئ الثلاثة معا، تم تطوير عدد من المؤسسات والآليات والقواعد المتصلة بشروط ومؤهلات الحكام (ونقصد بطبقة الحكام هنا كل المسؤولين بدءا من رئيس الدولة ونواب البرلمانات وحكام المحافظات أو الولايات وحتى أصغر موظف منتخب في المحليات والمدن، وعدد هؤلاء في أميركا أكثر من 500 ألف مسؤول منتخب وفي بريطانيا نحو 100 ألف)، وبحدود مسؤولية كل مسؤول، وبكيفية اختيار الحكام واختيار هيئات تمثيلية يشارك الشعب عبرها في السلطة، وبكيفية مراقبة الحكام ومحاسبتهم وإقالتهم عند الضرورة، وبقواعد عملية اتخاذ القرارات وصنع السياسات وتقويمها وسبل تنفيذها وتعديلها عند الضرورة.
وكان من مقتضات هذا المبدأ أيضا فكرة الفصل بين السلطات، بحيث يتولى وظيفة سن القوانين هيئة منفصلة عن الهيئة التي تنفذ، كما فُصلت المؤسستان التشريعية والتنفيذية عن مؤسسة ثالثة هي القضاء الذي أنيط به الفصل في المنازعات بين الأفراد وبين الأفراد والهيئات الحاكمة ذاتها. كما تم إخضاع المؤسسات العسكرية والأمنية للمؤسسات المنتخبة.
وبهذا فإن مضامين هذا المبدأ، والمبادئ المصاحبة له، تقع كلية ضمن تنظيم السلطة واختيار الحكام وإدارة التدافع السياسي، وهذه أعمال بشرية تختلف باختلاف الزمان والمكان. فهل يتعارض هذا مع فكرة الحاكمية؟

سيادة الشعب والحاكمية
بداية، لا تجب المقارنة بين فكرة سيادة الشعب وفكرة الحاكمية. فالله، عز وجل، هو خالق الكون وحاكمه ومُشرّع دينه وقيمه العليا لهداية كل البشر. وهذا أمر أسمى وأعلى من أساليب إدارة الصراع السياسي وصنع القرارات لتنظيم شؤون حياتنا الدنيوية. كما أن ما قصده المنادون بالحاكمية هو حاكمية الشريعة الإسلامية وليس حكم ما يطلق عليهم رجال الدين.
وقد جاء في معالم في الطريق لسيد قطب: "ومملكة الله في الأرض لا تقوم بأن يتولى الحاكمية في الأرض رجال بأعيانهم -هم رجال الدِّين- كما كان الأمر في سلطان الكنيسة، ولا رجال ينطقون باسم الآلهة، كما كان الحال فيما يعرف باسم (الثيوقراطية) أو الحكم الإلهي المقدس!! ولكنها تقوم بأن تكون شريعة الله هي الحاكمة، وأن يكون مردُّ الأمر إلى الله وفق ما قرَّره من شريعة مبينة".
كما أن الحاكمية لا تعني منع البشر من التشريع في الأمور الدنيوية، وبعبارات العلامة يوسف القرضاوي -في الدين والسياسة- الحاكمية "لا تنفي أن يكون للبشر قدر من التشريع أذن به الله لهم. إنما هي تمنع أن يكون لهم استقلال بالتشريع غير مأذون به من الله، وذلك مثل التشريع الدِّيني المحض، كالتشريع في أمر العبادات بإنشاء عبادات وشعائر من عند أنفسهم، أو بالزيادة فيما شرع لهم باتِّباع الهوى. أو بالنقص منه كمًا أو كيفًا، أو بالتحويل والتبديل فيه زمانًا أو مكانًا أو صورة. ومثل ذلك التشريع في أمر الحلال والحرام، كأن يحلوا ما حرم الله ويحرموا ما أحل الله، وهو ما اعتبره النبي صلى الله عليه وسلم نوعًا من (الربوبية)..".
هذا فضلا عن أن فكرة سيادة الشعب مقيدة بالقانون والمرجعية العليا حتى في المجتمعات الغربية الديمقراطية، فلا يمكن أن تسن البرلمانات هناك قوانين تخالف المرجعيات العليا. وفي حالة إقامة نظم ديمقراطية في دولنا العربية ذات الأغلبية السكانية المسلمة وربط هذه النظم بمرجعية مستمدة من الشريعة، فليس من المتصور أن تسن البرلمانات قوانين تبيح حراما أو تحل حراما. والمهم هنا هو وجود مؤسسات قضائية محايدة (كالمحكمة الدستورية العليا مثلا) تقوم بمهمة الفصل فيما إذا تجاوز البرلمان مبادئ المرجعية العليا أم لا.
أما القوانين المخالفة للإسلام التي سُنت في دول ذات أغلبية مسلمة كتونس وتركيا ومصر، فقد تمت في ظل نظم غير ديمقراطية، وغير مرتبطة، حقيقة، بالمرجعية الإسلامية. ومن ثم فلا يجب القياس عليها لرفض الديمقراطية وفكرة السيادة الشعبية.

طبيعة السلطة في العهدين النبوي والراشدي
وأخيرا تجدر الإشارة إلى أن الرسول، عليه الصلاة والسلام، لم يقم سلطة دينية كما أنشأ بعض اليهود سلطة للكهنة والأحبار أو كما أقام بعض المسيحيين الكنيسة وجعلوا لها سلطة أعلى من سلطة الملوك.
فكتب السيرة أوردت أن الرسول، عليه السلام، لم يفرض أي سيطرة سياسية على الممالك التي دعاها إلى الإسلام واستجابت له، فقد أرسل عليه السلام إلى أمير الغساسنة في دمشق الحارث بن شمر الغساني قائلا: "السلام على من اتبع الهدى وآمن به، أدعوك إلى أن تؤمن بالله وحده لا شريك له يبقى لك ملكك". وبعد أن أسلم جبلة بن الأيهم، وهو أحد ملوك الغساسنة، بقى ملكًا على قومه إلى أن ارتد في عهد عمر.
كما لم يورث الرسول، عليه السلام، مكانته الدينية أو السياسية لأحد، ولم يوصي بتعيين خليفة له كما كان يفعل زعماء القبائل والملوك، ولم يحدد للمسلمين أسلوبا لاختيار الحكام أو مؤسسات للشورى، لكن ما تركه الرسول، عليه السلام، في هذا الشأن أكبر شأنا وأعظم نفعا، وهو القيم الأساسية والمبادئ العليا التي أعلنها الإسلام والتي نص عليها القرآن الكريم والسنة الصحيحة، كالشورى والعدالة والمساواة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ومقاومة الجور والظلم. وترك الرسول، عليه السلام، لهم وللأمة الإسلامية حقا -وواجبا في الآن نفسه- قوامه استخدام العقل والاجتهاد في إقامة نظام الحكم والمؤسسات التي تناسب الزمان والمكان.
تجربة الخلفاء الراشدين هي الأخرى تجربة إنسانية، اجتهادية، مدنية، فعلى سبيل المثال يظهر تعامل الخلفاء الراشدين مع المال العام أن الحكم وظيفة مدنية وليس تفويضا دينيا، فهؤلاء الخلفاء اعتبروا أنفسهم موظفين عموميين، أمناء على مصلحة المسلمين. وقد أوردت كتب التاريخ الإسلامي محاورات ومناقشات حول اجتهاد أبي بكر وعمر وغيرهما من الصحابة في كيفية التصرف في المال العام، وحرص الخلفاء على العدالة في توزيعه على المسلمين. من ذلك أن أبا بكر ظل يشعر بالحرج من الراتب الذي يأخذه من مال المسلمين، حتى أنه طلب من أهله حساب ما أنفق من بيت المال وأوصى برده إلى خليفته من بعده. وكان عمر بن الخطاب يقترض من بيت المال إذا احتاج.
ويعلمنا اجتماع سقيفة بني ساعدة أن تجربة اختيار أول خليفة لرسول الله كانت تجربة إنسانية، عقلية، اجتهادية، وصل المسلمون إليها بعد اختلافات في وجهات النظر وصلت إلى حد اقتراح البعض تقسيم الأمر إلى سلطتين، وانتصر فيها المهاجرون بحججهم وعلى رأسها أن "الأمر لا يستقيم إلا لقريش"، وبترتيبات سياسية توافقية بلغة زماننا، "فنحن الأمراء وأنتم الوزراء، لا نفتات دونكم بمشورة ولا تنقضي دونكم الأمور" على حد قول الصديق.
لم يطبق الصحابة من المهاجرين والأنصار نصا دينيا في اختيارهم لأبي بكر، ولم يكن هناك هذا النص في الأساس. فلا القرآن ولا الرسول، عليه السلام، حدد لهم أمورا مثل: من يختار الخليفة: هل هم المهاجرون أم الأنصار؟ أم الاثنان معا؟ ومن له حق الترشح لهذا المنصب؟ أهو من المهاجرين أم الأنصار أم من قريش؟ وما الطريقة التي يتم بها الاختيار؟ وهل يجب الحصول على موافقة الأمة كلها؟ وقد فهم عمر وعثمان وعلي حق الأمة في انتخاب الحاكم.
والسلطة السياسية التي مارسها النبي والخلفاء الراشدون من بعده كانت تعاقدا مجتمعيا متجددا، قوامها قيام المسلم بالتدبر والعمل بشكل دائم وذلك بدلاً من التعاقد الاجتماعي الثابت القائم في الغرب والذي أفضى إلى هيمنة نخب معينة على مقاليد الأمور بشكل شبه دائم وعدم إمكانية تصور تغير النسق السياسي القائم.
فقد قامت الدولة في المدينة على أساس احترام دور الأمة، فلم تكن البيعة تفويضا مطلقا وإنما كانت تعاقدا يرتب حقوق والتزامات على الجانبين: التخلي عن الشرك وعبادة الله الواحد والالتزام بمبادئ الإسلام وقواعده وطاعة الرسول، عليه السلام، والالتزام بالقيم والأخلاقيات العامة التي نادى بها الإسلام، مقابل قيام الحاكم بوظائف الحكم في المجتمع الإسلامي وعلى رأسها وظيفة حماية الدين وقيمه وشريعته، وتدبير شؤون المسلمين والدفاع عن مصالحهم. ولم تكن طاعة الخلفاء مطلقة كما جرت العادة في عهود لاحقة، وإنما كانت مشروطة بأمرين: حدود القانون (القرآن والسنة الصحيحة)، ومصلحة الأمة.
وخلاصة القول إن السيادة الشعبية تتصل بتنظيم السلطة، أي بأمور دنيوية تتعلق باختيار الحكام وبطرق الحكم واتخاذ القرارات، وتنظيم السلطة أمور عقلية تختلف باختلاف المكان والزمان، ولا يمكن أبدا تجاوز منجزات العصر بشأنها ونحن بصدد وضع دساتير جديدة.
كما أن السلطة في الإسلام سلطة مدنية وليست دينية، فليس هناك عصمة أو قداسة لها أو للقائمين عليها، والناس العاديون هم الذين يشكلونها ويتولونها إذا ما اعتبروا أنهم يمتلكون مهارات القيادة والعمل العام، وتم اختيارهم عن طريق الأمة.

المصدر:الجزيرة


 

المقالات

تحقيقات

dailog-img
كيف تحوّلت مؤسسات صنعاء إلى “فقَّاسة صراع” الأجنحة داخل جماعة الحوثي؟ (تحقيق حصري)

حوّل خلاف موالين لجناحين (متشددين) متعارضين داخل جماعة الحوثي المسلحة “جلسة مقيّل” خاصة- بالعاصمة اليمنية صنعاء خلال عيد الأضحى المبارك- إلى توتر كاد يوصل إلى “اقتتال” في “مجلس” مليء بالأسلحة والقنابل ا مشاهدة المزيد

حوارات

dailog-img
وزير الدفاع يتحدث عن الحرب العسكرية ضد ميليشيا الحوثي ويكشف سر سقوط جبهة نهم والجوف ومحاولة اغتياله في تعز ولقائه بطارق صالح وتخادم الحوثيين والقاعدة وداعش

كشف وزير الدفاع الفريق ركن محسن محمد الداعري، ملف سقوط جبهتي نهم والجوف، بقبضة ميليشيا الحوثي، للمرة الأولى منذ تعيينه في منصبه. وأشاد الداعري، في حوار مع صحيفة "عكاظ" بالدعم بالدور المحوري والرئيسي الذي لعبته السعودية مشاهدة المزيد